بداية

رواية عندما تنحني الجبال -2

رواية عندما تنحني الجبال - غرام

رواية عندما تنحني الجبال -2

لم تكن تريده أن يعرف التفاصيل الدقيقة لظروفهم الصعبة .. نهضت قائلة :- علي العودة إلى البيت قبل حلول الظلام
نهض بدوره قائلا :- وأنا لدي موعد بعد نصف ساعة
قالت مداعبة :- أهو موعد غرامي ؟
منحها ابتسامة باهتة وهو يقول :- لم أسقط إلى ذلك الدرك بعد
غادرا مبنى الكلية .. ثم انفصلا عند بوابة الجامعة كالعادة .. كانت نانسي تواظب على الدوام منذ 3 أسابيع .. دون أن تلاحظ أي تغيير في ردة فعل الطلاب .. ما زالت الأنظار تتجه إليها أينما سارت .. وما زالت التعليقات تلاحقها باستمرار .. والكل يتحاشاها ويرفض الاحتكاك بها .. لقد نسوا تلك الأيام التي كانوا يسعون فيها راكضين خلف رضاها
سارت كالعادة مشيا إلى البيت .. فقد أدركت بأنها يحب أت تنسى رفاهية التنقل بسيارات الاجرة اقتصادا في المصروف
كان الظلام قد بدأ يهبط عندما شعرت بأن هناك من يمشي قريبا منها .. وسرعان ما أدركت بأنه كان يتبعها .. أسرعت في المشي وقد انتابها إحساس كبير بالخوف والتوتر عندما سمعت صوت الخطوات يتسارع هو الآخر .. فكرت بعصبية .. إنها تتوهم .. لا أحد يطاردها .. مجرد شخص يسير إلى جوارها وسيتجاوزها حالا.. هي ليست خائفة .. إن تجرأ احد ما على مهاجمتها فستغرز أظافرها في عينيه .. شهقت عندما ظهر شبح ما امامها من أحد الشوارع الجانبية .. واعترض طريقها متعمدا .. توقفت مرغمة .. فتوقفت الخطوات التي كانت تلاحقها بدورها .. قالت بتوتر :- من أنت ؟ وماذا تريد ؟
سمعت ضحكة شريرة أثارت الرجفة في جسدها .. ثم صوت مألوف يقول :- إن الإجابة على سؤال ماذا أريد يا فتاتي .. يطول شرحه
تراجعت خطوة إلى الوراء وهي تهتف بتوتر :- من انت ؟
تمكنت من خلال ضوء النهار الذي بدأ يتلاشى من تبين ملامحه عندما اقترب .. لقد كان جابر
استدارت لتجد الشاب الثاني الذي كان معه ذلك النهار الذي صفعته فيه على مرأى من جميع الطلاب .. أدركت من البريق في عينيهما بانهما ينويان بها شرا .. تراجعت بعيدا عنهما وهي تقول :- ما الذي تريدانه مني ؟
قال جابر وهو يقترب منها :- دين قديم لي عليك يا عزيزتي .. أود استرداده الآن
كانت خائفة .. حقا خائفة .. حاولت إخفاء خوفها بالتظاهر بالشجاعة وهي تقول :- لا ديون لك علي يا جابر .. لقد أخطأت بحقي فرددتها لك .. نحن متساويان
قال بغضب :- لا يا ابنة القصور المدللة .. لسنا متساويان
استدارت محاولة أن تركض بعيدا .. إلا انه لحق بها .. أمسك بخصرها بقوة بين ذراعيه فصرخت بذعر .. ولكنه قال شامتا :- لن يسمعك أحد .. انا أراقبك منذ أيام .. و يا لحظي السعيد ..إن الطريق الذي تسلكينه عادة يكاد يكون مهجورا .. وحتى إن لم يكن فسكانه من الأثرياء أمثالك الذين لا يهتمون إن حدثت كارثة إلى جوار منازلهم الفخمة
قاومته بشراسة وهي تقول :- إياك أن تتجرأ على لمسي أيها القذر الوسخ .. إني أحذرك من مغبة ما تفعله
ضحك عاليا وهو يقول ساخرا :- من سيحاسبني يا أميرتي .. لقد انهارت مملكتك ولن تجدي من يسمع شكواك .. بل ستجدين الكل يشكرني على تلقين صاحبة السمو درسا في التواضع .. أعيدي علي ما قلته .. أنا أخطأت بحقك فرددتها لي .. وكيف فعلت هذا بالضبط ؟
لم تفكر قبل أن تصرخ به كالمجنونة :- صفعتك على وجهك .. وقد كان هذه أكثر بكثير مما تستحق إذ لوثت يدي بملمس وجهك العفن
اشعلت كلماتها غضبه الوحشي وهو يقول بحقد :- تعنين هكذا
هوى بيده على وجهها بصفعة قوية دفعتها لتسقط على الأرض بعنف وقد سالت الدماء من شفتيها .. رفعت عينيها إليه وقد اعترتها رجفة خوف حقيقية عندما أطل عليها قائلا :- هناك أمران لطالما رغبت بفعلهما طوال السنوات الثلاث الماضية
صرخت بألم عندما شعرت بقدمه تغوص بمعدتها .. فتلوت حول نفسها محاولة درأ نفسها من ضرباته .. ولكنه لم يسمح لها بالابتعاد .. جذبها من شعرها وصفعها مجددا بكل ما يحمله نحوها من حقد .. دارت الدنيا حولها وتشوشت رؤيتها .. فكرت وهي تذرف دموع الذل والألم بانه ليس الوحيد الذي يكن لها كل هذه الكراهية .. ربما جميع من تعرف .. لم يتوقف جابر لحظة واحدة عن إفراغ غضبه في جسدها الضعيف الذي فقد كل قدرته على المقاومة .. أخذ يصرخ بها دون أن يتوقف عن ضربها :- منذ ثلاث سنوات .. دخلت إلى الكلية .. ونظرت إلى الجميع وكأنهم حشرات .. ليس لهم الحق في استنشاق نفس الهواء الذي تستنشقينه .. الكل كان يعرف من أنت وابنة من .. أحدهم لم يجرؤ يوما على مواجهة غرورك وبطشك .. كل من يقف في طريقك تكون نهايته إما الطرد من الجامعة .. أو النبذ من جميع الطلاب .. الكل كلن يسعى خلف رضاك .. خلف ابتسامة منك .. والآن .. أنت لا شيء على الإطلاق ..والدك الذي كنت تحتمين وراءه مات حقيرا في سجن قذر .. نعم .. لقد كان لصا وضيعا كسب ثروته من أموال الناس .. أما آن الوقت لتعرفي قيمتك الحقيقية ؟ .. إنه لشرف عظيم أن أقوم أنا بهذه المهمة .. أن أجعلك تدركين أي حثالة أصبحت
سالت دموعها بغزارة .. لم تتخيل يوما أنها ستتعرض لهذا النوع من الذل والإهانة .. ما آلمها أكثر هو أن كل ما كان يقوله كان صحيحا .. ألهذا استحقت حقد زملاءها جميعا ؟ .. أ لأنها كانت دائما تعاملهم وكأنهم خلقوا أقل مرتبة منها ؟ ..
ولكنها لم تقصد هذا .. لقد عاشت دائما بهذه الطريقة دون أن يوجه لها أحدهم انتقادا .. إنها لا تستحق كل هذه المذلة ..
انكمشت وهي تهمس :- لم أقصد هذا .. أقسم بأنني لم أقصد هذا
لم يسمعها جابر .. فقد خاطبه زميله متوترا :- أسرع يا جابر .. ماذا إن رآنا أحد ؟
قال بخشونة :- لم يبدأ الجزء الممتع بعد يا جميل
اقترب منها مجددا وهو يسحبها إليه ويقول :- أما الشيء الثاني الذي لطالما رغبت بفعله .. هو هذا
مزق قميصها بحركة حادة .. إلا أنها لم تستطع أن تقم بأي حركة مقاومة .. فقد أصيب جسدها بما يشبه الشلل .. وبدأ وعيها يتسرب منها ببطء دون أن تتوقف دموعها للحظة وهي تشعر بأنفاسه الكريهة تلفح وجهها وهو يقول :- لو تعلمين ما الذي كان رؤيتك تفعله بي وأنت تسيرين بهذا الجسد الجميل بين أروقة الكلية .. لقد رغبت بك منذ رأيتك أول مرة .. ووعدت نفسي بأنك ستكونين لي ..ههه .. هل تعلمين بما كان الطلاب يلقبونك ؟.. بالفتاة المحرمة .. كان هذا اللقب ما يزيد رغبتي بك .. ويسعدني أن أنتزعه منك ما أن ....
لم تكن تعي ما يقوله .. كانت تسمع صوته بعيدا وهي تعجز حتى عن رؤيته من خلال عينيها اللتين أغشتهما الدموع .. ولكنها سمعت صديقه يصرخ بشيء ما .. ثم توالت الأصوات المختلفة .. ضجيج وصراخ .. لم تع إلا بأن الهدوء قد عم المكان فجأة .. وساد الصمت من حولها
كان الجو باردا للغاية .. فأخذت ترتعش بضعف وخوف .. وعندما أحست بيدين تمسكان بها .. شهقت بذعر ووجدت القوة لتصرخ :- اتركني .. لا تلمسني
سمعت صوتا غريبا يقول لها بدفء :- اهدئي .. ستكونين بخير
النبرة المهدئة في صوته فعلت فعلها .. إلا أنها همست بصوت مرتعش :- لا تؤذني .. أرجوك لا تؤذني
ضمتها ذراعان إلى صدر قوي جعل الدفء يسري في أوصالها المتجمدة .. سمعت الصوت يقول من جديد :- لا تخافي .. لن أسمح لأحد بأن يؤذيك بعد الآن .. أعدك بأنك ستكونين بأمان
كان آخر ما تذكرته قبل أن تغيب تماما عن الوعي .. هو أنها حقا أحست بالأمان


الفصل الرابع



الهروب


فتحت نانسي عينيها وهي تشهق بعنف.. أسرعت امها إليها وهي تصيح بلهفة :- كيف تشعرين الىن يا حبيبتي ؟
خاطبت لينا :- اذهبي وأحضري الطبيب
للحظات .. وقبل ان تستوعب ما حولها .. تمنت لو أنها قد استيقظت لتوها من كابوس مريع .. إلا أ، الألم الشديد الذي شعرت به في كل جزء من جسدها جعلها تدرك بأن ما حدث لم يكن حلما .. لقد كان واقعا .. واقعا مرا ...دخل طبيب شاب ذو بسرة سمراء وعوينات دقيقة .. ابتسم وهو يخاطبها قائلا :- كيف حال مريضتنا الحسناء ؟
نظرت حولها إلى الغرفة البيضاء التي تشغلها .. وعرفت بأنها ترقد في أحد المستشفيات الباهظة التكاليف من رفاهية الغرفة الواسعة .. حاولت أن تنهض .. إلا أن ألما شديدا منعها .. قام الطبيب بفحصها وهو يقول :- ما من داع للقلق .. سينتهي الألم مع مرور الوقت .. والرضوض ستختفي دون أن تترك أثرا
رضوض ؟؟ تحسست وجهها بقلق بينما سألته والدتها :- متى تستطيع ابنتي مغادرة المستشفى ؟
:- من الأفضل أن تبقى تحت الملاحظة هذه الليلة .. لن تخسرن أي شيء وقد دفعت تكاليف إقامتها في الغرفة مسبقا
قالت الأم :- هل أستطيع البقاء معها الليلة ؟
صاحت نانسي بتوتر :- من الذي دفع التكاليف ؟
كانت تعرف مسبقا بأن أمها لا تمتلك ما يكفي من السيولة لتغطية تكاليف مكان باهظ كهذا .. تنحنح الطبيب قائلا :- سأعود بعد فترة لأطمئن عليك يا آنسة
غادر الغرفة فرفعت نانسي يدها بصعوبة لتمسك بيد أمها وهي تسألها بإصرار :- من أين لك بالمال يا أمي ؟ هل بعت شيئا من مجوهراتك مجددا ؟
ردت أمها بحيرة :- لا يا نانسي .. لقد اتصلوا بي يخبرونني بوجودك هنا .. فهرعت أنا ولينا إلى المستشفى كالمجانين .. لم أفكر بالتكاليف حتى نقلوك إلى غرفة خاصة فأخبروني بأنها قد دفعت من قبل شخص غريب لم يترك اسما
اقتربت منها أمها وربتت على شعرها بحنان وهي تقول :- لقد كدت أموت عندما رأيتك ممددة على السرير .. شاحبة للغاية والكدمات تغطيك .. انتابني إحساس بأنني كدت أفقدك لولا أن لطف الله وبعث من ينقذك .. ما الذي حدث يا نانسي ؟ أخبريني
نظرت نانسي إلى لينا التي كانت تقف جانبا وهي تكبت دموعها ومشاعرها .. فسالت دموعها وهي تتذكر المذلة التي شعرت بها أثناء تعرضها لاعتداء جابر الوحشي عليها .. سألت بخفوت :- من الذي أحضرني إلى هنا ؟ هل قابلته ؟
:- لا .. لقد أخبرني الممرضة بأن رجلا أحضرك إلى هنا وشرح بأن اثنين قد هاجماك .. وأصر على أن يراك الطبيب ثم غادر دون أن يذكر اسمه
ثم سألتها بقلق :- أيمكن أن يكون أحد الشابين الذين هاجماك ؟
هزت نانسي رأسها قائلة :- لا .. لقد كانا اثنين من الحاقدين .. هاجماني عارفين من أكون
سالت دموعها وهي تقول :- لقد أرادا إذلالي بأبشع طريقة يا أمي .. لولا وصول الرجل الذي أنقذني .. لا أعرف ما كلن ليحصل
أخذت تبكي بحرقة لم تعرفها إلا يوم وفاة والدها .. مما دفع لينا للبكاء بدورها وهي تضمها .. أما أمها فقد مسحت دموعها وهي تقول :- لقد سألنا الطبيب إن كنا نرغب في إبلاغ السلطات بالحادث .. وتقديم أي شكوى .. ما رأيك يا نانسي؟
تمتمت نانسي :- لا يا أمي .. لا نريد المزيد من الفضائح .. على كل حال أنا لم أعرف أي من الشابين
كذبت على أمها حتى تنهي قلقها وتفكيرها بالأمر .. تمتمت أمها بألم :- آه لو تعرف يا سلمان ما يحدث لبناتك بسببك
همست نانسي :- أمي .. أما زلت تودين الانتقال إلى منزل الشاطئ ؟؟؟
عندها .. سالت دموع أمها بغزارة .. إذ أدركت بأن ابنتها القوية قد اقتنعت أخيرا بضرورة الهرب
الهرب بعيدا


الفصل الخامس

حياة جديدة
انتهت نانسي من توضيب ملابسها داخل الدولاب الخشبي القديم واستدارت نحو لينا التي جلست على سريرها تحاول توضيب أغراضها هي الأخرى دون نجاح فابتسمت قائلة :- دعيني أساعدك يا لينا
قالت لينا وهي تحاول طوي أحد قمصانها وهي التي لم تضطر يوما للقيام بأي عمل منزلي :- لا .. أستطيع القيام بهذا وحدي
نظرت إليها نانسي بحنان وهي تنهض .. إلا أنها سرعان ما تأوهت عندما عاد الألم في بعض عضلات جسدها والذي لم يختفي بعد رغم مرور أسبوع على الحادث
تأملت الغرفة الصغيرة التي تضمها هي وأختها .. كانت متواضعة للغاية .. مكونة من سريرين صغيرين .. منضدة زينة صغيرة .. ودولاب خشبي .. لقد انتقلت مع عائلتها إلى هنا منذ يومين فقط ..إلى منزل الشاطئ الخاص بخالها .. والواقع في منطقة امتلأت بالمنازل المتشابهة المرصوفة على الشاطئ الرملي .. والتي تقع على بعد كيلو مترين من مدينة ساحلية صغيرة تعتبر أحد معالم السياحة في فصل الصيف ..
أما في هذا الوقت من السنة .. حيث انتصف فصل الشتاء وانخفضت درجة الحرارة عن الحد المحتمل بكثير .. فقد كانت المنطقة خالية تماما .. المنازل المجاورة كانت مهجورة وكأن الأشباح قد احتلتها .. اعتماد العائلة في التدفئة كان معتمدا على المدفأة الكهربائية التي بالكاد كان تبث شيئا من الدفء حولها رغم صغر مساحة المكان
الشقة كانت مكونة من غرفتي نوم احتلت الأم الرئيسية منهما .. وغرفة جلوس بسيطة مكونة من أريكتين قديمتين ومنضدة صغيرة للطعام .. حنان كانت تحتل هذه الغرفة أثناء الليل رغم إصرار السيدة مريم على أن تشاركها غرفتها المكونة هي الأخرى من سريرين ..
دخلت نانسي إلى المطبخ المتواضع حيث وجدت حنان تقوم بعملية تنظيف دقيقة.. ضحكت قائلة :- على مهلك يا حنان .. ستتعبين نفسك بهذا الشكل
مسحت حنان العرق عن جبينها .. ثم تابعت التنظيف قائلة :- لم يستعمل أحد هذا المكان منذ فترة طويلة .. أقل ما يمكننا فعله هو تنظيف المطبخ جيدا كي نتمكن من الطبخ فيه
هزت نانسي كتفيها يائسة من إقناع حنان بالتروي .. فهي تعرف هوسها الشبه مرضي بالنظافة .. خرجت من المطبخ إلى غرفة الجلوس حيث اقتربت من النافذة .. وتاملت المشهد الساحر للبحر الهائج الأمواج .. ومن بعيد كانت الجبال مكسوة تماما بالثلوج .. تساءلت إن كانت ستبقى هنا حتى حلول الصيف .. وإن كانت سترى هذا المشهد مكسوا بالخضرة
استدارت بحدة عندما سمعت صوت تأوه أمها .. التي كانت تقف عند باب غرفتها ممسكة برأسها :-أمي .. هل انت بخير ؟
ردت عليها أمها وهي تبتسم بشحوب :- أنا بخير .. إنه ذلك الصداع مجددا .. ربما بسبب تغير المكان ... سأدخل لأنام قليلا عله يهدأ قليلا
لم يبد على نانسي الاقتناع بتظاهر امها بالعافية وهي ترى شحوب وجهها .. سألتها أمها قبل أن تدخل إلى غرفتها :- متى ستذهبين إلى المدينة ؟
:- صباح الغد .. سأشترى ما ينقصنا من مستلزمات البيت .. ثم أبدأ بالبحث عن وظيفة
قالت أمها بقلق :- لن تجدي وظيفة لائقة في مكان كهذا .. نحن لسنا في حاجة إلى عملك الآن يا نانسي
قالت نانسي بعناد :- سنحتاج إليه عاجلا ام آجلا .. ومن الأفضل لي أن أعتاد على العمل
وبالفعل .. مع بزوغ شمس الصباح التالي .. قطعت نانسي المسافة التي تفصلها عن المدينة سيرا على الأقدام .. كان الطريق طويلا للغاية .. مما جعلها تصاب بالإرهاق الشديد .. وبالعرق يتسرب منها رغم درجة الحرارة المنخفضة .. كانت قد ارتدت ملابس أنيقة إنما دافئة كي تعطي انطباعا جيدا لدى الناس .. وعندما وصلت .. كانت على وشك الإغماء من فرط التعب ..
المدينة كانت في أوج نشاطها رغم الوقت المبكر .. فالمتاجر الصغيرة كانت قد فتحت أبوابها وكانها كانت تعمل طوال الليل ... ولكن نانسي كانت تعرف بان السكان هنا يتركون اعمالهم ويعودون إلى بيوتهم فور غياب الشمس .. ثم ينهضون عند الفجر لمزاولة اعمالهم من جديد
كانت المدينة جميلة ببيوتها الصغيرة ذات السقوف المصنوعة من القرميد الاحمر .. والحدائق التي تعرت أشجارها .. وخلت تماما من العشاق الذين اعتادوا ارتيادها .. كان هناك الكثير من المطاعم والمنتزهات التي تمتلئ بالسياح صيفا .. انتشرت متاجر بسيطة للثياب والادوات المنزلية .. والتحف والهدايا .. كان اول انطباع لديها هو انها احبت المكان .. وتمنت لو لم يكن منزل الشاطئ بعيدا إلى هذا الحد .. لاستمتعت امها كثيرا في قضاء الوقت بين جوانب هذه المدينة المرحبة
في نهاية اليوم .. عادت نانسي إلى البيت قبل حلول الظلام دون ان تحصل على مرادها .. وكذلك في الأيام الثلاثة التي تبعتها .. كانت تشتكي من الامر لوالدتها بينما هم يتناولون طعام العشاء في إحدى الامسيات .. هتفت :- ما إن أدخل إلى أي مكان طالبة وظيفة حتى ينظر الجميع إلي وكأنني أحمل مرضا معديا
قال امها بحيرة :- أيكون السبب هو انك لم تحصلي على شهادتك الجامعية بعد أم افتقارك إلى الخبرة ؟
دخلت حنان وهي تضع إبريق الشاي على المائدة قائلة :- المياه تتسرب من أسفل مغسلة المطبخ .. هناك مشكلة ولكنني لا أستطيع معالجتها فلا خبرة لي بالسباكة
جلست معهن حيث اعتادت على مشاركتهن الطعام كفرد من العائلة منذ انتقالهن .. ردت نانسي على سؤال امها :- كيف يكون السبب عدم حصولي على الشهادة إن كانت الوظائف التي وجدتها أساسا لا تحتاج إلى شهادة جامعية ؟
سألتها امها بحذر :- ما هي الوظائف التي وجدتها بالضبط ؟
هتفت نانسي وهي تعد على أصابعها :- بائعة في متجر للملابس .. عاملة في مشغل للخياطة .. موظفة في مكتب عقاري ..
ساد صمت طويل في الغرفة .. فقد كان الكل يفكر بصعوبة تخيل نانسي تقوم بأحد هذه الأعمال .. قالت أمها بصوت مبحوح :- ربما لا تمتلكين الخبرة اللازمة لوظائف كهذه .. فأنت لم تعملي يوما
قالت نانسي بإصرار :- أسنطيع ان أتعلم .. عدم خبرتي لن يكون عائقا
تمتمت حنان بخفوت وكأنها تكلم نفسها :- بالتأكيد ليست هذه هي أسباب رفضهم لتوظيفك
التفتت نانسي إليها بحدة وهي تقول :- ماذا تعنين ؟
قالت حنان وهي تهز كتفيها :- طبعا لن يقبل أي كان توظيف شابة تبدو وكأنها قد خرجت من إحدى مجلات الأزياء
عبست نانسي محاولة استيعاب كلمات حنان التي أوضحت :- عندما تذهبين إلى القرية بأناقتك المعهودة .. فإن أي شخص يستطيع بمجرد النظر إليك حتى من بعيد .. أن يدرك بأنك ابنة نعمة .. فتاة ثرية كان أكثر ما فعلته في حياتها صعوبة هو تقطيع شريحة اللحم بالشوكة والسكين
ابتلعت نانسي الإهانة .. وفكرت قائلة :- كيف لم أفكر بهذا من قبل ؟
صباح اليوم التالي شهد تغييرا جذريا في مظهر نانسي .. فقد تخلت عن ملابسها الأنيقة الباهظة الثمن .. وعن تسريحة شعرها التي تجعلها تبدو وكأنها خارجة من عند المزين .. وارتدت سروالا ضيقا من الجينز الباهت اللون .. وكنكزة بيضاء برقبة عالية .. ارتدت فوقها معطفا عاديا أخضر اللون .. ورفعت شعرها على شكل ذيل حصان .. وتخلت عن زينة وجهها تماما .. ابتسمت حنان وهي تخرج برفقتها قائلة :- هكذا أفضل .. لقد بذلت كل جهدك .. إلا أنك لن تستطيعي أبدا أن تمحي الرقي من ملامحك .. أو نظرة الكبرياء عن عينيك
قالت نانسي بخشونة :- هذا كل ما لدي
هذا الصباح رافقتها حنان كي تحضر أغراضا للبيت .. وفي الطريق قالت نانسي :- حنان .. أطلب منك الاهتمام بوالدتي .. فهي لا تبدو لي بخير
وافقتها حنان قائلة :- دائما متعبة وتعاني من الصداع .. لا تقلقي يا نانسي .. تعلمين بأنني سأهتم بها كما لو كانت أمي
ذلك المساء .. عادت نانسي إلى البيت مسرورة .. دخلت وهي تصيح :- فليسجل التاريخ أن نانسي راشد قد حصلت على أول وظائفها
صاحت لينا بلهفة :- حقا .. وماهي ؟
تنحنحت وهي تنظر إلى الوجوه المترقبة قائلة بحرج :- هل تعدن بألا تضحكن ؟
ثم قالت :- عاملة في مخبز للحلوى
انفجرت لينا وحنان ضاحكتين بينما اشتعلت هي غضبا قائلة :- لقد وعدتن بألا تضحكن .. بما أنني تعبت كثيرا في البحث عن وظيفة .. فقد قبلت بأول عمل أتيح لي
قالت أمها بضيق :- لقد سبق وـخبرتك يا نانسي .. لسنا بحاجة إلى عملك في الوقت الحالي .. لست مضطرة لشغل أعمال كهذه
عادت نانسي تقول بعناد :- لقد سبق وأخبرتك يا أمي بأن هذه اللحظة ستأتي عاجلا أم آجلا .. ولتكن آجلا كي أعتاد على مشقة العمل
تنهدت أمها قائلة باستسلام :- احكي لنا عن عملك الجديد إذن
جلست إلى جوار أمها وهي تقول :- إنه مخبز صغير تديره امرأة مسنة .. تقوم بصنع الخبز والكعك والفطائر وبعض أصناف الحلوى .. وتحتاج إلى فتيات شابات للعمل لديها
سألتها أمها بحدة :- أنت لا تعرفين شيئا عن الخبز .. ما الذي ستفعلينه هناك ؟
قالت نانسي بعناد :- سأتعلم
في تلك الليلة .. عندما خلد الجميع إلى النوم .. تسللت حنان إلى غرفة نانسي بينما كانت على وشك الاستغراق في النوم .. سألتها بقلق :- ما الأمر يا حنان ؟
اقتربت حنان قائلة :- نانسي .. أرغب بمرافقتك صباح الغد إلى القرية للبحث عن عمل أنا الأخرى .. أنا فرد من العائلة الآن .. ولا يمكن أن أبقى مكتوفة اليدين وأنا أراك تركضين بحثا عن عمل
قالت نانسي بهدوء :- أشكرك على نبل أخلاقك يا حنان .. ولكنني أحتاج إليك هنا .. فأمي متعبة .. ولينا صغيرة .. وانا لا أثق إلا بك في العناية بهما في غيابي
كان كلامها مقنعا .. فلم تستطع حنان الاعتراض ..
في صباح اليوم التالي بدأت نانسي عملها في المخبز .. لم يكن بالعمل السهل .. ولكنه كان ممتعا أن تتعرف إلى نوع جديد من الحياة .. صاحبة العمل كانت امرأة في الخمسينات .. ممتلئة الجسم وعصبية المزاج .. كانت تقضي الوقت في الصراخ على الفتيات كي يقمن بعمل متقن .. أما الفتيات فقد كن 3 غير نانسي .. قرويات متفاوتات في العمر .. وكان من الواضح أن صاحبة العمل .. كانت تفضل تشغيل الصغيرات في السن ليسهل عليها التحكم فيهن .. في ذلك الصباح .. كانت الحصة الأكبر من الصراخ والتوبيخ من نصيب نانسي .. التي لم تكن تعرف أي شيء عن العمل .. ولكن سرعان ما بدأت تتعلم .. وقد كساها الطحين من رأسها حتى أخمص قدميها
في نهاية اليوم .. خرجت منهكة ومصدومة من الفرق الشديد في درجة الحرارة بين داخل المخبز وخارجه ... لفت عنقها بالشال السميك .. وغطت رأسها بالقلنسوة الصوفية الحمراء .. وضمت معطفها إليها .. واستقلت الحافلة التي تتوقف في طريقها عند المنعطف المؤدي إلى منزل الشاطئ ..حيث أكملت طريقها سيرا على الأقدام
عندما دخلت إلى البيت كانت مرهقة تماما .. إلا أن الحماس أنساها التعب .. وأخذت تحكي لأمها أحداث يومها الأول في العمل محاولة إقناعها بحسن اختيارها للوظيفة .. ثم قامت تحضر العشاء مع حنان حيث أحضرت معها بعض الخبز الطازج من المخبز
وما أن أنهت عشاءها حتى جرت قدميها جرا نحو السرير .. وغابت في نوم عميق
هكذا كان حالها طوال الأيام الأولى .. بدأت تحب عملها .. وتستمتع بالتحول الغريب لمكونات بسيطة إلى مخبوزات شهية الطعم والرائحة .. بل أنها أخذت تجرب صنع بعض أنواع الفطائر في البيت تحت عيني حنان المذهولتين .. كان الوقت الذي تقضيه مع عائلتها ينقص باستمرار .. حتى أنها في كثير من الأحيان كانت تذهب إلى فراشها مباشرة دون انتظار للعشاء
ذات مساء لاحظت بينما هي تسير نحو البيت سيارة فضية حديثة الطراز متوقفة أمام أحد المنازل المجاورة .. أثار الأمر فضولها لعدم إمكانية وجود مجنون آخر يفكر بالإقامة في مكان كهذا في الشتاء .. وعندما دخلت إلى البيت كانت حنان تعد العشاء .. والدتها كانت تطرز قطعة من القماش بينما جلست لينا على الأرض إلى جوار المدفأة تمارس هوايتها في الرسم
ألقت التحية ثم اتجهت نحو المطبخ .. كانت حنان تقطع الخضار عندما رفعت رأسها قائلة ببشاشة :- مساء الخير يا نانسي .. هل أحضرت معك الخبز ؟
قالت نانسي :- بالطبع .. أخبريني يا نانسي .. هل هناك ساكن جديد في المنطقة ؟.. لقد رأيت سيارة فضية تقف قريبا من هنا
أشرق وجه حنان وهي تقول :- آه .. ألم تعرفي بعد ؟ السيارة ...
لم تكمل عبارتها عندما سمعتا صوت لينا تناديهما .. ركضتا بسرعة لتجدا الألم ممسكة برأسها بألم شديد وتغمض عينيها بقوة .. أسرعت نانسي تصيح بذعر :- أمي .. ما الذي حدث ؟
تمتمت أمها بصعوبة قائلة :- لا تهتمي .. ليس بالأمر المهم
صاحت نانسي بحدة :- كيف تقولين هذا ؟ أنت تتألمين كثيرا ويجب أن يراك الطبيب
هتفت أمها بإعياء :- لقد خف الألم قليلا .. سآخذ دواءا للصداع وأخلد إلى النوم باكرا .. وفي الصباح سأكون بخير
ساعدتها حنان على دخول غرفتها .. بينما كان القلق يعصف بنانسي .. وعندما لاحظت الخوف الظاهر على لينا قالت تطمئنها :- لا تخافي يا لينا .. أمنا ستكون بخير
سألتها لينا باضطراب :- لماذا لا نأخذها إلى الطبيب ؟
:- إن لم تتحسن .. سنأخذها إلى الطبيب
خرجت حنان وهي تقول :- لقد نامت
جلست نانسي على الأريكة قائلة بقلق :- إن وضعها يقلقني .. كيف سأذهب إلى العمل وأتركها بهذه الحالة .. ماذا إن حدث لها شيء في غيابي ؟
قالت حنان بشقة :- لا تقلقي يا نانسي .. إنشاء الله لن يصيبها مكروه .. سأتصل بهاتفك المحمول عند حدوث أي طارئ وإن اضطررت .. فبإمكان جارنا أن يساعدنا
نظرت إليها نانسي قائلة بحذر :- جارنا ؟
:- إنه صاحب السيارة الفضية التي سألتني عنها .. وهو يقيم على بعد منزلين منذ أيام
صاحت نانسي وقد فارت الدماء في عروقها :- لماذا لن يخبرني أحدكم بأن هناك من سكن إلى جوارنا ؟ هل أنا آخر من يعلم أي شيء في هذا المكان ؟
قالت حنان :- نحن لا نراك يا نانسي .. فأنت تعودين كل مساء مرهقة تماما .. فتنامين فورا
نهضت نانسي وأخذت تجول في الغرفة وهي تقول بعصبية :- ماذا إن كان هذا الجار سيئا ؟
أسرعت لينا تقول :- إنه شخص لطيف يا نانسي .. يلقي التحية علينا كل صباح ويسألنا غن احتجنا أي شيء
أكملت حنان :- لقد أصلح مغسلة المطبخ .. وأوقف تسرب المياه .. إنه شخص طيب ويمكن الاعتماد عليه
كان الارهاق قد أخذ نانسي بقوة إذ بدأت بدورها تحس بالصداع .. تمتمت :- سنتحدث في هذا الشأن فيما بعد .. أنا بحاجة إلى نوم عميق
سألتها حنان بقلق :- ألن تشاركينا العشاء ؟
هزت رأسها قائلة :- لست جائعة .. تأكدي فقط بأن لينا قد أكلت جيدا .. تصبحون على خير
وما أن وضعت رأسها فوق وسادتها .. حتى تلاشت مخاوفها .. وغابت في نوم عميق

الفصل السادس

جاري الغامض
بالكاد كانت نانسي قادرة على الوقوف أثناء عجنها العجين .. بينما كانت صاحبة المخبز تصرخ بها بين الحين كلما ضبطتها مغمضة لعينيها وكأنها تسترق لحظات من الراحة خلال نهار العمل المتعب .. رفعت ذراعها لتمسح العرق الغزير عن جبينها بكم قميصها .. ثم عادت تكمل عملها .. غادرت في نهاية النهار متشوقة للعودة إلى البيت والتمدد في فراشها الدافئ .. داخل الباص .. استسلمت لإرهاقها الشديد .. وأغمضت عينيها في غفوة قصيرة .. انتهت عندما نبهها السائق إلى وصولها إلى وجهتها اليومية
ترجلت من الباص .. وسارت نحو البيت وهي تشعر وكأنها تسبح شبه واعية .. شعرت بأن الطريق يزداد طولا وأنها لن تصل أبدا إلى البيت .. وعندما وصلت أخيرا .. ترنحت وهي تتشبث ببوابة المنزل .. وخلال لحظات كانت قد تهاوت على الأرض فاقدة للوعي .. وللإحساس بما حولها تماما


عندما فتحت نانسي عينيها أحست بالبرد الشديد .. وبجسدها يرتعش بقوة رغم البطانيات التي غطتها من عنقها حتى أخمص قدميها .. الألم كان شديدا في حلقها حتى كانت تجد صعوبة في بلع ريقها .. سمعت صوت أمها تقول :- افتحي فمك يا عزيزتي
رفعتها ذراع دافئة كي تتمكن من فتح فمها وتلقي الدواء المر .. ثم همست بضعف :- ما الذي حدث ؟
قالت أمها بحنان :- لقد أصبت بالأنفلونزا يا حبيبتي .. وسرعان ما ستشفين .. لقد وصف لك الطبيب بعض الأدوية ونصح ببقائك في الفراش دافئة حتى تتحسني
تمتمت :- وماذا عن العمل ؟
صاحت أمها بغضب :- ألا تفكرين إلا بالعمل ؟ فكري بنفسك .. لقد قال الطبيب بأن سبب مرضك هو إرهاقك لنفسك وانتقالك المتكرر من جو شديد الحرارة إلى آخر شديد البرودة دون أن تدفئي نفسك جيدا .. أنت حتى لا تأكلين كما يجب من فرط الإرهاق
كانت هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها أمها في هذه الحالة من الغضب .. بعد دقائق أحضرت حنان لها شرابا دافئا وساعدتها على احتسائه وهي تقول فور مغادرة أمها :- الحمد لله أن جارنا كان موجودا
تمتمت نانسي :- جارنا ؟
:- جارنا الجديد .. لقد أخبرتك عنه من قبل .. لقد وجدك فاقدة الوعي في الخارج فأدخلك وأحضر لك الطبيب ثم ذهب لإحضار الأدوية بنفسه .. إنه شاب ممتاز للغاية
شعرت نانسي بالغيظ للطريقة المحرجة التي قابلها فيها الجار الجديد لأول مرة .. سألتها :- ما الذي يفعله هذا الجار في مكان نائي كهذه ؟.. هل هو من سكان المدينة ؟
:- لا .. لقد جاء في إجازة .. وسيبقى لأسابيع قادمة .. وقد استأجر أحد البيوت المجاورة لقضاء وقت هادئ ومنعزل عن الناس .. إنه شاب وسيم للغاية وأعزب
غمزت بعينها لنانسي التي قالت ساخرة :- أي أنه سيشكل زوجا جيدا لك بعد السنوات التي قضيتها مع نبيل
عبست حنان قائلة :- لا يمكنك أبدا مقارنته بنبيل .. كما أنه لن ينظر إلي أنا على الإطلاق .. بل إلى فتاة توازيه رقة ورقيا .. مثلك أنت ..
لهجتها جعلت نانسي تقول بإعياء :- توقفي عن مدحه أمامي .. عندما أفكر بالزواج أو الإيقاع برجل ما .. سأطلب منك النصيحة .. أما الآن .. فكل ما أريده هو أن أنام
استغرق شفاء نانسي بضعة أيام .. وكان اول ما فعلته فور شفائها هو أن ذهبت إلى المدينة لتتابع عملها رغم اعتراض والدتها .. وهناك .. كانت المفاجأة في انتظارها عندما وجدت فتاة اخرى تعمل مكانها .. صرحت صاحبة العمل بأنها لن تنتظرها حتى تتكرم وتعاود العمل عندما يطيب لها ذلك .. دفعت لها ما يحق لها من المال وأدارت لها ظهرها .. وعندما أرادت الخروج لحقت بها إحدى الفتيات قائلة :- لم ترغب السيدة بطردك .. إلا أن رجلا جاء ومنحها مبلغا كبيرا من المال مقابل أن توظف غيرك
عقدت نانسي حاجبيها قائلة :- من يكون هذا الرجل ؟
:- لا أعرفه .. قد يكون من طرف الفتاة الأخرى
عادت نانسي إلى البيت غاضبة .. ألقت المال على المائدة وهي تصيح :- أي فوضى هذه ؟ ما ان أغيب عن العمل لأيام بسبب المرض حتى يوظفون غيري
قالت أمها بهدوء :- في جميع الأحوال .. لم تكن هذه الوظيفة مناسبة لك
صاحت نانسي قائلة بغضب :- وماهي الوظيفة المناسبة في مدينة صغيرة كهذه ؟ هل عرضت علي وظيفة رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات ورفضت ؟
قالت أمها بعناد :- لا بد أن تجدي وظيفة أفضل
جلست نانسي وهي تلتقط أنفاسها محاولة استعادة هدوئها فأكملت أمها :- على الأقل وظيفة أقل إرهاقا .. هذه المرة فقدت وعيك أمام البيت .. ماذا لو كنت قد سقطت في مكان بعيد دون أن يشعر بك أحد ؟.. لو لم يفكر جارنا بالمرور بنا مساءا للاطمئنان علينا حيث وجدك على الأرض لبقيت مكانك حتى يكتشفك أحد .. يجب أن تذهبي إليه وتشكريه فقد تعب كثيرا بسببك
شعرت نانسي بالضيق لفكرة أنها تدين لأحد بشيء ما .. تمتمت :- سأذهب لأشكره ما إن أتأكد من وجوده
أسرعت لينا تقول وهي تطل برأسها من النافذة :- سيارته موجودة
كتمت نانسي غيظها وهي تخرج للقاء الجار الغامض الذي أنقذ حياتها كما تحب أمها أن تقول .. سارت الأمتار الفاصلة بين بيتهم وبيته ..ومرت إلى جانب السيارة الفارهة والجديدة ..ثم قرعت جرس الباب عدة مرات دون أن تتلقى أي رد..
لم تعد فورا إلى البيت .. بل سارت عبر طريق جانبي نحو الشاطئ .. حيث اعتادت أن تهرب إليه كلما أحست بالانزعاج .. وقفت فوق الرمال الرطبة تنظر إلى البحر الهائج بسبب الهواء العاصف .. وضمت معطها إليها لتقي نفسها من برودة الجو وهي تفكر بما عليها فعله صباح الغد من بحث عن عمل جديد .. كانت الشمس قد أتمت الرابعة مساءا .. والشمس كانت تسير نحو مخدعها ببطء .. أجفلت عندما سمعت صوتا رجوليا يقول بهدوء :- الجو بارد للغاية هنا
استدارت بسرعة .. فاتسعت عيناها بشدة وهي تنظر إلى محدثها الذي أكمل :- وقد يؤذيك هذا نسبة إلى شفائك القريب من مرضك
عقد لسانها .. ولم تعرف ما تقول .. وبصعوبة خرج اسمه من بين شفتيها بصوت مختنق :- دكتور محمود
كان الدكتور محمود فاضل يقف أمامها كما عرفته دائما .. بثقة وكبرياء وحزم .. إلا أنه لم يكن يرتدي بذلته الثمينة الداكنة هذه المرة .. بل سروالا أسود وقميصا رماديا أسفل كنزة داكنة صوفية .. ثم معطف أسود طويل من الصوف الثقيل الغالي الثمن .. وقد أحاط عنقه بوشاح صوفي رمادي اللون .. حتى الآن .. لم يتخلى عن هيبته التي لطالما تمتع بها بالرغم من كونه أصغر أستاذ في الكلية
كانت تطل من عينيه نظرة متفحصة .. شملت كل جزء من ملامحها المصدومة ..وجسدها الذي أخذ يرتعش تحت المعطف السميك الذي ترتديه .. قال بهدوء :- كيف تشعرين الآن ؟
لم تستطع التفكير بسؤاله .. إذ سألته مذهولة :- أنت هو الجار الجديد
رد عليها دون أن يبتسم :- تبدين كمن تلقى لتوه خبر احتضاره .. أتزعجك رؤيتي إلى هذا الحد ؟
هزت كتفيها متظاهرة باللا مبالاة وهي تقول :- لماذا قد تزعجني رؤيتك ؟ المشاكل التي كانت بيننا لم تعد
مهمة بعد تركي للجامعة .. وأنت فعليا لم تعد أستاذي
عقد حاجبيه بشدة وهو يكرر :- تركت الجامعة .. أي قول سخيف هذا ؟.. ما هو تبريرك لقرارك الطفولي هذا ؟
قالت بغيظ :- لست مضطرة لتقديم أي تبريرات لك .. أو لأي شخص آخر
لم يرد عليها .. بل ضيق عينيه وهو ينظر إليها بإمعان وكأنه يحاول قراءة أفكارها .. بينما كان الغضب والانفعال يملآن نفسها بسبب معاملته لها وكأنها ماتزال طالبة لديه .. تساءلت عن سبب وجوده هنا .. من بين جميع الناس .. يتواجد هو هنا في هذا المكان .. دون غيره من الأماكن .. ترجمت أفكارها على شكل سؤال :- لم ينتهي الفصل الدراسي بعد يا دكتور محمود .. فما الذي تفعله هنا في هذا المكان بالذات
لوى فمه وهو يقول ساخرا :- من المؤكد بأنني لم آت إلى هنا لاحقا بك
تورد وجهها وقد أدركت بأنه قد قرأ أفكارها .. ولماذا قد يلحق بها شخص يكرهها كما تكرهه ؟ .. كما أن اكتشافه لمكان وجودها من المستحيلات إذ لا أحد على الإطلاق يعرف بهذا المكان .. حتى ماهر .. بل هي لم تتحدث إلى ماهر إطلاقا بعد حادث الاعتداء الذي تعرضت له بل سافرت على الفور حتى تنسى كل ما يذكرها بما حدث
قال بهدوء :- أنا في إجازة .. فالأساتذة بشر أيضا كما تعلمين .. ويحتاجون إلى فترة يبتعدون فيها عن أجواء العمل .. وعندما جئت إلى هذا المكان الذي سمعت بهدوئه وخلوته في هذا الوقت من السنة .. لم أتوقع أن أصادفك هنا .. هاربة من أعين الناس حتى قابلت والدتك .. وعرفت منها من تكون
صاحت بحدة :- أنا لست هاربة
قال بقسوة :- لماذا تختبئين هنا كالفئران بعيدا عن الناس إذن .. بل بعيدا عن أقرب أصدقائك
صاحت بعنف :- لا أصدقاء لدي .. ليس هناك من يستحق بقائي لأجله
:- وماذا عن ماهر ؟ على ما أظن تركت قلبه محطما ورحلت دون أن تخبريه حتى بمكان وجودك
حاولت السيطرة على انفعالاتها وهي تقول :- ماهر سيقدر بأنني فعلت هذا مكرهة
قال ببرود :- فعلته مكرهة ؟ .. أم اكتشفت بأنه ليس من النوع المفضل لديك .. وأنك ربما ستحتاجين إلى رجل أكثر ثراءا ليلملم نفسك المكسورة وكرامتك المبعثرة ؟
قالت بغضب :- ماهر مجرد صديق .. لطالما كان صديقا وفيا فحسب لا أكثر
قال ساخرا :- لا أعتقد بأنك كنت بالنسبة إليه مجرد صديقة .. الكل يعرف منذ البداية بأن ماهر مغرم بك حتى أذنيه .. وأنك تتلاعبين به لاستخدامه لأغراضك الخاصة
أحست بالغضب يكاد يعميها .. ولكنها تماسكت قائلة ببرود :- ليس من حقك أن تناقش حياتي الخاصة .. سواء كان ما تقوله صحيحا أم لا فهو ليس من شأنك .. وأنا لست مضطرة لقضاء مزيد من الوقت معك .. فلدي الكثير لأقوم به
تمتم بهدوء :- كالبحث عن عمل جديد مثلا
كانت تهم بالرحيل إلا أنها توقفت فجأة وهي تنظر إليه بريبة .. كيف عرف بتركها لعملها .. فهي لم تخبر أمها إلا منذ دقائق .. اتسعت عيناها وهي تقول :- أنت هو الرجل الذي تسبب بطردي
لم يظهر أي تعبير على وجهه الجامد .. وكأنه يعترف بفعلته .. لم تستطع كبت غضبها وهي تصيح :- بأي حق تفعل هذا ؟..كيف تجرؤ على التدخل في حياتي وتسيير أموري ضد رغبتي ؟
قال بصرامة :- بحق امك التي توسلت إلي بان أفعل ..أمك الإنسانة الرقيقة التي لن تحتمل ان تتعرضي لأي نكسة جديدة امامها .. لم تكوني واعية عندما أخذت تبكي محطمة وهي تراك على فراش المرض .. أم أن أمك لا تمثل لا أي قيمة هي الأخرى ؟..
قالت بغضب وقد برقت عيناها بشدة :- إياك ان تتجرأ وتتحدث عن علاقتي بأمي بهذه الطريقة مجددا .. وإلا فأنا أقسم على أنك ستندم
قال متهكما :- ما الذي ستفعلينه ؟ سترمينني في الشارع .. أم تسلطي المجتمع ضدي ؟
ابتلعت سخريته عندما ذكرها بتهديدها القديم والسخيف له .. سارت محاولة تجاوزه لتعود إلى بيتها .. إلا أنه أمسك ذراعها بحركة حادة جعلتها تشهق مجفلة .. رأته يعقد حاجبيه وهو ينظر إلى آثار كدمة أسفل خدها .. تمتم بقلق :- هذه الكدمة ....
لم يكمل .. بل مد أصابعه يتحسس مكانها فوق بشرتها الناعمة التي ارتعشت تحت ملمس انامله الرقيق .. صدمها الاهتمام الكبير الذي أطل من عينيه .. وصدمها هذا الاحساس الذي انتابها وجعل صوتها يرتعش وهي تقول كاذبة :- لقد اصطدمت بالباب
وقبل أن تتلقى أي تعليق .. كانت قد انسحبت هاربة ..
هاربة من ذكرى هذه الكدمة التي أصابتها تلك الليلة المشؤومة .. ومن نظرة عينيه التي تثير داخلها مزيجا غريبا من الغضب والحيرة .. والاضطراب والخوف


الفصل السابع

ابتعد!!


عمل نانسي الجديد كان أقرب إلى مزاجها .. فقد وجدت وظيفة كبائعة في متجر للثياب .. كان متجرا بسيطا متخصصا في بيع الملابس الشبابية البسيطة .. والرخيصة الثمن .. والمختلفة تماما عن النوع الذي اعتادت نانسي شراءه .. ولكنها لم تعد قادرة على شراء ما تحبه الآن ..
تعمل نانسي في المتجر منذ 3 أيام .. وأدركت منذ اللحظة الأولى بأن صاحب المتجر من النوع السيء الخلق .. فهو عصبي المزاج .. دائم الصراخ .. ولا يتردد في إطلاق الشتائم عند الحاجة .. أجبرت نانسي نفسها على الصبر .. وتجاهلت تذمره من عجزها عن إقناع الزبائن القلائل بالشراء .. ورددت لنفسها بأن هذا هو العالم الحقيقي .. كما تستطيع أي موظفة أخرى احتمال رئيسها السمج .. ستفعل هي
عادت في نهاية اليوم وهي تشعر باكتئاب كبير .. ربما لأن عملها الجديد يذكرها بوضعها القديم .. كلما دخلت زبونة متعالية .. وعاملتها بازدراء .. لقد كانت ذات يوم من ذلك النوع الذي يهوى التصرف وكأن العالم ملك لها .. لكم تحتقر نفسها الآن عندما تدرك أي إنسانة سطحية ومتعالية كانت .. هل كان عليها تلقي الصدمة تلو الأخرى حتى تعرف ماهي الحياة الحقيقية
عندما دخلت إلى البيت سمعت فورا صدى ضحكات أمها ولينا .. فأدركت بأن الدكتور محمود موجود هنا .. لقد أصبح ضيفا دائما في بيتهم المتواضع .. وقد تمكن من كسب ثقة وإعجاب أمها وأختها على الفور

يتبع ,,,,

👇👇👇


تعليقات
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -