بداية

رواية طلاب الطب -2

رواية طلاب الطب - غرام

رواية طلاب الطب -2

أي فرق شاسع ها هنا .. بل أي فرق .. حتى إنه لا يكاد وجه الشبه أن يكون موجوداً ..
إن هذه الفتاة في هذه الصورة لهي حورية تغار منها الأنوار .. وتحترق منها الشموس وتستحي منها الأقمار..
استحالة أن تكون هذه هي ميادة التي تقف أمامي ..
إنها _ وإن كانت بالفعل هذه صورتها _ قبل موت أمجد كانت نيلوفراً قد كلله الندى بمشهد يخطف الأبصار ..
ويسبي العقول ..
رحت أناقل نظري بين الصورة وبين ميادة ..
تراها ما تكون الآن ؟
قد نستطيع أن نقول عنها أنها ما تبقى من وردة قد احترقت ..
قالت بسخرية : هذا ما كان يحسدني عليه الكل .. هذا السخف .. هذا الذي ما عدت أهتم له أبداً .. هذا الذي كنت أتباهى به وأتفاخر ..
هذا الذي علمني أمجد كيف أجمله بالتواضع .. هذا الذي دفن في داخلي ولن يعود أبداً ..
أبداً إلا ..
إلا إن عاد أمجد ..
قلت بعد صمت مغيرة دفة الكلام : في أي قسم أنت بالجامعة ؟
حدقت في بحقد .. حتى خلتها تريد قتلي ..
بل ظننت أن حالة الجنون قد بدأت الآن .. فارتبكت .. وقلت بسرعة : أنا لم أقصد ..
فقالت وكأنها لم تسمعني .. وقد نظرت إلى صورتها وأمسكت بها بكلتي يديها في قوة حتى سمعت صوت صرير البرواز :
لعنها الله . . وأحرقها على أهلها..
إنها السبب .. إنها قاتلة أمجد ..
وأخذت تضرب السرير وتقول : إنها قاتلة أمجد ..
ثم انخرطت في بكاء حار ..
لو كانت الأرض تحس لارتفعت ومسحت لها دمعاتها .. لو كانت الدموع يمكن أن تكون أكثر حرارة .. لأحرقت سجاد الأرض ..
لو كانت الأشياء تبكي لأمدت طوفاناً يغرق المنزل ..
اقتربت منها مشفقة .. بل شد مشفقة .. واحتضنتها بين يدي ..
فأخذت تبكي كطفل رضيع ..
ثم بدأت تسكن .. توقفت عن البكاء ..
فجلبت لها منديلاً .. فمسحت به وجهها ودموعها وأنفها الدقيق الذي احمر من البكاء ..
ثم قالت بعد برهة وهي تنظر إلى الأرض :
حقيقة لا أعرف كيف أعتذر منك .. فأنا في حالة سيئة للغاية
لربما تودين المغادرة فأنا أعرف أني ....
فقاطعتها قائلة : لا .. أرجوك.. أنا لا أريد أن أغادر ..
صمتت قليلاً ..
فقلت لها وأنا أرتجي أن تهدأ قليلاً بتذكرها لما كان جميلاً في حياتها : وكيف كان طبع أمجد ؟
قالت ميادة :
كان أمجد إنساناً طيباً .. هادئاً هدوء المياه الراكدة .. ما كان يغضب كثيراً ..
ولكن .. ولكن في الفترة الأخيرة .. ازدادت عصبيته .. صار حار الطباع .. يفكر كثيراً ..
بدا كمرجل يحترق .. ويصعد الدخان منه آهات وتأففات ..
كنت عندما أسأله لا يجاوب ..
ولم يبح لي إلا في نهاية الأمر عن موضوع الجامعة ..
صدقيني يا آنسة .. وإن لم أعرف إلى الآن اسمك ..
فقلت لها بسرعة : راوية ..
نظرت في للحظات .. كأنها تستوعب الاسم .. ثم قالت : صدقي يا رواية أني لم أكره
شيئاً في حياتي كره الجامعة ..
صدقي أن كلية الطب هي صورة بريئة لحيوان سادي متوحش ينتزع الأحشاء ..
ثم صرخت ميادة قائلة :
سحقاً لكل الذين يقولون أنتِ تبالغين ..
عليهم اللعنة للذين يقولون : يجب أن تتحملوا ..
وليذهب إلى الجحيم كل القائلين : كل الناس مشوا فلم لا تمشي أنت ..
أحرق الله كل مختل عقلياً يقول : أنت واحد من آلاف .. بل من ملايين مثلك يعانون نفس المعاناة .. سحقاً لهم جميعاً ..
صمتت قليلاً . .
وأرسلت دموعها تنساب على خديها قائلة :
لقد كنا نحلم .. لقد وعدني أمجد بالزواج بعد السنة السادسة ..
لم يكن باقياً سوى سنة ونصف ..سنة ونصف فقط ..
ثم تطلعت إلي وقالت بابتسامة سخرية :
هل تعلمين بم أصبت ؟؟
لقد أصبت بالقلب .. وارتفاع ضغط الدم .. هل ترينني ؟؟
ما أنا ؟
أنا لا شيء ..
جسد بلا روح .. لقد ماتت روحي .. لم يبق منها شيء ..
كل شيء ذهب .. لم يعد يهم أي شيء .. لم يعد يهم ..
أنا الآن فأنتظر مصيري المحتوم ..
فإما أن يأتي أمجد ..
وإما أن ..
توقفت ثم بلعت ريقها وقالت :
وإما أن أذهب إليه ..
لم أعرف بم أنطق .. ظلت الكلمات محتبسة في حلقي ..
أأقول لها أنه لا يجوز أن تتمنى الموت ؟؟
لم أعرف بم أنطق ..
ولكنها قالت بعد برهة :
أستغفر الله .. أستغفر الله ..
وهنا قالت بانكسار مؤلم :
لم يبق لي سوى أن أدعو له في صلاتي كل يوم ..
سأجعل هذا هو هدف حياتي ..
ثم رفعت يديها إلى السماء .. الدموع تغرق مقلتيها وأخذت تدعو ..
اللهم اغفر لأمجد .. اللهم صبرني في محنتي ..
اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها ..
اللهم إني بعت نفسي إليك وزهدت فيها إليك ..
سأكون ناسكة في محراب عبادتك ..
وستكون غرفتي صومعة .. أتعبدك فيها ..
وأدعوك فيها أن تغفر لأمجد ..
قلت لها بصوت خفيض :
ألهاذا الحد تحبين أمجد ؟؟
قالت والعينان الذابلتان تتلألأ :
أمجد يا راوية ..
هو النور التي تفتقت عنه دروب المستقبل في أرضي ..
أمجد يا صاحبتي قتله أن قال كلمة حق ورد احترامه .. في زمن يعتبر من يفعل ذلك مجرماً وقحاً ..
وغبياً .. لأنه لم يعرف كيف تُدار اللعبة ..
أمجد مات فقط لأنه أرادني أن أكون ملكة عالمه .. في قصر تحفه الورود والبساتين ..
أمجد كان طائر السلام وغصن الزيتون ..
أمجد .. أمجد ما كان سكيراً ولا خميراً ولا زير نساء ..
أمجد ما يكن يفعل المعاصي بقلب مملوء بالرضا أبداً ..
أمجد كان طيباً وحنوناً ..
ثم صمتت وتلاحقت أنفاسها وقالت :
ولكنه مات !
لم يعد قلبه الدافئ ينبض ..
ولم يعد يهم هاهنا شيء .. لم يعد يهم أي شيء ..
وهنا خرجت بعدها من بيت ميادة بقلب مشفق يرثي حال إنسانة مكسورة ..
من بيت حبيبة لم تنس الحب الصادق ..
ها أنا ذا يزيد مرة أخرى ..
رحمك الله يا امجد وصبركِ يا ميادة ..
أمجد ذاك الذي مات صبيحة اختبار الطب الباطني الكريه ..
سقط قتيل كلية الطب..

( الجزء الرابع)

مضت الآن فترة طويلة على وفاة أمجد ..
صدقوني أنها لم تتعد شهراً ونصف ..
ولكني أحس بها أكثر من سنين ..
صدقوا أن الوقت لدي أسوأ من أن يحتمل ..
لازلت لا أنسى نظرات أبي أمجد في العزاء ..
نظرات تقول لي أرجوك دلني على طريقة أرجع بها أمجد بأي طريقة .. بكل ما أمتلك حتى حياتي ..
أما أختي فقد قابلت والدته .. والدته التي أصابتها صدمة أقعدتها في المستشفي يومين ..
أمجد .. أين أنت يا صاحبي العزيز ؟؟
كنت أتضايق كثيراً من نصائحك التي كنت أحس أنك بها وصي علي ..
كنت لا أحبذها ..
تعال الآن وقل ما تشاء .. صدقني أني مستعد أن أكون منصتاً .. صدقني أني مستعد لأن أنصت لكل كلامك ..
فقط عد .
هل أخبركم عما حصل قبل أسبوع ؟؟
لقد اتصلت ميادة بأختي ..
وطلبت منها أنه إن كان بالإمكان أن تحضر لها حقيبة أمجد الخاصة ..
التي سماها أمجد بالحقيبة الذهبية ..
هذه الحقيبة التي كلما جاءت مناسبة .. أخرج أمجد منها ورقة ألقاها على مسامع ميادة ..
كلمات أبت أن تكون من أحرف عادية .. من أن كون تراكيب طبيعية ..
هي الشيء الوحيد التي لم يرض أمجد أن يعطيه لميادة .. لأنه أراد أن يبقى لديه كلمات يهديها لها في الأوقات المميزة لتكتمل روعتها ..
وهي نفس الحقيبة التي أصريت أن آخذها من أمجد لتكون عندي أحفظها له ..
بعد أن عرفت أن أمجد لا يحبذ أن يعرف أهله بما يكتب لميادة ابنة عمته من إعجاب يعرفه الكثير من أفراد العائلة .. حتى صاروا يقولون دوماً .. أمجد لميادة .. وميادة لأمجد ..
وأنا منذ أعطاني إياها .. قبل أربعة أشهر .. لم أفتحها أبداً..
والآن وبعد موت أمجد بقيت ميادة هي الوحيدة التي لها كل الحق أن تأخذ الحقيبة ..
ذهبت إلى أختي .. وطلبت منها أن توصل الحقيبة لها ..
ترددت أختي .. بل رفضت .. وقالت :
يزيد .. أرجوك أعفني من هذه المسألة بالذات ..
بصراحة .. لم أعرف بم أرد عليها ..
فما حصل في اللقاء السابق أظنه أكثر من أن تتحمله ..
ولكني قلت في النهاية :
إنه أمر إنساني بحت .. وهو يعود أولاً وأخيراً إليك .. لكني أتمنى أن تسدي هذه الخدمة إلى ميادة .. أرجوك ..
ترددت أختي كثيراً قبل أن تقبل ..
ولما رجعت .. تركت لها القلم ليصف الذي حصل :
هاهو المنزل .. وإن بدا مضاءً من الخارج .. إلا أن الكآبة لا تريد أن تريح كاهل هذه القواعد الضخمة ..
دخلت من الباب .. فانبعث منه صرير . أحسست أنه لمقبرة فرعونية لم تُفتح من قرون ..
اجتزت الحديقة التي ذبلت أوراقها من قلة الاعتناء بها ..
لقد شاهدتها آخر مرة وقد شارفت على الموت .. أما هي الآن فقد لقيت مصرعها ..
صعدت درج المنزل .. ثم طرقت الباب .. وبعد دقائق .. بدت أياماً .. فُتح الباب لي ببطء ..
ومن خلفه ظهر نصف وجه .. ثم فتح الباب كله ..
ولقد كانت ميادة ..
ولكنها كانت في أسوأ حال ..
أين ذهبت ملامحها ؟؟
إن هذه الفتاة غير حية بالتأكيد ..
بل إننا لو بالغنا لقلنا شبه حية ..
لقد نحلت جداً .. وبرزت عظام وجنتيها .. وحلق السواد بعينيها ..
وتطاير شعرها مشعثاً ..
نظرت لها برهة .. ثم أغلق أنا عيناي في ألم .. ولا أدري لم لكن ..امتلأت بالدموع ..
فأمسكت يدها .. وقلت لها : ارحمي نفسك .. هذا لا يجوز ..
فكادت الفتاة المسكينة تسقط بين يدي ..
فأخذتها .. وكنت قد عرفت أين غرفتها فذهبت بها إليها ..
ودخلتها .. ولم أزل أكاد أحملها .. حتى أجلستها على الكرسي .. ثم أخذت طرحتي ..
وأخذت أروح لها بها .. فقد تسارعت أنفاسها ..
إنها هالكة لا محالة .. بل إنها ستموت بين يدي ..
كله من يزيد .. سامحك الله ..
استعادت وعيها .. ثم قالت بابتسامة .. بشفاه .. لم يبق منها إلا اسمها :
كيف حالك ؟
أتمنى أن تكوني بصحة جيدة ..
قلت وأنا أجلس.. وقد روعني خاطرٌ بأن يحصل لها شيء بين يدي : بخير والحمد لله ..
انتظرت برهة .. ثم قالت :
هل جلبت الحقيبة معك ؟
قلت : نعم .. لقد تركتها عند الباب عندما أسندتك ..
هنا قامت ميادة بكل ما بقي لها من قوة .. وذهبت لإحضار الحقيبة ..
جلست أتطلع في الغرفة في استغراب ..
لقد قلبت هذه الفتاة هذه الغرفة إلى صومعة حقيقية .. لقد اعتقدت أن الفتاة تهذر في المرة الفائتة ..
فهاهنا سجادة .. المسبحة ملقاة عليها في إهمال .. والقرآن موضوع على حامل ..
ولم تزد الغرفة إلا على سرير أبيض .. ومكتب ملقى عليه بعض الكتب الدينية ..
وبعض الأشرطة الملقاة في إهمال للشيخ هاني الرفاعي ..
وبعد قليل جاءت ميادة .. وهي تحمل الحقيبة ..
وقالت : أنا آسفة أني تركتك .. فعندما تذكرت الحقيبة .. لم أرى في الوجود سواها ..
فهي الشيء الأخير الذي بقي لي من ..من أمجد ..
لقد ارتجفت شفتاها حين نطقت أمجد ..
وضعت الحقيبة بيني وبينها .. ثم أطالت النظر فيها ..ثم قالت في حماس .. كطفل وجد حلوته المفضلة : أتريدين أن تفتحيها معي ؟
لا بأس أن تري ما فيها ..
وفي الحقيقة .. لقد كدت أنا ( رواية ) أن أفتح الحقيبة لأرى ما بداخلها .. فلقد أثارت فضولي كله ..
اقتربت يداها في حذر .. وفتحت الحقيبة ببطء ..
ومع فتح الحقيبة .. انفتح معها جرح دامي بقلب ميادة التي لا أعتقد أنه يحتمل أكثر ..
وانطلقت تنهيدة .. بل هي آهة ألم تكاد تخرق الآذان بعد أن تخترق القلوب ..
وفتحت الحقيبة على مصراعيها ..
ويا الله ..
أوراق.. حمراء .. ووردية .. وصفراء ..
ظروف .. ورسائل .. قلوب صغيرة ..
دفاتر كثيرة ..
قطعة منديل مكتوب عليها بعض كلمات الحب ..
أقلام ..
وهنا امتلأت عيني ميادة بالدموع .. وراحت تسقط .. كأنها أحماض من الكبريت ..
دموع بلا صوت .. دموع .. بتنهيدات أشبه بزلزال أخذت تدك الأرض دكاً ..
أخذت تلمس الأوراق كأنها تخشى أن تخدشها بأنامل كانت ذات يوم أشد رقة من الورد ..
أخذت تمرر أصابعها بين أطراف الأوراق .. والدموع تمطر.. لتصنع خطاً مائياً متصلاً..
دموع هي أشد سخونة من حرارة شمس مكة وقت الظهيرة في الصيف ..
رفعت ورقة بيضاء إلى عينيها .. منقوش عليها خطوط رفيعة بقلم وردي .. ثم قالت :
هذه أول رسالة أبعث بها إليه ..
ثم أخذت الورقة .. وضمتها إلى صدرها وأغمضت عينيها بقوة كأنها تعصرها لتنزل الدموع حراقة ..
أأقول لها هوني عليك ؟؟
لا أعتقد أن أي كلمة يمكن أن تفر من فمي ..
فمع هذا المنظر لا أستطيع إلا أن ألوذ بالصمت .. مسحت دموعها ..
ثم أخذت تبحث هنا وهناك .. وأخذت تضع الأوراق على سريرها بحرص شديد .. وأخذت تقلب الأوراق ..
ثم قالت بخفوت : ما فائدتها ؟؟ لقد مات أمجد .. وماتت كلماته معه ..
مات كل إحساس صادق معه .. لم يعد يفيد ..
قلت بعد صمت .. وتردد جم : هل .. هل تسمحين أن أرى الأوراق ؟
فلقد كنت أود ذلك بشدة ..
نظرت في طويلاً ..فأصابني حرج شديد ..وقلت : عذراً أنا آسفة ..لم أكن ..
قاطعتني وقالت بابتسامة مريرة : لو كان أمجد حياً .. لغرت أن تمس أناملك هذه الأوراق التي مسها بيديه ..ولكنه ..
وأغمضت عيناها بقوة هائلة وهي تقبض يدها : منهم لله .. منهم لله ..
ثم قالت بعد أن فتحت عيناها :
سأذهب لأحضر لك شيئاً .. أنا آسفة لقد انشغلت بالأوراق عن ضيافتك ..
لحظات وآتي .. وقامت ..
ثم نظرت في الأوراق في لا مبالاة ..
واقرأي كما تريدين .. الحقيبة بين يديك ..
ذهبت وأغلقت الباب بهدوء .. ينم أنها حتى لم تعد تهتم ..
لم تعد تبالي بما يحدث .. لم تعد تعير كل هذا أي اهتمام ..
أخذت أنظر إلى الأوراق .. أيها أقرأ ..إنها صفائح من عالم حب رائع ..
ولست أنكر أني أحسست برعشة ورجفة لما لمست إحدى تلك الأوراق .. أحسست أن تياراً محدوداً قد سرى بجسمي للحظات ..
وجلست أقرأ..
إنها كلمات صادقة .. أحاسيس صافية .. خالية من الشوائب .. تسير في الأسطر كالأنهار الهادئة ..
إنها كلمات من قلب حانٍ .. من قلب صادق ..
هذه الورقة .. كانت ستهدى لميادة العيد القادم ؟؟
ميدالية مكتوب فيها اسمه واسمها ..
وهذا .. علية مخملية صغيرة ..
فتحتها .. يا الله .. خاتم رائع من الذهب الأبيض ..جميل أيما جمال ..
أعتقد أن هذا الخاتم هدية قريبة ..
ولكن يا للأسف .. أشياء كثيرة في هذه الحقيبة .. إنها تحمل أكبر من حجمها ..
تحمل حباً جنونيا .. تحمل شوقاً ملتهباً .. غراماُ صُرع قبل فرحته الكبرى بالزواج ..
بعدها بلحظات .. قدمت ميادة ..
وكانت هذه المرة نظرتي لها غير ..
فلقد حزنت عليها قبل ذلك لحالها ..
أما الآن فأنا حزينة لأنها فقدت بالفعل محباً مخلصاً .. عاش حياته كلها على أمل هي عنوانه .. ميادة ..
عرفت بالفعل أي حزن يتجسد في نظراتها .. وأي فاجعة قد حلت بها ..
من كان لها حبيب كأمجد .. حُق لها أن تبكي طويلاً وكثيراً ..
تخيل فعلاً أن هناك من يكن لك كل هذا الحب ..
بكل فصوله ومشاعره الفياضة ..
تخيل كل الرسائل التي تصل إليك .. وكل الجنون والهوس بك ..
ثم وفي لحظة يفارق الحياة ..
يفارق الحياة من كنت أنت حياته كلها .. وربيع أيامه ..
يفارق الحياة من كنت حياته ..
بل هو إن دققنا .. فارقك أنت .. ولم يهتم إن فارق الحياة ..
وضعت ميادة كأس العصير على الطاولة وجلست ..
نظرت في عينيها كثيراً ثم تنهدت ..
ثم قالت : هل يمكنني أن أتكلم معك عن أمجد ..
إني ..إني أريد أن أخبر كل الناس عنه ..
فأومأت موافقة ..
فقالت : أمجد .. واحر قلباه عليك ..
أمجد .. سار في مسار شيطاني ..
أمجد واحد من الذين لم يرض أن يتنازل عن مبادئه ..
واحد من الذين ينعتونهم الناس بالسذج ..الذين يتخيلون أن الحياة تسير في صالح الفضيلة والأخلاق ..
ربما كان هذا عيباً عند كل الناس ..
ربما قال البعض أن هذا سبب عقدته ..وهذا سبب موته ..
لكن ما أحقر الإنسان الذي يدوس على كرامته من أجل أن يسير حياته ..
ما أوضع الإنسان الذي تخلى عن مبادئه .. متملقاً بذلك الكبير والصغير .. من أجل فتات ..
ثم أخذت تضحك بمرارة شديدة وقالت : لقد مات على كل حال .. إن لم يمت كمداً .. مات قتلاً ..مات ..
ثم التفتت لي بعنف وأمسكت يدي بقوة وقالت :
هل جربت الحب يوماً ؟؟
ارتبكت من مبادرتها السريعة وقلت :
في الواقع .. لم أجرب .. ولكن ...
قاطعتني قائلة : إذا فلا تجربيه أبداً .. ولا تفكري في ذلك ..
فقلت بصوت لا يكاد يسمع : لماذا؟
قالت وهي تنظر إلى الأعلى .. بنظرة لم أصدق يوماً أن أراها في عينيها أبداً ..
نظرة أعادت فيها الحياة لوجهها ..
نظرت أحيت فيها إنسانيتها الميتة ..
حتى أحسست أن هالة من الورود قد ملأت أرجاء الغرفة وقالت :
لأن الحب جعلني في يوم من الأيام سيدة الكون ..
لأنه ذات يوم أوصلني إلى جنة الأحلام .. التي لم أفكر أبداً في الوصول إليها ..
جعلني أنتشي كالسكارى ..
جعلني أهيم حباً بالحياة ..
جعلني أحس أن الكون أحل بملايين المرات من ذي قبل ..
جعلني أحس بمتعة تكاد تتفتق عنها روحي وجوانحي ..
جعلني أسعد مخلوقة على وجه الأرض ..
ثم صمتت .. وخبت الحياة تماماً في تلك البقعة من هذا الكوكب ..
وعادت نظراتها أكثر بؤساً ويأساً ..
تكفي لأن تقتلك .. بل لتحويلك تمثالا من الحجر الصلد .. تجعلك تحزن ألف مرة من شدة حزنها ..
وقالت :
لكن الحب وإن لم يكتمل .. إن لم ينتهي بثوب الزفاف الأبيض ..
إن لم ينتهي بالنهابة الأزلية التي كتبها لها الشرع والإسلام والأعراف ..
أو حتى إن حال بين حدوث ذلك أي شيء ..صدقيني ..لن تجدي سوى الأحزان تستبيح أيامك ..
ستصيرين مثلي ..
لا كتب الله عليك موت حبيب .. ولا جعلك تشعرين بما أشعر به أنا ..
أعلم الآن أي حزن يتملكك .. هذا وأنت لم يمت حبيبك .. فكيف بي ..من مات حبيبي .. هل تستطيع تخيل مقدار الألم ..
لا أظن ..
صمتت مدة طويلة قبل أن تقول : هل تعلمين ما جزاء من يسعى للحياة السعيدة ..
إن جزاؤه .. مثل جزاء أمجد ..
أن تتركي أحلى أوقاتك وأسعد لحظات شبابك .. لتعتكفي في غرفتك كأنك لا تعرفين في الدنيا سوى مابين يديك ..
رغم أنك تكرهينه .. رغم أنك تحقدين على الذي طالبوا بتعليم مالا فائدة منه سوى الحشو الفارغ ..
ورغم كل هذا .. تقرأين كلامه وتحفظينه ..
بل توبخين نفسك إن لم تتذكري كلماته الخرقاء
سوف ...
ثم أخذت ميادة تكح في عنف .. فوضعت كفها على فمها .. حتى ظننت أنها ستموت ..
ارتعدت من رأسي لأخمص قدمي ..
قلت لها وأنا أقوم : سوف أذهب لأنادي لك والدتك ..
فأمسكت بيدي وأوقفتني .. وقالت : لا عليك .. إن هذا يحدث كثيراً ..
وأنا أتناول العلاج لهذا ..
ثم قامت وقالت : آسفة .. لقد نسيت أن آخذ دواء القلب ..
ذهبت إلى منضدتها وتناولت بعض الأقراص .. وشربت قليلاً من الماء ..
ثم اقتربت مني وجلست وقالت :
أشكرك من أعماق قلبي ..
أشكرك كثيراً .. فما من أحد فعل لي مثلما فعلت ..
ما من أحد استمع لي .. وتحملني .. ما من أحد حمل معي الهم إلا أنت ..
شكراً جزيلاً ..
شكراً ..
وبعدها خرجت من مقبرة ستدفن فيها ميادة بالتأكيد .. ولا أعتقد أنها بعد مدة طويلة ..


يتبع ,,,,

👇👇👇
تعليقات
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -