رواية لمحت في شفتيها طيف مقبرتي -131
ناصِر دُون أن ينظر إليْها ربَط حزامه وهو مازال ينظُر، قريب جدًا منكِ، قريب يا غادة. شعَر بأنه سيُغمى عليه الآن، أفكاره تتهاوى من دماغه، كل الأشياء تبدُو رماديَة شاحِبة، لا أحد أعرفه، لا أحد يُريدني، أُريد فقط أن أتنفس بنقاء! هذا ما فوق الأحلام، منذُ فقدتِك وانا أعرف أن الهدُوء والراحة لن تهطُل مرةً ثانية ، كُنت أعرف أن عيناكِ هي الحل ومنذُ غيابها وأنا فقدتُ جميع حلولي للحياة، حاليًا أنا أحاول أن أتنفس، أن أعيش. يالله أخشى أنني لن أتحمل، لن تحملني أقدامِي، أخشى السقوط/الموت قبل أن أراك، أشعُر بأن شيئًا سيمنعني مِنك، حلمتُ بكِ كثيرًا ، حلمتُ أنني سأمُوت بلا دماء ، بلا مرض ، بلا شيء ، سأمُوت وأنا لم ألقاك، رأسي سينفجر من هذه الفكرة، لم يبقى بي صبر، فقدتُ كل ما يربُطني بالحُلم، بالهدُوء، فقدتُ كل شيء يجعلني إنسانًا مُستقيمًا. أريد أن أراك ولا شيء بعد ذلك.تصاعدت أنفاسه وكأنَ روحه تختنق بعينيْه، ينظرُ للرُكاب الذين بدأوا بالوقوف، نزع حزامه ليرتطم رأسه بالمقعد الأمامي والخالي بعد أن فُرغت الطائِرة إلا من القليل، ثبت جبهته في الكُرسي وأنفُه يواصِل النزيف، عيناه تحترق بالإحمرار وكأن نارًا تشتعلُ ولا تنطفىء، كُنت قويًا، كُنت!
أطلَّ المُضيف : المعذرة! هل أنت بخير ؟
يشعُر بالضباب يغشى عينيْه، أفقدُ النظر للأشياء بوضوح كما فقدتها أول مرَّة تلقيتُ بها خبر وفاتِك، كان البشتُ بيدِي سأرتدِيه عندما أصِل، كان على ذراعِي اليُمنى ولم ألبِسه أمامك، ولم أراكِ بفستانك الأبيض، يا حُزني الكبير بِك! أخشى أن أفقدك مرةً أخرى أو أفقدني قبل أن أراك.
المُضيف يضع يدِه على رأسه : سأجلب لك الـ ..
لم يُكمل من رأسه الذِي رُفع وعينه الشديدة الإحمرار، منظرُه أفزعه بشدَّة وهو يُنادي بقيَةُ الطاقم، الدماءُ لطَخت وجهه وهو يمسحها من كُلِ جانب، بدأ جبينهُ بالتعرق رُغم الجو البارد، أهذه سكرات الموت؟ لستُ أفهم تمامًا ما يحصل، سيُعيد الزمان فعلتهُ معي، مثلما فقدتُك سأفقدك مرةً أخرى! يا عذابي من يُنهيه؟ ليس هذا الحل، لا أُريد أن أموت قبل أن أرى عينيْك، مشتاق جدًا فوق ما تتصورين لكِ، كيف ينتهي عذابِي بقبر وأنا لم أراك! أستغفرُ الله من أن أسخط على القدر، أستغفرُ الله على شتات صبرِي وجزعي، أستغفر الله على حُبي الذِي يُريد أن ينهيني، أني أموت وأنا لم أجدِك، عُودي إليْ! أنا من أحببتك!
سقط بقوَّة بين المقعدين لينجرح رأسه الذِي أصطدم بالنافذة.
،
أستيقظت بتعرُقٍ شديد ، مسحت عينيْها لتنتبه لدمعها المُنهمر، تبلل وجهها وأختلط ماءُها المالح بماءِ مساماتها، نفسُها يضيق و غصاتٍ مُتراكمة تسدُ مجرى تنفُسها، نظرت لِمَ حولها، للغرفة الغريبةُ عنها، أتجهت للنافذة الزُجاجية والمطرُ يُبللها، تنظرُ لسماءِ باريس الباكيَة، تنزلُ أنظارها للطريق الذِي تقسُو عليه الأمطارُ بسقوطها الحاد، أتجهت للحمام لتُغسِل وجهها، بخطواتٍ سريعة أرتدت ملابسُها السابقة التي كانت مرمية على الأريكة، أخذت معطفها وحجابها لتخرج بخفُوت لممر الفندق قبل أن ينتبه لها وليد الذِي يسكُن بالغرفة المقابلة، نزلت بالدرَج وهي تفوِّتُ الدرجتين بدرجة، وطأت أقدامُها الرصيف المُبلل ، أحكمت شدّ معطفها وهي تسيرُ عليْها بإرتجافةِ شفتيْها من البرد الشديد، بكل محاولة للتنفس كان يخرجُ بخارٌ أبيض من بين شفتيْها، بدأت تهروِل مُتجهة للطريق ذاته، للمكان ذاته التي تعرفُه، صعدت للعمارة المُظلمة في ساعات الفجر المُتأخرة، طرقت باب شقتهم، طرقتها كثيرًا وهي تبكِي، همست من خلفه ببحة : عبدالعزيز ........ عزُوز ... هدييل ...
أوجعتها البحَة والبردُ يخطفُ منها صوتُها، أردفت ببكاءٍ عميق : ردُّوا! ..... ألتصق صدرُها بالباب وهي تطرق الباب حتى خانتها أقدامُها لتسحبها للأسفل، جلست على الرُخام البارد وعينيها تحمَّرُ بالدمع، تتذكرُ أصواتهم جيدًا، تشعُر أنها تسمعهم بوقعِ الأمطار، نبراتِهم الخافتة والصاخبة، كلماتهم اللامنتهية تطرقُ سمعها " تعرفين أنك أشين أخت !! لا جد جد أشتقت لك " " و حيّ الله غادة، تعالي يا قلبي تعالي جعلني ما أذوق حزنك وأنا حيّ " " غادة هنا!! أشتقنا لك " " غااادة تعالي شوفي " " أنتِ مستحيلة " " يا قاطعة ترى وحشتينا " " غاااااااااااااااااادة جُوتيم "
شدَّت على شفتِيْها المُرتجفتيْن، ضعت تمامًا، يالله يا شوقي لكم. " ماني بخير ! ردُّوا لي أحبابي اللي راحُوا "
سمعت بعضُ الأصوات في الأعلى، أضطرب قلبُها بالنبض لتركض نزولاً للطابق الأول، ضاعت عينيْها بطُرق باريس، صدرُها يهبط بشدَّة ويعلُو بمثل الشدَّة التي تشطرُها كثيرًا، يا حُزني الذي يصعبُ عليه أن ينجلِي! أتجهت ناحيَةُ الطريق الآخر، تنظرُ للنافِذة التي تتوسطُ الطابق الخامس، شقةُ ناصِر! ألتفتت للجهةِ الأخرى والمطرُ يختلط بدمعِها، في هذا الوقت لا أحد يسيرُ سوَى السُكارى والمُشردين، نظرت لشخصٍ يجلسُ على المقاعد، هذا عبدالعزيز! هذا هو! هذا شعرهُ القصير وملامِحه السمراء، هذا هو تمامًا، ليس حلمًا إنهُ " عزيز " . . أقتربت منه ليستنطق صوتها المبحوح : عزوز !
ألتفت عليها بنظراتٍ مُضطربة، عادت عدة خطوات للخلف، ليقترب منها، صرخت بفزَع وهي تضع كلتا يديْها على أذنها.
أبتعد عنها وهو يشتُمها بشتائِم كثيرة لا تفهمها، ركضت بكلُ ما أوتيت من قوة بإتجاه الفندق، كان نهايةُ الشارع الآخر الطويل جدًا، سعَلت والمرضُ يبدُو أنه في طريقه لجسدِها والمطرُ يُبللها من حجابها الذي تشرَّب المياه العذبَة إلى أقدامها، دخلت الفندق لتتجه نحو المصاعد الكهربائية، ما إن فتح المصعد على طابق غُرفتها حتى سارت بسُرعةٍ إليْه ودمعُها يسبقها، دخلت لترمي حجابها على الطاولة وتجلس على الأرض، لم تستوعبُ أقدامها بعَد! لم تستوعب أنهم رحلوا عنها! غطَت وجهُها بكفِّها لتنهار ببكائها، " ماتوا ؟ طيب أبغى أشوفهم! أبغى صورهم، أبغى شيء يصبِّرني على فراقهم ! ، مشتاقة لهم كثير، والله كثير ، بموت من شوقي لهم " وضعت رأسها على السجادةِ التي تُغطي الغرفة ودمعُها يعبرُ مُنتصف أنفها ويسقطُ على الأرض، بدأت تهذِي وهي مُغمضة العينيْن : يُبه، كيف يقولون لي لا تبكين .. لا تحزنين ! ما جربوا أنه يموت أبوهم ! يفقدون أبوهم! ... ما شفتِك آخر مرة .. رحت الرياض وتركتنا .. قلت بتقدِّم على التقاعد .. قلتها والله ورحت وماشفتك بعدها .... يقولي هالمجنون أنك متّ !! آآه يا يبه ... راح عُمرك بعيد عننا .. بعيد عنِّي والحين ما عاد أشوفك ... أبيك .. مشتاقة لك .... مشتاقة لأمي ... لعزيز ... لهديل ... مشتاقة لكم كلكم .... و أمي ؟ كانت تصحيني كل فجر .. بس هالفجر ماهي موجودة ... ماهي هنا .... ماهي موجودة عشان تصحيني .. صوتها غاب! .. وأنا أشتقت له يا يبه .. أشتقت له كثير ....... أشتقت لصوتها لما تقرأ قرآن .... لما تغني لنا أغانيها القديمة .... لما تطبخ لنا ... أنا مشتاقة لريحة طبخها!! ... وينهم يبه ؟ وينهم كلهم غابوا ! ... كلهم راحوا وأتركوني وأنا طيب ؟ مين يسأل عني .. مين يحضني ويخليني أبكي لين أقول بس! ... مين يا يبه ........... هُم ما يدرون وش يعني أنتم؟ ما يدرُون كيف الواحد يعيش بدُون أم؟ بدون أبو ؟ ... يبه محتاجتِك
تحشرج صوتها المخنوق وهي تُردد : محتاجتك ومحتاجة أمي ..... محتاجتكم كثييييير
،
فتحت عينيْها بتضايُق من النور، الساعة تُشير للسادسة صباحًا والمطرُ مازال يهطُل بشدَّة، نظرت إليْه وتوقعت أنه مشغول ببعض الأوراق لتدخل إلى الحمام وتستغرقُ بإستحمامها دقائِق طويلة، خرجت وهي تضع المنشفة فوق رأسها وتُنشف شعرها بها، نظرت إليه بشك : عبدالرحمن !!
الجالسُ على الأريكة ورأسُه بين يديْه، كان شديدًا عليه أن يتصوَّر بأن مقرن يخونه، يطعنهُ بظهره، أن يستغل إنحناءِ الحُب والعشرة بيننا ويركبُ فوقي، هذا أكثرُ ما كان يرمقُ إليْه بأنه " كذب، نكتة، مزحة " لا يُمكن أن تكون حقيقة، يالله! كيف أُصدق بأن هذه السنوات التي مضت مُجرد كذب! يستحيل على عقلي أن يُصدق بأنه خائن! هذا فوق الخيال، لِمَ الجميع يحاول أن يقتلني ببطء! لِمَ الحياة تُصيِّرني كـ مادةٍ تواصِلُ صهر نفسِها دُون أيّ سبب يُذكر. فعلاً لا عقل لديْ إن كان مقرن خائِن!
أقتربت منه لتجلس على الطاولة التي أمامه وتُحاصر رأسه بيديْها وهي تضع كفَّها اليُمنى على كفِّه اليسرى وكفَّها اليسرى على كفِّه اليمنى : فيك شي ؟
عبدالرحمن يرفعُ عينه الخائبة، حزين جدًا ويا شدةُ حُزنِ الرجال الصابرين الكتُومين، يا شدة حُزن من لا يعرفُ كيف يُفضفض عن حزنه. نظراتِه كانت كفيلة بأن تُعانقه ضيْ، لا تتحمل نظرةُ الحزن في عينِه، لا تتحمَل أبدًا أن تراه ذابل وشاحب بهذه الصورة، ودَّت لو تمتص كل حزنِه وتجعله في صدرها ولا يحزن أبدًا، قلبُه لا يستحق كل هذا الضيق، تُعانقه بشدَّة وكأنها تُريد أن تدخل به، تشعرُ به، والله أشعرُ بك وبحُزنِك، أشعرُ بإضطراب نبضاتِ قلبك المسكين، لم ترتاح أبدًا! حياتك لم تهدأ وهي تهطلُ بالبكاء فقط. ليتني أستطيعُ فعل شيء لك، أن أجعلك تبتسم ولا تهتم لأحد، اوَّد فقط أن تهتم لنفسك الذي أصبحت تفقدها يومًا عن يوم بإهمالك لها، أنت لا تعرف بأنك حين تهملُ نفسك يعني أنك تهمُلني معك.
يُتبع
،
يفتحُ عينيه على السقف الأبيض، مزاجُه مضطرب تمامًا وخطُوطِ جبينه المُجعَّدة تثبتُ ماهو أكثر من ذلك، لم ينظُر إليْها وهو يُبعد الفراش ليتجه نحو الحمَام، أستغرق ساعةً كاملة وهو يغتسل/يستحِم. خرج والمنشفة تلفُ خصره، مسح وجهُه وهو يضغط على عينيْه من صُداعٍ فتَك رأسه، أرتدى لبسهُ العسكرِي ليخرج من جهةِ الدواليب ناحية التسريحة، مازالت عيناه لا تنطق، لا تنظُر، لا تلتفت.
ينظرُ لنفسه بالمرآة بجمُود مُريب، وضع سلاحه على جانبِ خصره ليجلس على الأريكة ويرتدِي حذاءه الأسود الثقيل، أرتدى ساعته ذات الجلد الأسوَد وأدخل محفظته وهاتفه في جيبه، أتجه نحو الباب ليقف مثل ما وقف أمس خارجه، شدّ على شفتِه ليُنزل مقبض الباب ويخرج بخطواتٍ سريعة غاضبة، لم يُسيطر على نفسه وهو يُغلق باب المنزل بعصبيَة، ركَب سيارتِه مُتجهًا للعمل والشمسُ بدأت تشرق متأخرًا والشتاءُ يقترب من الرياض، مرَّت عشرُون دقيقة حتى ركَن سيارته بمكانها المخصص في عمله، دخَل والموظفُون مازالُوا يأتُون، لم ينظرُ لعينِ أحد كان يسير بثبات نحو مكتبه وهو يُثير الشك والخوف معًا في نفسِ كل شخصٍ يراه خشيةً أن أمرًا حصل بالعمل أو قصورًا منهم، أغلق الباب خلفه وهو يرمي سلاحه على طاولة مكتبه ويجلس، يشعرُ بصدره الذي يهبط ويعلو بفارقٍ هائل، شدّ على قبضةِ يدِه ليضربها على الطاولة من غضبه الهائل الذِي يشعرُ به، نظر لظاهرِ يدِه التي تألمت كثيرًا ، يُريد أن يرمِي نفسهُ من أعلى طابق حتى ترتاح نفسه، لم أكن أول رجلاً في حياتِها، لم أكُن أبدًا !
يدخل أحمد بعد طرقه للباب وهو يضع بعض الملفات على مكتبه : تآمر على شي طال عُمرك ؟
لم يُجيبه بشيء و عينِ سلطان مازالت على المكتب، خرَج أحمد بهدُوء وفي داخله ألف علامة إستفهام!
في قلبِه كان يشتُم كل الأشياء التي عرقلت حياته " الله يلعنـ ... أستغفر الله " ... خرج مُتجهًا لدورة المياه، نزع حذاءه ليتوضأ، وفي داخله قهرٌ عظيم، يشعرُ بأنه يحملُ في داخله ثقلُ مئاتٍ من الرجال المقهورين، يشعرُ بأن قلبه يفيضُ بالقهر وبشدَّة " ، أتجه ناحية مكتبه، فرشَ السجادة ليُصلِي ركعتيْن علَّها تُريح صدره. كان يعرف أنها ليست بالبكر وتأكد من ذلك ولم يكُن ينتظر أن يجِدها بغير هذه الصورة ولكن شعَر كأنها بِكر، لوهلة شعَر أنها أنثاه وحده، 7 سنوات !! يالله أرِحني فقط من هذا الحُزن.
في جهةٍ أخرى تدفنُ رأسها في الوسادة، تغرقُ ببكائها الثقيلُ على نفسها، يعلُو صوت بكائها بمُجرد ما تتذكرُ الليلة الماضيَة، هو رجُلها الأول، هو حياتها، هو كل شيء لكن .. لا يُحبني بقدر ما أحبه، لا يُريدني بقدر ما أريده، يحاول أن ينساني، يحاول أن يبتعد عني، يحاول بكل ماأتاه الله من قوة أن ينتقم مني، يا هذه القسوة التي لا أعرفُ كيف تتغلغل به بهذه الشدة ؟ بلعت غصاتها المُتراكمة وهي تشدُ المفرش الصغير من الأرض وتلفُه حول جسدِها مُتجهة للحمام، تماما مثلما أستغرق بإستحمامه أستغرقت ساعة وأكثر، أختلطت دمُوعها بالماء وهي تنسى نفسها وتغرق بحُزنها وتفكيرها، خرجت لترتدِي بيجاما بأكمامٍ طويلة، تشعرُ بأن أطرافها ترتعش من البرد، أتجهت نحو التسريحة ورائحة عطره تخترقُها، عقدت حاجبيْها وهي تأخذُ الإستشوار لتُنشف شعرها، أطالت وقوفها أمام المرآة حتى شعرت بلسعةِ الحرارة في فروةِ رأسها ، أبعدت الإستشوار وأغلقته، نظرت لشحُوبِ ملامحها، لشفتيْها الصفراوتيْن، لعينيْها المُحمرتيْن، لأنفها .. الذِي بدأ ينزف، شعرت بطعمِ الدماء وهي تعبرُ شفتيْها، أخذت منديلا ورفعت رأسها للأعلى حتى توقف النزيف الذي لا يُفزعهًا أبدًا، هو يواسيها فقط.
ربطت شعرها لتنحني وهي تُلملم ملابِسه وملابسها وترميها في السلة التي تنزوي بجانب الدولاب، طوت الفراش جانبًا لتسحب المفرش وتطويه بين يديْها وتنزل به للأسفل، لم يستيقظ أحد إلى الآن، أتجهت نحو غُرفة الغسيل لترميه في سلة الغسيل وتصعد مرةً أخرى للطابق الثالث حيثُ المخزن، بدأت تبحث عن مفرشٍ آخر، فتحت الدولاب العريض الذِي تُخزَّن به المفارش والوسائِد، أخذت ذو اللون العنابِي ونزلت به لغُرفتهما، كانت تمُر الدقائِق وهي تُرتب بالغرفة، تُفرغ حُزنها بحركتها المُستمرة وبإنشغالها المتواصل، أتجهت نحو النوافِذ لتفتحهُما وهواءُ الرياض يُلاعب الستائِر الخفيفة، فرشَت سجادتِها وصَلت ركعتيْن. لا تدرِي بأنها تفعل مثلما يفعل هو، كيفما تُفرغ غضبها هو يُفرغه أيضًا.
أطالت سجُودها ليتحشرجُ صوتها المردد " سبحان ربي الأعلى " وغرق بالدمع المالح، يالله أني أسألُك بوجهِك الكريم الجنَة و كل ما يُقربني إليها فأني أفلستُ من هذه الدنيا وما عاد بها شيءٌ يهمُني إلا أن ترضى عليّ وتُرزقني درجاتِك العليا في يومِك الموعود.
،
يُصحيه وهو يُقطِر الماء بين أصابعه : أصحى دبلت كبدِي وش هالنوم الثقيل!!!
فارِس بتثاقل : الله يرحم لي والدِيك يا يبه أتركني أنام بدون لا تزعجني
رائِد : قم عندنا شغل
فارس بضجر : وانا وش دخلني في شغلك
رائِد : دخلك اللي يدخَّل ... " بتَر كلماته التي كانت ستنحدِر لمستوى الجُمل الشوارعيَة " أستغفر الله لا تجنني على هالصبح
فارس وقف مُتجهًا للحمام : طيب هذاني صحيت .. ياليل الشقا بس
رائد أتجه نحو الصالة : هذا هو صحى، المهم عرفت شغلك كويِّس
محمد : مثل ماتبي حفظته حفظ
رائد : وكلمت ربعك! أبيهم يمدحون فيه عشان يصدِق
محمد : أبد كل أمورنا طيبة
رائِد بإبتسامة : الحمدلله
مضَت الدقائِق الطويلة حتى خرَج لهُم فارس بلبسِه الأنيق، يأخذُ من والِده كل شيء حتى ذوقه الرفيع في الملابس، جلس وهو يجهل من أمامه.
رائِد بضحكة ساخرة : هذا أبوك ..
فارس لم يتمالك نفسه ليضحك مع والِده : تشرفنا
محمد بإبتسامة : الشرف لنا
رائِد بنبرة السخرية : والله هذي اللي ما حسبنا حسابها مافيه شبه بينكم .. قله أنك طالع على أمك الله يرحمها
فارس : هههه طيب شي ثاني ؟
رائِد : أنت يا مشعل يا حبيبي دارس في لندن معك دكتوراه علوم سياسية، والآن دكتور في الجامعة، عندِك أعمال حُرة ودخل ثاني غير الجامعة، أمك ميتة ، إذا أسألك عن أحد عندك خيارين يا تقول ميِّت يا تقول مهاجرين ماشفتهم من يومي صغير *أردف كلمته الأخيرة بضحكة*
أكمل : أسست نفسك وكوَّنت حالك بينما أبوك طايح حظه يشتغل في البنك الإسلامي بباريس ...
فارس : شي ثاني ؟
رائِد : لا ترتبك و رزّ ظهرك، أصابعك لا تتشابك ولا تنحني بظهرك، عيونك خلها في عيون عبدالرحمن، كلماتك خلها قصيرة وواثقة.. عشان ما يشك ولا يعرف أنك كذاب، حاول تبيِّن له أنك صادق .. يالله خلنا نسوي بروفة وأنا عبدالرحمن .... وقف وأتجه بمُقابل أبنه .. تكلم .. وش تشتغل يا مشعل ؟
فارس بصوتٍ متزن : دكتور متخرج بتخصص علوم سياسية وعندي أعمال حُرَّة ثانية أدريها
رائِد : كم عُمرك ؟
فارس : 29
رائِد : وين ناوي تستقر ؟
فارس : إن شاء الله الرياض
رائد : لآ الرياض أنساها، بتستقر في لندن الله يسلمك
فارس : صدق يبه ؟
رائد : هههه إيه والله، بعد ما تتزوجها أبيك تروح لندن فترة لين أضبط وضعي
فارس : وش بيكون وضعك ؟
رائد : عاد هذا مو شغلك
أكمل وهو يحاول أن يتذكر شيئًا : وش بعد راح يسألك ؟ ماأتوقع بيسألك شي ثاني ... المهم أنك حضرت نفسك ... طبعًا محمد خذا لك موعد راح تلتقي فيه بصالة الفندق الخاصة ومعك أبوك الوسيم
محمد الذِي لا يبدُو جميلاً كثيرًا ضحك لرائد : مخلين الوسامة لك
رائِد شاركَهُ الضحك وهو الذِي يُشبه ملامحه إبنه بشدَّة : بعد عُمري محمد لا يحز في خاطرك أهم شي جمال الروح
فارس : طيب متى ؟
رائِد : الحين الساعة 10 الصبح .. الساعة 2 أنت عنده . . طبعًا هو مايدري أنك بتخطب يعني محمد ما قاله
فارس تنهَّد : طيب يا يبه أجل بطلع أتمشى
رائِد : تتمشى وين ؟
فارس وقف : ماراح أبعد، قريب من عندِك ...
،
مُجتمعين في الصالَة، تبدُو أحاديثهم حميمية صاخبة بالضحك، هيفاء وهي تشرب قهوتها : وعد أني بس أفضى بعطيكم محاضرة بالجمال
منصور : أنا قلت لك رايي! شكلك معفن بالتان!! ماهو حلو .. يعني وش أسوي غصب أقول حلو
هيفاء فتحت فمَها وهي تنظُر لكلماته الجارحة المُندفعة ، أردفت بإنفعال : لآ والله أنه حلو ويجيب العافية عليّ بس أنتم والله وش يعرفكم بالزين والذوق ..
يوسف : أنا والله ممكن أتقبله بعد يومين كذا لما أتعوَّد لكن مبدئيًا يختي مدري أحسِّك وصخة
هيفاء : الله يآخذ إحساسك قل آمين .... اليوم أكلم البنات في سكايب أنهبلوا عليّ يخي أنا يوم أشوف نفسي بالمرآية أقول ليتني أتزوج نفسي من كثر ماهو يجننن وأنتم أكلوا هوا من زينكم يوم تتكلمون عن الزين
منصور : هههههه ههههههه عاد وش يسكتها الحين .. خلاص أنتِ حلوة أنتِ مزيونة أنتِ تجننين .. أرتاحي بس
هيفاء : ترفعون الضغط ! أنت شايف ولدك الأشهب يوم تتكلم ..
يوسف : أيوا ههههههه هذا اللي طول الوقت تمدحينه أطلعي على حقيقتك
منصور : والله ولدِي مزيُون بس من الغيرة تتكلمين
هيفاء : على وش أغار يا حظي ! على عينه ولا خشمه
يوسف : هههههه ما تسوى عليك يا منصور فتحت عليك باب ما يتسكَر
هيفاء بإنفعال : إيه عاد لا تحارشوني عشان ما أحارشكم
دخلت والدتهم : عندي لكم خبر شين وحلو !
ألتفتوا جميعًا ليُردف منصور : وش الحلو ؟
والدتهم : خالتكم أم أرام بتجي السعودية بس الخبر الشين أنها بتجلس بجدة يومين وترجع
يوسف بسخرية : أجل وشهو له تقولين ؟ بس والله مشتاق لأرام كانت مسوية جو في بيتنا أول ماجت
أرام المولودة الصغيرة التِي قضَت معنا عدةِ شهور نهاية السنة الماضيَة بسبب مرض إبنةِ عم أمي التي بمقام الخالة لنا حتى أعتدنا عليها وأصبحت فردًا من عائلتنا التي كانت تشكِي الوحشَة، ولكن بمجيء السنَة الجديدة رحلت مع والدتها لميُونخ حيثُ تتعالج هُناك مع زوجها من الورمِ الذِي ينزوي في رأسها. يالله يا أرام كانت ملاك لهذا البيت.
منصور : هي كيفها الحين ؟
والدته : لآ الحمدلله تقول أنها أحسن وللحين من عملية لعملية الله يشافيها يارب
منصور : آمين، والله زمان عنهم ..
جلست والدتِه لتنظُر لهيفاء بحسرة : يا حسافة البياض
هيفاء : ههههه يمه كل الشعراء في العالم يتغزلون بالسمرا
والدته : الله يآخذهم واحد واحد يوم أنك تصبغين نفسك كذا .. بس أنا أوريك... والله يا هيفا لو تسوين بشكلك شي بدون لا تشاوريني لا أقطع رآسك
هيفاء تنهَّدت : طيب خلاص ماني مسوية شي ..
تُكمل بحلطمة : في هالعايلة لا تخلوني أسافر مع أخوي ولا تخلوني أقص شعري ولا تخلوني أروح إستراحة مع صديقاتي ولا تخلوني أعيش حياتي .. يخي الواحد تعب طفش ملّ !!
منصور : هذا اللي ناقص نحجز لك إستراحة أنتِ وصديقاتك بعد!!
هيفاء : إيه وش فيها! كل البنات الحين يجتمعون في إستراحات وش تفرق يعني! الإستراحة نفس البيوت ! هذا أنتم ماتقولون شي لو أسيِّر على صديقتي في بيتها لكن تصير كارثة لو أقول بإستراحة
يوسف : الإستراحة غير
هيفاء : وش فيها غير! نفسها نفس البيت
يوسف : لآ يا حبيبتي الإستراحة تخرِّب عاد لاتقولين شلون تخرِّب ! هي تخرِّب وبس
هيفاء بتذمُر : أستغفر الله العظيم وأتوب إليه .. متى أتزوج وأفتك . . *أردفت كلمتها الأخيرة بعفويَة دُون أن تعني فيصل*
يوسف بضحكة : لاحقة على فيصل
هيفاء أحمَّر وجهها لتحاول التبرير : وش دخل فيصل! أنت ودِّك كذا تحارشني .. ماأقول الا مالت عليك ومالت على اللي يجلس معك .... وخرجتْ.
والدته : بكرا بيجي فيصل مع أعمامه إن شاء الله
منصور : الله يكتب لهم اللي فيه الخير
والدته : آمين يارب
،
تفطُر دُون أن تنظر إليْه، تحاول أن تُمثل البرود والجمُود أمامه، تتجاهلُ أصغر تفاصيله المُستفزة لقلبها المُتأرجح بين حُبه وكُرهه، تكرهه يوم و تُحبه أيام، تنجذبُ إليْه لحظات وتنفرُ منه بلحظة، مُتذبذبة علاقتِي معه ومُتذبذب قلبي إتجاهه، بعد يومينْ ستعُود لأرضِ الوطن، كانت تتأملُ الشيء الكبير منه وخابت كل توقعاتها، ليتنِي لم أتوقع شيء، ليتني بقيْت هكذا دُون توقعات حتى أتفادى الخيبة التي أنغرزت بأعماقي، مخذولة من كل شيء، أشعرُ بأن حياتي تنحدِر في بدايتها، كيف أبقى بجانب عائلته وأنا أعيشُ هذا الصراع، أحتاج أن أذهب إلى الرياض ولا غيرها ولكن كيف أقنعه؟ كيف أناقشه حتى!
وضعت الكوب على الطاولة لتنظُر له وهو غارق في هاتفه، يقرأُ شيءٌ ما، رفع عينه : خلصتِي ؟
ريم هزت رأسُها بالإيجاب وهي تأخذُ منديلاً وتمسحُ شفتيْها الزهريتيْن، أخذت مُعقم من شنطتها وعقمت يديْها، أخرجت هاتفها ولكن سرعان ما أعادته، أعرفُ مقدار غضبه حين أمسك بهاتفِي بينما نحنُ نسير على الطُرق. أخذت نفسًا عميقًا لا تعرف ماذا تفعل أو بما تُفكر حتى تحل هذه العقد والألغاز التي تواجه حياتها معه. بالأمس سهَرت على إحدى المنتديات ، قسم " المشاكل الزوجية " شعَرت بأن مُشكلتها بسيطة مقارنةً بما قرأت، ألتفتت عليه وهي تقطعُ الطريق معه : وين بنروح ؟
ريان بهدُوء : اللي تبين
ريم بفكرةٍ لاذعة طرأت عليها بعد أن أفلست منه تمامًا : طيب بروح أتسوق
ريَّان دُون أن ينظر إليْها : طيب .. أوقف سيارة الأجرة ودخلاَ.
،
جلست على حافةِ السرير بجانبِ بطنه لتُقبل جبينه وتُردف بصوتٍ خافت : بعد عُمري والله ، كل هذا يصير معك وأنا ماأدري
عبدالعزيزلم يُعلق وأكتفى بإبتسامة.
أثير : وجوالك وينه ؟
عبدالعزيز : أنكسر .. بشتري جديد بس أطلع
أثير : ولا تتعب نفسك أنا بشتري لك وماأبغى إعتراض .. بس أنت أطلع بالسلامة
عبدالعزيز : الليلة راح أطلع إن شاء الله
أثير : كويس الحمدلله .. لو تدري وش صار فيني .. بغى قلبي يوقف من خوفي عليك
عبدالعزيز : بسم الله على قلبك ...
أثير بإبتسامة : طيب أنا بروح أحضِّر لك الشقة وأرتبها لك و بس تطلع أتصل علي من تليفون الغرفة
عبدالعزيز : طيب
أثير : تآمر على شي أجيبه لك ؟
عبدالعزيز : لا ..
أثير : أجل أشوفك على خير حبيبي .... وخرجت لتلتقط عينها عبير وضي الواقفتيْن أمام غُرفة رتيل، أشمئزت لتتجه نحوهما : صباح الخير
ضي : صباح النور
عبير تجاهلتها تماما ولا كأن كائنًا يتحدث لتنشغل بهاتفها
أثير : سلامتها ماتشوف شر
ضي بإغاضة : الشر ما يجيك يا قلبي ، الحمدلله أنها جت على كذا ماتسوى عليهم هالرُوحة لروَان ، بغوا يتمشون ويغيرون جو لكن قدر الله وماشاء فعل
أثير عقدت حاجبيْها : روَان ؟
ضي بإبتسامة واسعة : إيه كانوا في روَان، زوج وزوجته وش الغريب في الموضوع ؟
أثير تراجعت بخطواتها للخلف لتدخل بغضب لغُرفة عبدالعزيز.
عبير : ههههههه ولَّعت
ضي بضحكة : مع أني ماأحب هالأسلوب بس هي تستاهل تحاول تقهر رتيل وهذا هي أنقهرت.
عبير : حسيتها جايَّة تتشمت بس تغدينا فيها قبل لا تتعشى فينا
على بُعدِ خطوات : ليه ما قلت ليْ ؟ مستحيل تكون رحت معها روَان كذا فجأة أكيد مخطط وياها من زمان وأنا أحترق عليك بالإتصالات ولا ترد عليّ
عبدالعزيز : مين قالك هالكلام ؟
أثير بغضب : ماهو مهم مين قالي! أبغى أعرف ليه ما تكون صريح معي! دامك رحت وياها مفروض تحط عندي خبر!! ماأظن هالشي صعب عليك
عبدالعزيز : أثير ماني فاضي لهالكلام.. لو سمحتِ
أثير : ومتى تفضى إن شاء الله ؟ لين ست الحسن والدلال تشرِّف عندك
عبدالعزيز بنظرةٍ حادة : أثير!! لا تخلين النفس تشين عليك
أثير بإنفعال : بس شاطر تلحق وراها لكن أنا ولا أهمك ...
عبدالعزيز : صوتِك لا يعلى عشان ما يجيك كف يعلمك كيف تحكين معي
ضربت بقدمها على أرض لتخرج بخطواتٍ مُشتعلة.
في غُرفةِ رتيل، مُجتمعات حولها.
رتيل : وش قالت ؟
ضي : ما ردَّت وراحت لغرفة عبدالعزيز .. ماعليك منها بس
عبير : لو تشوفينها كيف ولَّعت .. ضي عطتها بالجبهة
رتيل : ههههههه تستاهل هالمدلعة
عبير : قولي لنا وش صار معكم ؟
رتيل تنهَّدت وهي تسترجع اللحظات الأخيرة لهُما قبل الحادث لتحكِيها لهُم.
دخلاَ في الطريق الرئيسي الذِي تُجرى عليه الإصلاحات، كان الشارعُ ليس مستوي مما جعل السيارة تهتز في كل مسافةٍ نقطعُها، كانت الأدوات الإنشائية مرمية على كُل جانب ، شعَرت بأنَّ أنفاسها تضيق وهي تنظرُ لنهاية هذا الشارع بشاحِنة خاويَة ، أغمضت عينيْها بشدَّة لا تُريد أن ترى شيئًا بينما عبدالعزيز يحاول أن يلتف بالسيارة جانبًا ولكن لا مجال أبدًا بالشارع الضيق جدًا من كُل جانب، حين سمعت صوت تكسير عبدالعزيز للزُجاج الأمامي أدركت أن الموت قريب منهم لا مُحالة، شعَرت بضياع الكلمات والأدعيَة التي تُريدها حتى تحفظها بهذه اللحظات المُرتبكة، ثوانِي فقط كانت تفصُلها عن إرتطام رأسها الشديد بالجُزء الأمامي من السيارة والباب الذي كان مفتوحًا بسبب إصرار عبدالعزيز بأن تقفز منه بينما كنت مُصرَّة على الرفض، سقطت على التُراب الخارجي بعد أن فلَت حزامُ الأمان وأوجَع بطنها حتى شعَرت بالغثيان لا مجال للرؤيَة والدماءُ تهطل كالمطر، نظرت للتُراب الذِي بات طينًا بالدم، رفعت عينها التي يُغمى عليها تدريجيًا لترى عبدالعزيز الساقط على النافِذة الأخرى ورأسهُ ينزف، هذا آخرُ شيءٍ رأته.
يُتبع,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك