رواية لمحت في شفتيها طيف مقبرتي -147
أنحنت لتُغطي وجهها بكفيّها وهي تحفظُ الرسالة تمامًا، عندما أرسلها في وقتٍ ضاقت بها كل الدنيا ومساحاتها " هذه التعاسةُ الرماديّةُ في عينيك ما سرُّها؟ وماذا أستطيعُ أن أفعلَ كي ألوّنَها؟ " غرقت بحزنها الظالم على قلبها الهشّ، لم تتوقع أبدًا! لم تتوقع يومًا أن مجرمًا تعشقه لهذا الحد، كان عقابًا من الله أنتظرته، في الوقت الذي عصيتُه به لم يكُن عصياني شيئًا سهلاً وهو يُسجَّل في صحيفتي، كان قويًا بحقِ من أعطاني كل هذه النعم، كان قاسيًا بحقِ نفسي، وهذا أنا أدفعُ الثمن، غلطتِي أدفعُ حسابها فأنا لم أحب شخصًا عاديًا، أحببتُ مجرمًا حتى أذوق لوعة هذا الحُب كما يليقُ بهذه المعصية. يالله يا عذابُ حبِّك، كيف أراك بعد هذه السنة وأكثر ؟ كيف أتعرفُ عليك بهذا المكان، كُنت أمامي ولم أعرفك، رأيتُك قبل هذه المرة ولم أعرفك، والآن تتجردُ أمامي من كل شيء وتُخبرني أنك فارس، فارس الإسم الذي أخفيتهُ لتجعل لعقلي حرية التفكير لأيّ الأسماء تعتنق؟ لأيّ العوائِل تنتمي؟ لأيّ المدن جذورك؟ يا قسوة حروفِ إسمك وهي تعبر قلبي، أنت عذاب لا أستطيع الوقوف منه، كنت أريد الجنَّة التي تخيلتها في عينيْك، ولم أتصوَّر يومًا أن أغرقُ بجحيمٍ كهذا، أنا يالله أموت لا أتحمَّل أكثر من ذلك، أرجوك يالله خُذني، خُذني بخاتمةٍ حسنَة وأغفر لي ذنبِ حُبه، أغفر ليْ ذنبِ حُبه ولا تفضحني به أمام الخلائِق، أرجوك يالله خُذني ولا تُريني والدِي مكسورًا منِي، لا تُريني نهايتي على أيديهم.
لم يتحمَّل بكائها، قاسية يا عبير حتى في البكاء، أنا الموشومُ بِك كيف أصلح حالِي ؟ والله لا أرضى عليكِ المهانة ولا الذل وليتكِ تفهمين أنه رغمًا عني، لو لم أجلبك معي كانوا سيأخذونِك، في نهاية الأمر ستكونين هُنا ولكن إما معي أو مع رجالاً من أبغض الخلق على قلبي ولن أسمح لأحدٍ غيري أن يراكِ، لن أسمح يا عبير فارس وقلبِه، قلبي يبتهِّل " أغار عليك من عيني ومني ومنك ومن زمانك والمكان ولو أني خبأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني "
ياليتني أستطيع أن أعانقك أن أخفف من حدةِ بكائِك، ليتني أستطيع ولكن رُغم ذلك أعترف أني أخشى الله، أعترفُ أنني متهورًا في الأقوال وفي التصرفات من بعيد ولكن بهذا القرب أنا والله أخافُ الله لأنكِ تخافينه أكثرُ مني.
نظر إليْها برجاء : عبير . . بس أسمعيني وبعدها خلاص
دُون أن ترفع عينها تلفظُ بحرقةِ صوتها : كنت تستغلني عشان أبوك .. أنت أحقر إنسان شفته في حياتي .. أرتحت الحين! صار اللي تبيه أنت وأبوك ..
فارس : ما كنت أستغلك والله العظيم ما كان عند أبوي خبر عنك من الأساس
عبير تحبسُ بكائها ليسُود الهدُوء، مسحت بكائها الذي يرتجف على ملامحها البيضاء، رفعت عينيها بحدَّة : كذاب! ممكن الحين تطلع! أهون عليّ أشوف كل هالكلاب اللي عندكم ولا أشوفك
فارس بهدُوء غضبه الذي لم يتعوَّد أن يصخب به : على فكرة زواجي منك بيتم قريب
عبير : تحلم! تعرف وش يعني تحلم لو على جثتي ما وافقت عليك
فارس شدّ على شفتيْه وهو يشعرُ برماحٍ تقذف بإتجاه قلبه : مضطرة توافقين للأسف
عبير بحزن عميق ودموعها لا تتوقف عن الهطول : الله يآخذك .. الله لا يوفقك أنت و أبوك
فارس يتركها ليخرج قبل أن يستمع بقيَة كلماتها الغاضبة التي تحزنه أكثر منها، أغلق الباب ووضع المفتاح بجيبه.
شعرت بحاجتها بأن تفرغ حزنها، " ليه " ؟ صعب عليّ أن أتقبل أنه مجرم، أن حبيبي الذي شعرتُ بإنتمائِي إليْه هذا هو! قاسيًا ذنبي عندما جاء بِك وقاسية أنا عندما عارضتُ الله في أوامره.
يُتبع
يقف أمام الباب، أخذ نفسًا عميقًا وهو يستودعُ الله نفسه وجسدِه وقلبه، أغمض عينيْه لتأتِ كل الأشياء راكِضة أمامه، إبتداءً من تلك اللحظة التي أنجبر بها على العودة إلى الرياض نهايةً برتيل الموجعة لقلبه، فتح الباب صاعدًا عبر السلالم حتى ألتقطت أعين الحراس حضوره، أتجهُوا نحوه بسرعة ليقيِّدُوه ويفتشوه بصورة عنيفة. ألصقوه بالجدار لتلتف ذراعه خلف ظهره بقيدٍ ثقيل، أدخلوه بهدُوء ليرفع رائِد عينه : يا هلا والله بـ ولد سلطان . . يا هلا يا هلا
عبدالعزيز بإبتسامة خبيثة : هلابِك
رائِد يقف ليُشير للحرس بالإنصراف، وبإستفزاز لفُقدِه : جايّ تفزع لأبوك في قبره!
عبدالعزيز المُقيَّد اليديْن : حق أبوي مو عندِك، لا يكون مآخذ مقلب بنفسك وتحسب الحادث من ترتيباتِك؟
رائِد بغضب يتجه نحوه ليأخذ بطريقه علبَة صغيرة ينتشرُ على سطحها مثل الدبابيس مصنوعة من الخشب، صفعه بقوَّة ليُدمِي وجهه على هيئةِ خطوطِ.
دخل فارِس ليلتفت عليه : أطلع برا
فارس : لا
رائد بغضب : فارس لا تطلع جنوني عليك !
فارس يقف بين والده وعبدالعزيز الذي وقف بثبات والدماء تنزف منه : قلت لك من قبل مافيه شي تخبيه عليّ .. يُمسك ذراع والدِه بهدُوء ليسحبه نحو الخلف وهو يترجاه بنظراته.
رائِد : ماشاء الله تلاقوا الأصحاب .. عرفني يا فارس على اللي قدامي
فارس بضيق : يبه
رائد بصرخة أرعبته : مو هذا اللي من وراي تقابله ؟
عبدالعزيز : وين عبير ؟
رائِد يبعد فارس عنه ليجلس على طرف المكتب : تبي عبير؟ للأسف لا
عبدالعزيز : قلت . .
رائد يقاطعه : وليه تثق بكلامي؟ يخي أنا مو عند كلمتي .. عبير عاد بتكون مع فارس ! عاد الله أعلم زوجته .. ولا غيره مايهمني المهم أنكم ماراح تشوفونها إلا لما أنا بمزاجي أقرر . . عاد مزاجي مدري متى يحن عليكم!
عبدالعزيز بغضب : لا تساوم على البنت! خل كلامك معي وأتركها
رائد بإبتسامة : أحلامك كبيرة يا عبدالعزيز ..
عبدالعزيز بحدةِ عينيْه : لمرّة وحدة كون رجَّال وأبعد الحريم من موضوعنا
رائد : علم نفسك كان كنت رجَّال قبلي وقابلتني مو سويت لعبتك مع الكلاب اللي وراك .. إيه صدق وش أخبار أبو زوجتك ؟
عبدالعزيز بتجاهل يحاول أن يحرِّك وجهه ليُبعد الدماء عن شفتيْه التي بدأت تتذوقُ طعمها : اختصر وش المطلوب الحين ؟
رائِد يضع قدمًا على قدم وبإستفزاز وهو يُفكِر : والله مدرِي! مدري وش الشي اللي بيخليني أتلذذ بتعذيبك! لكن أقدر أقولك ماراح تكون لك حياة بعد ما تطلع من هنا ! لأن أصلا ماراح تطلع من هنا! شايف كيف مسألة خداعي تكلف الكثير؟ عشان غيرك يحسب حسابه ألف مرة قبل لا يقرِّب مني .. قرَّب قبلك أبوك وشوف نهايته والحين أنت وبتكون نهايتك أسوأ بكثير، أنت تلعب مع رائد الجوهي اللي برمشة عين يمحيك من هالوجود . . . يؤسفني أنك بتكون مثال للعظة والعبرة
عبدالعزيز : عبير لا تمسَّها بشي !
رائِد بضحكة : I'm sorry هذا خارج إرادتي
عبدالعزيز بصراخ : خل حكيْك معي
رائِد بتهديد شرس : أقسم بالعلي العظيم أنه عبير ماراح تشوفونها .. ريِّح نفسك من كل هالكلام!
عبدالعزيز أبعد وجهه للجهةِ الأخرى وهو يتحرك بإتجاه الجدار يحاول أن يتخلص من قيدِه.
يُكمل : أما شغلي راح يتم غصبًا عنك وعن عبدالرحمن وسلطان! وبتبقى معي إن شاء الله لين يصير اللي في بالي بعدها بفكِر بأي طريقة تبي تموت .. على فكرة أنا ديمقراطي جدًا أنت أختار الطريقة اللي تبي وأبشر باللي أعنف منها .. أردف كلماته الأخيرة بشماتة ساخرة.
أخذ المشرط ليُنادي الحرس حتى دخلُوا بمُجرد سماع صوته المنادي،
بقوَّة أجلسوه على كرسي ليلفُّوا حول جسدِه الللاصق حتى تجمدَّت حركته ولم يعد يستطيع أن يتحرك، وبعينيْه يفهم رجالِ رائد مالعمل؟ أخذ أحدهم خيطًا وربط قدمِه اليمنى ليمدّ الخيط للعمُود الخشبي النحيف، أنهى العقدة بزنادِ السلاح، بمُجردِ ما تتحركُ قدم عبدالعزيز سيضغط على الزناد لتنطلق الرصاصة بإتجاهه.
رائِد بسخرية : لا تحاول تموت بدري! تقدَّم إليه ليستفزه وهو يقرِّب المشرط من رقبته : من مين هالخطة ؟ مين اللي قالك تروح ليْ ؟ سلطان ولا عبدالرحمن ؟
عبدالعزيز لا يُجيبه، معتمدًا على التجاهل التام.
رائِد بقوَّة يسحب المشرط من يمين رقبته حتى يسارها ليكتم صرخته وهو يحاول أن يثبت أقدامه حتى لا يتحرك، فارس أبعد أنظاره لا يتحمل رؤية هذه الوحشية من والده.
رائد : وش اللي تخبونه ؟ ها ؟ ترى السكوت ماهو لصالحك
عبدالعزيز ويستحمُ بدماءه : لا تنتظر مني أيّ معلومة
رائِد بإبتسامة : حلو .. جدًا حلو ... ليصفعه بقوَّة وهو يقاوم حركة كل شيء عدا أقدامه، نظر لعصير الليمون الذي ينتصفُ الكأس ليُمسكه وبتلذذ سكبه على رقبته لتندفع صرخة عبدالعزيز.
: باقي ما شفت شي .. أنت بالذات راح أخليك تترجاني أنك تموت وبتشوف ... أبتعد ليلتفت على فارس : يالله أطلع قدامي!
فارس : ممكن تخليني شوي!
رائد بضحكة شامتة : لا تفكر يا فارس تقدر تخليه يهرب لأن هالطلقة بتجي في راسه أسرع من تصوِّرك وبتلحقه وراك .. هذا أنا حذرتك ... وخرج لأنه يعرف تماما أن فارس يستحيل عليه أن يهرِّب عبدالعزيز والحرس ينتشرون في كل مكان.
فارس يسحب منديلا ليقترب منه، يمسح دماءه وبقايا العصير، أدرك تلوث جرحه : عبير عندي
عبدالعزيز بحدَّة : وأنت مين ؟ لا زوجها ولا شي!
فارس : أنت عارف أبوي ! في كلا الحالتين كان راح يخطفها سواءً بواسطتي أو بغيري بس أنا ماأبي شي يضرها والله العظيم يا عبدالعزيز ما أبي شي يمسَّها عشان كذا سويت كل هذا
عبدالعزيز بصوتٍ خافت : واثق فيك بس أبعدها عن أبوك!
فارس : خذه وعد مني أبوي ماراح يقرِّب منها .. أنتظر لحظة . . . . . أقترب من الرفُوف ليستخرج لصقات الجروح ومعقم، عقَّم جروح عبدالعزيز ليُغطيها باللصق.
عبدالعزيز : شكرًا ..
فارس : العفو . . أبوي مقرر أنه بكرا بيخليني أملّك على عبير ويقول إن رفض عبدالرحمن فهو الخسران بكلا الحالتين ماراح ترجع له بنته
عبدالعزيز : ماراح يوافق! مستحيل أصلا
فارس : داري وأصلا مستحيل الشيخ بيرضى لأن حضوره لازم
عبدالعزيز بسخرية : كأنها بتصعب على أبوك!
فارس يستخرج هاتفه : تبيني أتصل على عبدالرحمن! كلمه وقوله
عبدالعزيز تنهَّد : أنتظر لبكرا
فارس : طيب .. تآمر على شي
عبدالعزيز : لا . . . ليستدرك شيئًا ويوقفه: فارس
فارس ألتفت عليه ليُردف : ممكن تربط رجلي
عبدالعزيز الذي شعر بأنه رُبما يغفى وتتحرك أقدامه الغير مقيَّدة، أخذ اللاصق العريض ليلفه حول أقدامه لتتجمَّد بسيقان الكرسي : كذا تمام ؟
عبدالعزيز : إيه
،
أستيقظت شمسُ الرياض بخمُولِ وهي تغيبُ خلف الغيم الذي يتكاثف ببدايةِ شتاءٍ خافت، كان جالس في المقاعد الخارجية في ممر المستشفى ينتظرها تخرج بعد أن تم الأذن لها، لم يتحاور معها ولم ينطق أيّ كلمة معها منذُ ما حدث.
رفع عينه عندما فُتِح الباب، تقدَّم إليْها : تبين كرسي متحرك؟
مهرة ببحة تُخفي وجعها : لا
خرج معها متجهًا لسيارتِه، فتح لها الباب الأمامي، الصمت الذي كان بينهما لم يُدينه أحد، لم يقطعه الكلام أبدًا طوال الطريق الطويل في صباحٍ مزدحم، تمِّر الدقائِق بثباتٍ تشطر قلبيهما.
كُنت أرفضُ هذا الحمل ولو عاد الوقت لما دعوت دعوة واحِدة على من يسكنُ رحمي، أشعرُ بأني فقدتُ نفسي معه، كل الأشياء تلاشت بسرعة أمامي، لا أريد أن أندم وأقُول " لو " ولكن أشعرُ بحاجتي لأن أصرخ بـ " لو " ، لو أنني لم أخرج من الغرفة وأنا أشعرُ ببعضِ التعب لما حدث كل هذا، يارب أني لاأعترض على قدرك ولكن أرزقني الصبر والرضا به، قبل عدة أيام كنت أراه بعيني والآن لا أحد، رحمِي خاوي من الذي أنتظرته في الفترة الأخيرة.
ركن السيارة وهو يأخذ نفسٍ عميق يشعرُ بالسوداوية تطغى على كل حياتِه، فتحت الباب لتخرج وهي تشعرُ بقليلٍ من التعب يعكسُ نفسه على خطواتها المتأنية المضطربة، أتجه معها للفوق ليفتح لها باب الجناح، نزعت عباءتها بهدُوء لتضعها على الأريكة وخلفها نقابها وطرحتها، أتجهت نحو السرير لتدِّس جسدها به، نظر إليْها وهي تُغطي ملامحها بالفراش.
نزع حذاءه وهو يضع شماغه فوق عباءتها، أتجه لناحية السرير الأخرى ليجلس بقُربها : مهرة ...
كانت تغرق ببكائها تحت الفراش، لم تتوقع أبدًا أن يصِل حالها إلى هذا الحد. لم تتصوَّر أن تبكِي بهذه الصورة القاسية، ماذا يفرق أن يموت فردٌ بعد أن يستنشق الحياة أو يموت في رحمِ أمه؟ كلاهما موت، كلاهما نهاية، كلاهما قبرٌ لروحي.
رفع الفراش بهدُوء لتُغطي وجهها بيديْها وهي تجهشُ ببكائها، خرج صوتها كأنينٍ يخترق قلبه قبل سمعه، رفعها نحوه ليضعها على صدره وهو يمسحُ على شعرها، لم أعرف كيف أواسِي نفسي حتى أواسيك؟ ولا أعرفُ أيّ طريقة تخفف وطأة الخبر علينا.
تشبثت بثوبِه وهي تُبلله بحزنٍ عميق، كل الأشياء أفقدها، كل شيء أتعلقُ به ينسحب من حياتي بهدُوء، لم أجرِّب معنى الأب، وحين جربته تلاشى، ولم أجرِّب الأمومة وحين أقتربت منِّي ذابت دُون أن ألمسها، أنا لا أعرف كيف أحافظ على أشيائي ولن أعرف أبدًا ما دُمت على الدوام أفقدها بصورةٍ مفجعة ليْ، أؤمن بالموت ولا أعترض عليه ولكن أُريد لمرَّة أن أحافظ على شيءٍ لفترة طويلة أو أرحلُوا ولكن بهدُوء، لا ترحلون بهذه الطريقة المفجعة ليْ، لا تجعلوني أتأمل لأصعد لسابع سماء وأسقط فجأة دُون سابق إنذار على أرضٍ جافة. تكسَّر ظهري وضُعلي من الفُقد، يالله أرزقني الصبر . . يا رب الصبر.
يُوسف بخفُوت : الحمدلله على كل حال ...
مُهرة بصوتٍ مخنوق وهي تدسُّ نفسها في صدره : بموت يا يوسف ..
يوسف : بسم الله عليك لا تجزعين مايجوز ...... الله يعوضنا بالذرية الصالحة . . . يستلقي ليجعلها تستلقي معه . . . . نامِي وأرتاحي
نظرت للجدار الذي أمامها ويدها ترتخي عليه، وجهها الشاحب عكِّر جمالها الناعم، كيف أنام بهدُوء وأنا فقدت طفلي الأول! طفلي الذي بثَّت به الروح في أحشائي و كلمات الدكتورة تصبّ في إذني كـ نار وأشدُ حرقة من النار " سلمي أمرك لله والله يعين عباده "
يوسف بصوتٍ هادىء : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ . . . وأكمل قراءته للرقيَة الشرعية عليها حتى نامت على صدره.
،
بحزِن عقدت حاجبيْها : الله يصبِّرها .. صدق قهرتني بس عاد حرام ما تستاهل
هيفاء بضيق : لو شفتي يوسف! قطَّع قلبي مع أنه ماقال شي بس لو تشوفين عيونه .. يا شينها عاد لا تلهفتي على شي وماصار
ريم : ترى سمعت أنه مايجوز تقولين حرام وما يستاهل! كذا إعتراض على القدر وكأنه الله ما يعرف يصرِّف أحاول العباد .. يعني تعالى الله عن ذلك
نجلاء بدهشة : لآلا أستغفر الله مو قصدِي كذا
ريم : إيه دارية بس أنا قلت لك عشان ماتقولينها مرة ثانية
نجلاء : ما قلتي لنا وش فكرتي؟ بترجعين له ؟
ريم تنهدَّت : إيه
هيفاء : هذا أحسن حل توكم حتى ما تعرفتوا على بعض زين
ريم : الله يكتب اللي فيه الخير.
نجلاء : صدقيني يا ريم بكرا تندمين على تسرعك! كل شي له حل ! الطلاق مو سهل، أكثر شي يكسر المرَة الطلاق لا تكسرين نفسك بنفسك وتدمرين حالك وأنتِ ماتدرين زين الرجَّال وشينه .. توِّك في البداية يعني لا تندفعين كثير
ريم بضيق كلماتها : وهذا أنا بسوي بنصيحتكم . . .
،
يجلس وهو يحتضن رأسه، يبحثُ عن الحلول، عن الحريَّة من كل هذه القيُود، عيناه تغرق بِـ رِيف الضاحكة وهي تقفز كُلما أخرجت من بين شفتيْها فقاعاتِ الصابُون، وقف متجهًا لغرفة والدته، طرق الباب ثلاثًا حتى فتحه ليراها مستقيمة بجلستها تقرأ كتاب " عبقرية عمر للعقَّاد " تُشبه والده كثيرًا، مِثل الطِباع تمامًا مثل الجلسَة مثل العينيْن التي تغرقُ في القراءة، كل الأشياء تكتسبها من أبي وهذه طريقةُ أمي في الإشتياق، أن تتقمصُ دوره وتقرأُ ما يُحب.
أنحنى ليُقبِّل رأسها وأطال بقُبلته التي توسدَّت كتفها، جلس عند أقدامها وعيناه تتوسَّل، قاسٍ عليّ زعلك! قاسٍ كثيرًا تجاهلُك ليْ يا جنتي.
وضعت الفاصِل المزخرف لتغلق الكتاب عليه، رفعت عينها بعتب : تضايقني كثير يا فيصل !
فيصل بخفُوت : الله لا يسلِّم فيني عظم إن ضايقتك! يمه أنتِ منتِ فاهمة الموضوع بس صدقيني مو زي اللي في بالك
والدته : أبيك الحين تجاوبني! وش علاقتك بمقرن؟ وش كنتم تسوون في باريس ؟ أبي أعرف الحين وأتطمن
فيصل بضيق : شغلي هذا اللي أسسته كله كان من باريس! ومقرن كان يساعدني بعلاقاته بس هذا الموضوع
أختنقت عيناها بالدمع : تكذب! والله تكذب
فيصل وسيُجَّن بفعلِ دموع والدته : يمه لا تعورين قلبي، تطمني مافيه شي من اللي في بالك
تنزلُ دمعتها بحزنها اللاذع الذي يجعلها تُحضِّر قلبها على فُقدِه، شتت نظراته ليس هُناك أقسى من دمعةِ الأم، قبَّل رُكبتِها ليضع رأسه في حجرها وهو يردفُ بصوتٍ ضيِّق : سوِّي اللي تبينه فيني بس هالدموع ماأبي أشوفها، لا توجعيني يمه فيك لاتوجعيني وأنا أحس بالإهانة قدام دموعك إذا نزلت بسببي، قاسي هالشعور والله.. والله يا يمه تكسرني دموعك
وضعت كفيّها على رأسه لتغرق بماءِ عينيْها، خرج صوتُ بكائها الحزين كيف لإبنِي الذِي خطّ السواد في ملامِحه أن ينحني كالطفل حتى لا يرى دمُوعي؟ أيُّ دعاء يا فِيصل خرج من لساني حتى يجلبُك الله ليْ؟ أيّ خير فعلتهُ في حياتي حتى تأتِ؟ بقدرِ الوجع الذي أشعرُ به إلا أنك لم تخرج من بطنِي وحيدًا؟ أنت خرجت ومحملاً بجُزِء منِي لذلك أشعرُ بنبضِك المضطرب لأنِي هُناك! هناك في يسارِك وليتك تعلم مامعنى أن حُزنك لا يعنيك وحدك فهو يضايقني أضعافًا وأضعافًا.
،
يدخل الغرفة الواسِعة التي تنشرُ في كل جهة ملفاتٍ كثيرة، بخُطى ثابِتة يلتفت حتى يتأكد من خلوِ المكان، أقترب من جهةٍ صُفَّت بها الملفاتٍ الزرقاء بعناية، يسيرُ خطوة خطوة بتأني شديد وهو يقرأ كل إسم حتى وقف عند – صالح العيد - ، فتحه وهو يقلبُ بأوراق الجرائم السابقة والشهادات الجنائية، حتى سمع صوتُ أحدهم يقترب، هرول سريعًا حتى أختفى خلف الرفِّ الأخير.
عبدالرحمن وبجانبه عبدالله اليوسف ومن خلفهم متعب : هنا طال عُمرك.
يقترب بهدُوء لينظر لمكانِ الملف الخالي : مين كان هنا ؟
متعب : محد الله يسلمك
عبدالله يرفع حاجبه : متأكد ؟
متعب بلع ريقه : إيه
عبدالله ينظر للملفات وهو الذي بدآ يعاونهم بالفترة الأخيرة : تدري يا بوسعود! شكله فيه ناس تلعب على الحبلين
عبدالرحمن تنهَّد : والله ما أتركوا لنا عقل
عبدالله : طيب خلنا نراجع القضايا السابقة المرتبطة برائد . . . هذا سليمان الفهد؟
عبدالرحمن ينظرُ للملف الذي بين يديّ بو منصور : إيه . . . . وين صالح العيد؟
متعب : موجود . . نظر للملفات وهو يبحثُ عن الإسم ليزداد توتره مع كل خطوة لا يجد بها الإسم المراد.
عبدالرحمن يعقد حاجبيْه وبنبرةٍ حادة : مين داخل قبلنا ؟ هيّ فوضى عشان يدخل كل من هب ودبّ!
متعب : لا طال عمرك والله محد دخل أنا متأكد و أسأل بو مساعد
عبدالرحمن : طيب يالله طلع ليْ الملف! كذا يختفي فجأة
متعب : لحظة أناديه . . . وخرج
عبدالله بصوتٍ خافت وبنبرةٍ غير راضية أبدًا : أشياء سرية وقاعدة تخترق بسهولة! وش بقى للأشياء الثانية؟
عبدالرحمن بغضب : تعرف شي؟ أنا أعرف كيف أوقفهم عند حدهم . . . . . . وخرج بخطواتٍ تهيج غضبًا.
وقف عند سكرتيره : تبلغ كل الموظفين إجتماع طارىء بعد ساعة وإن تغيَّب شخص واحد ما يلوم الا نفسه . . بما فيهم أنتم
: أبشر إن شاء الله
دخل مكتبه ليتبعه عبدالله بعد أن ترك ملف سليمان في مكانه : بتحقق معهم ؟
عبدالرحمن : اليوم أعرف مين اللي ورى كل هذا !
في جهةٍ أخرى يضع الملف بمكانه وهو يخرج بهدُوء قبل أن يلحظه أحد ليتقدم نحو مكتبه ومن خلفه : إجتماع بعد ساعة واللي ما يحضر على قولت بو سعود ما يلوم الا نفسه
بصوتٍ خافت : إن شاء الله
دخل متعب بخُطى مضطربة بعد أن خرج زياد : يارب أني ألقاه!
أحمد من خلفه : طيب دوِّر في الجهة الثانية
متعب يمسح على وجهه : مستحيل يكون في غير مكانه! محد دخل أصلاً
أحمد يبحثُ بعينيْه : قلنا بنرتاح من عصبية سلطان هالأسبوع وجاء اللي ألعن منه
وقف متجمدًا ليطِّل عليه أحمد بإستغراب : وش فيك ؟
متعب بهذيان : بسم الله الرحمن الرحيم .. بسم الله الرحمن الرحيم .. اللهم أني أعوذ بك من الشياطين ومن أن يحضرون
ضحك ليُردف : وش فيك أنخرشت؟ . . أقترب منه ليلتقط إسم صالح العيد.
متعب : والله يا أحمد أنه ما كان موجود قبل شوي!
أحمد : شكل حرارتك مرتفعة اليوم
متعب بعصبية : أقولك والله ماكان موجود! مين دخل بعدنا ؟
أحمد : يمكن ماأنتبهتوا له
متعب أخذ نفس عميقًا : اللي قاعد يصير هنا مو طبيعي! .. طلّ عليهم سكرتير عبدالرحمن آل متعب : أنتم هنا! جهزوا نفسكم فيه إجتماع بعد ساعة
متعب يسحب الملف ليتجه نحو مكتب عبدالرحمن، طرق الباب ودخل : لقيته طال عمرك
عبدالله بدهشة ينظر إليه : وين ؟
عبدالرحمن يقف مقتربًا منه ليأخذ الملف ، متعب بلع ريقه : في مكانه
عبدالرحمن : نلعب إحنا!
متعب : والله العظيم قدام أحمد حتى! لقيناه في مكانه
عبدالله : تونا قبل شوي ما كان موجود شي ، كذا نزل من السماء
متعب ويعرفُ قوة عبدالله اليوسف وغضبه : لا الله يسلمك بس هذا اللي حصَل دخلت عشان أدوّره مع أحمد ولقيناه بمكانه
عبدالرحمن بحدَّة : شف يا متعب أعصابي بروحها مشدودة لا تنرفزني أكثر!
متعب بربكة : والله العظيم هذا اللي صار
عبدالرحمن تعتلي نبرته لتصِل للممر الخارجي : قبل شوي كنا هناك وماكان فيه شي!
متعب يُشتت نظراته : تقدر تشوف بكاميرات المراقبة!
عبدالرحمن يتجه نحوه والكل في هذه اللحظة يبتعد عن طريقه، وصَلت حالة الحليم الذي أبتعد عن شرِّه إن غضب، نظر للشاشات : طلعه ليْ.
زياد بعد أن مسح الشريط الذي يسبقُ دخوله، بهدُوء ضغط على زر الإعادة ليعرض دخوله مع عبدالله ومن بعدِه دخول متعب و أحمد وما بينهما صُورة مثبتة لم تشهد أيّ تغيير لأنه أستطاع بسهولة أن يقصّها.
عبدالرحمن يُدقق في الدقائِق، كانت 8:55 و من ثم 9:20 وما بينهما أقل من 25 دقيقة : لحظة أرجع
يعُود للبدايَة دُون أن يرى شيئًا مختلفًا، عبدالرحمن ينظرُ لزياد بنظرةٍ أربكته : أعرض لي الممر اللي قدام الأرشيف
زياد يضغط على الكاميرَا الأخرى لتعرض له سير جميع الموظفين على الممر، عبدالرحمن : بعد 8 و55 دقيقة .. شف مين مشى؟
زياد يضغط على الوقت ليتم تسجيل كل من سارُوا في الممر دُون أن يتحدد من الخارج، عبدالله بدهاء : أخذ الكاميرا الأمامية
زياد مدّ قدمِه أسفل الطاولة ليسحب إحدى الأسلاك عشوائيًا وينغلقُ نظام المراقبة. رفع عينه : ممكن عطل فني .. وقف . . أشوفه بس
عبدالله بشك : يا سبحان الله هالعطل جاء الحين
عبدالرحمن : دواهم عندي
زياد ينحني خلف الطاولة بحجةِ إصلاح العطل في لحظةٍ كان يُقطِّع بها الشاشة المسؤولة عن الكاميرا الأمامية.
عبدالله ويشعرُ بالمسؤولية، بشعُور الثقل على أكتافه كما كان قبل تقاعده : وش قاعد يصير هنا! وش هالفوضى ؟
عبدالرحمن تنهَّد : يارب رحمتك . . . نظر لمتعب وهو يشعر بان فاجعة أخرى تنتظره .. يالله كمِّل علي بعد
متعب ويوَّد لو يتوسَّل إليْهم بأنه ليس ذنبه أن ينقل الأخبار السيئة، أخذ شهيقًا ليُردف : عبدالعزيز
عبدالرحمن بخوف : وش صاير ؟
متعب : عند رائد
عبدالرحمن بغضب : قلت له لا يطلع . . .
متعب بربكة حقيقية : بس .. يعني .. يعني بنتك طال عُمرك
تجمَّدت أعصابها التي أشتعلت بغضبها : بنتي!!!
متعب : عند رائد بعد . . خطفها
عبدالله أتسعت محاجره بصدمة لا يسبقها صدمة أخرى، إختطاف تعني موتٍ من نوع آخر هذا ما نؤمن به.
عبدالرحمن يشعرُ بيدٍ من حديد تقتلعُ قلبه في هذه الأثناء، كان بيدِه ملف صالح العيد ضربه في عرض الحائط ليخرج،
عبدالله بهيبته أردف : خذ الملف ومفتاح الأرشيف يجيني مفهوم يا متعب ولا أعيد الكلام ؟
متعب : أبشر!
يدخلُ مكتبه بغضبٍ كان من النادِر أن يصِل لهذا المستوى، صرخ على سكرتيره : أحجز لي على باريس بأسرع وقت!
أخذ هاتفه ليتصِل على الأمن الذي وضعه في باريس، أستمر لدقائق ولم يُجيب أيّ أحدٍ منهم، أغلقه ليتصل على هواتفٍ كثيرة أنتهت بهاتفِ عبير بعد أن ظنّ أن رتيل هي المخطوفة، على بعُدِ مسافاتٍ طويلة كان يهتز الهاتف أمامه، ضحك بشماتة وهو يقرأ الإسم " ضيّ عيني " لا أحد يستحقُ الإسم هذا غير " عبدالرحمن " وها أنت تأتِ بكامل إرادتِك، بعد أن تلاعب بأعصابه وأطال برنينه حتى أجابه بصوتِ مُنتصر : و عبدالرحمن آل متعب بجلالة قدره يكلمنا !
عبدالرحمن يُدرك من صاحب هذا الصوت : تلعب بالنار!
رائِد : وأنا أحب النار
يتبع ,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك