رواية عرسنا في الجنة -1

رواية عرسنا في الجنة - غرام

رواية عرسنا في الجنة -1 

رواية عرسنا في الجنة 
الكاتب المهندس الأستاذ: عزام حدبا 
عرسنا في الجنة ... 
تأليف: 
م. عزام حدبا 
إهداء 
الى كل شاب نذر نفسه في سبيل الله 
والى كل فتاة تريد عرسا في الجنة.. 
وطني
لا احد يعلم على وجه اليقين ما هو سبب اندلاع الحرب في وطننا.. الكثير يرجعون هذا الامر الى مجزرة
ارتكبت بحق ركاب باص مدني على يد مسلحين مجهولين في قلب العاصمة.. لكن السبب الحقيقي ابعد من
ذلك ولا شك .. كانت النار تشتعل تحت الرماد على مدى سنين.. فتن مذهبية بين طوائف متناحرة، تدخلات
اجنبية جعلت البلد مسرحا لحروب الآخرين على ارضنا، لا مبالاة المسؤولين في احيان كثيرة وطمعهم في
كل حين.. من الصعوبة بمكان ان نصنف البلد الذي نعيش فيه على انه وطن.. فلطالما كان كيانا هشا ركبته
الارادة الدولية على عجل جامعة فيه اقصى التناقضات... لم يكن غريبا في هذا البلد ان ترى البيكيني يسير
قرب الشادور ولا ان تفتح المواخير امام المساجد. لم يكن غريبا في هذا البلد ان تندلع اقسى المعارك واقواها
بين ابناء الصف الواحد والطائفة نفسها فالاقربون اولى بالمعروف وحينما يتحرك الطمع في النفوس تسقط
روابط القربى والدين. لم يكن في هذا البلد مبادىء ثابتة ولا احلاف ثابتة. الكل كان مستعدا ليتعامل مع
الشيطان. والكل تعامل معه في فترة من الفترات ولو من تحت الطاولة. ارتضى الشيطان ان يكون البعبع
الذي يخيفون به الناس طالما كان يرى ان مصالحه محفوظة. ارتضى ان يكون الجندي المجهول في الحرب
الذي لا يعرف فضله في اندلاعها و اذكائها احد...
واليوم وبعد خمس وعشرون سنة من هذا الحدث الاليم.. اتساءل هل انتهت الحرب حقا؟ ام انها ما زالت
تشتعل تحت الرماد وبحاجة لمن يطلق الشرارة الاولى كي تنفجر من جديد. احيانا اطمئن واقول مستحيل ان
تعود الحرب. لقد سئمها الناس وادركوا عبثيتها ولكن كلما تذكرت ان المسؤولين الذي يحكمون البلد الآن هم
انفسهم قادة الميليشات وسادة الحرب تشاءمت فصكوكهم مع الشيطان لم تنته صلاحيتها.. ولا ادري متى
سيطالبهم بالدين. وها اني امسكت قلمي اليوم محاولا ان استرجع بذكرياتي احداثا اليمة عايشتها بنفسي .. لن
ادعي اني ساؤرخ الحرب فالصورة اكبر بكثير من ان احيط بها.. ساكتفي بأن انظر الى انعكاس صورة
الحرب في عيني ابطال هذه القصة .. بالنسبة للكثير كان هؤلاء الابطال مجرد ارقام اضيفت الى قافلة طويلة
من ضحايا الحرب، اما بالنسبة لي، انا التي عايشتهم بنفسي فقد كانوا ابطالا اسطوريين صبغت الحرب
حياتهم بالدم والدموع.
هدية اسامة
كان منزلي الذي ترعرعت فيه يقع على اطراف المدينة وكنت اشعر بأني محظوظة بهذا الموقع الفريد فلم
تكن الكتل الخرسانية والاسمنتية تحيط بنا من كل جانب كمعظم ابنية مدينتنا بل كانت بساتين الزيتون
والليمون تمتد امامنا على مد النظر.. وكنت في اوقات كآبتي التي لا تنتهي اخرج الى الشرفة ربيعا واتنشق
ملء رئتي عبير زهر الليمون واخرج شتاء فاصطلي بشمس خجولة تحتجب وراء الغيوم من فترة لاخرى.
وكان ابن عمتي اسامة يسكن مع والدته واخته ليلى في الشقة التي قبالتنا منذ ان توفي والده شهيدا على الهوية
عند احد الحواجز الطائفية ابان الحرب. كان يكبرني بسنتين وعلى رغم نفوره من البنات في فترة مراهقته فقد
كان يعزني كثيرا لربما لأنه لم يرني يومها كفتاة .. لم يرني يومها كفتاة؟؟ لا.. كي اكون صادقة مع نفسي
هو لم يرني يوما واحدا كفتاة. في المشاهد الاولى من القصة ساحاول ان اتحدث عنه واعرفكم به ومن ثم
سانسحب تدريجيا لاتركه يكمل القصة عني فهو الذي يستحق ان يكون راويها لا انا كون احداث هذه الرواية
مستقاة من مذكراته التي كان يحرص على كتابتها يوميا. ولن يكون تدخلي الا في ملىء بعض الثغرات التي
تركها في مذكراته او تلك التي لطختها دماءه الزكية في ذلك اليوم المشؤوم. لم يحاول اسامة في مذكراته
التركيز على جرائم الخصم رغم وصولها الى حد لا يصدق من الفظاعة والبشاعة فقد كان يعرف ان الحرب
ستنتهي يوما ولم يكن يريد ان ينكأ الجراح. لقد ركز اسامة على ما فعلناه نحن بحق انفسنا وبحق شعبنا
متوقعا من الخصم ان يحذو حذوه في ممارسة النقد الذاتي للممارسات الوحشية التي قام بها. اول مشهد اتذكر
اسامة فيه هو منظر والدته تشده من ثيابه وتصرخ فيه "تعال يا مجنون.. انزل معنا الى الملجأ.." كان يجلس
على الشرفة يراقب القذائف المنهمرة كالمطر وكأنه ينظر الى مفرقعات نارية تطلق احتفاء بعرس بهيج. لا بل
كان يتسلى باحصاء القذائف او الصواريخ وبمحاولة سبر نوعيتها من ازيزها. كان اسامة شجاعا.. لا اتذكر
ابدا اني رأيت في عينيه نظرة الخوف.. وكي اكون صادقة رأيتها فقط حينما كان يتكلم عنها.. فقد كانت هي
الشيء الوحيد – من هذه الدنيا بالطبع - الذي يجعل لحياته معنى كما كان يردد.
كان اسامة يعاملني كأخته ليلى تماما يخاف علي كما يخاف عليها وقد ترك استشهاد والده احساسا مبكرا
بالرجولة عنده فكان يغار علينا ويحرص على قضاء حوائجنا كي لا يحيجنا للخروج من المنزل اذ كان
متزمتا جدا من هذه الناحية. وكان مولعا بالحرب بشكل غريب بحيث لا يتخيل نفسه الا مقاتلا شرسا ممتطيا
الجيب العسكري وممسكا مضاد الطائرات بيديه الاثنتين.. وكثيرا ما كان يناديني كي اساعده في عصب رأسه
بشريطة حمراء مثل رامبو كان يتحول اثرها الى السوبرمان "الرجل الخارق" على حد زعمه.
وكان لا يفتأ يردد امامي: انظري يا حنين.. عندما اعصب رأسي بهذه فانا لا اخاف شيئا.. لا يؤثر بي
الرصاص ولا حتى الصواريخ..
كنت اضحك كثيرا اذ رغم انه يكبرني بسنتين فقد كنت واقعية جدا ولم اكن اصدق ان هذه الشريطة الحمراء
الرثة ممكن تحميه من الاخطار. ولكن الآن.. في هذه اللحظات بالذات.. حينما استرجع ذكرياتي اعتقد اني
بدأت افهم ماذا تعني له هذه الشريطة.. لم يكن يؤمن كما كنت اظن بانها تحيطه بهالة وهمية تحميه من
المخاطر بل كانت مجرد رمز بالنسبة له.. كانت رمزا يذكره بأن لا مستحيل مع وجود التصميم والارادة.
كان اسامة ينتهز فترة الهدوء بين المعارك لينزل الى ارض المعركة واعدا نفسه بصيد وفير من خراطيش
الرصاص الفارغة وغلة وافرة من شظايا القذائف ولكم كان يسر حينما يجد بقايا صاروخ "غراد" يتعاون
على حمله هو وصديقه الحميم حسام الى مخبئهما السري تحت انقاض احدى العمارات التي هدمتها الحرب.
لا زلت اذكر اول واغلى هدية قدمها لي اسامة .. كانت عقدا من خرطوش الكلاشينكوف الفارغ خاطه بعناية
و رصعه في منتصفه بخرطوشة مضاد الطائرات .. ومع انه قدم لي بعدها كثيرا من الهدايا الثمينة خاصة
عندما ترأس منظمته السرية الا اني لم ولن انس هذه الهدية الثمينة. "انتبهي يا حنين..." قال لي يومها، "لا
تجرحي يدك بها فان كانت صدئة فقد تصابين بالغرغرينا". نعم، رغم استهتاره الواضح بحياته فقد كان
يحرص علي.. ويحرص على كل احبائه من ان يصيبهم ادنى ضيم اوخدش حتى لو كانت نسمة هواء باردة
تلفح وجوههم.

فتاة في المدرسة

كانت شخصية اسامة قيادية منذ الصغر فاستطاع ان يفرض شخصيته على محيطه حيث كان يحظى بطاعة
عمياء من شلته، بالنسبة لاسامة كانت الدنيا تنقسم الى لونين فقط: ابيض واسود.. لم يكن هناك من لون
رمادي عنده. وكان يصنف الناس اما معه واما ضده.. اتباع او اعداء.. هذه هي الدنيا بنظر اسامة. فقط
شخص واحد حظي بثقته الا وهو حسام صديق الطفولة.. وبحضوره ومشاركته بدأت اغرب قصة نسجت
فصولها الاقدار. كنت انا واسامة - كمعظم ابناء الطبقة الوسطى التي تحرص على تعليم اولادها افضل تعليم
- ندرس في مدرسة ارساليات تابعة للكنيسة الكاثوليكية الايطالية وكانت ادارتها صارمة و تعليمها ممتازا
خاصة في ما يختص اللغات الاجنبية حيث كان يفرض علينا الا نتكلم العربية حتى في الملعب وطبعا كان
اسامة يهزأ بهذا القرار ويتحداه لقوة اعتزازه بلغته الام ولو كلفه هذا ان يعاقب او يؤنب. وهو بأي حال قليلا
ما كان يعاقب فقد نال حظوة عند كثير من المدرسين نظرا لاجتهاده و تفوقه. ولكن مع كل هذه المعاملة
المميزة من الادارة له لم يبد لي ان اسامة كان مرتاحا لجو مدرسته. واثبتت الايام صدق ظني..
لم يكن قد مضى على ابتداء السنة الدراسية اكثر من اسبوع حين هرع حسام الى صديقه اسامة قائلا: اسمع
يا اسامة ها هو قاسم آت الينا. لا تعره أي انتباه.
اسامة: لماذا؟ لطالما كان من خيرة جماعتنا؟ ماذا فعل؟
فتقدم حسام وهمس في اذن صاحبه بكلام غير مسموع وعلى الاثر هز اسامة رأسه اسفا وقال "ليس هذا
مستغربا.. دائما ما كنت اقول عنه مخنث"
واقترب قاسم منهم وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة بريئة "السلام عليكم ايها الاصدقاء" ولدهشته لم يرد احد
منهم عليه بل اشاحوا بوجههم عنه ..
قاسم: لماذا تعاملوني هكذا؟ ماذا فعلت معكم؟؟
"انظر.. يتظاهر بالبراءة وكأنه لا يعرف ماذا فعل" قال حسام وهو ينظر الى اسامة.
"لقد خنت الامانة.. انحرفت عن الصراط المستقيم .." قال اسامة بلهجة صارمة.
قاسم: لم افهم.. امانة؟؟ صراط؟؟ ما هذه التعابير الصعبة؟؟
اسامة: طبعا صعبة لانك تركت دروس المسجد وبدأت تصاحب البنات.
قاسم: اصاحب البنات؟؟ اقسم بالله ان ليس لي اصدقاء غيركم.
اسامة متوعدا: لا تقسم بالله كذبا فتدخل النار وبئس المصير.
وتابع حسام منفعلا وقد احمر وجهه "لقد رأيتكما معا بعيني اللتين سيأكلهما الدود.."
فامسك قاسم بقميص حسام وقال له "استحلفك بالله ان تتكلم.. رأيتني مع من؟؟ تكلم.."
حسام: تظاهر بالبراءة ايها الثعلب .. الم تكن البارحة تتكلم مع هذه الفتاة الجديدة في المدرسة؟؟
قاسم مدهوشا: "اتقصد عبير؟؟ كانت تساعدني في مسألة في الرياضيات فحسب"
فقال اسامة بتهكم واضح "رياضيات؟؟ صدقتك كثيرا. الفتيات فارغات العقول ولا يتقن الا الحفظ الببغائي.. "
قاسم: ربما ولكن عبير مختلفة. لقد اخذت العلامة الكاملة في هذه المادة..
صمت حسام صمتا مريبا واما اسامة فلم يصدق وقال "هذا غير معقول.. انا الاول في شعبتي ولم احظ
بالعلامة الكاملة يوما في الرياضيات.. انت تعرف ان الاستاذ حسيب صعب جدا في التصحيح.."
قاسم__________: بامكانك ان تسأل طلاب شعبتي ان اردت..
اعترف اسامة بالهزيمة وتمتم "فتاة تأخذ العلامة الكاملة في الرياضيات؟ لا بد انها قبيحة اذن.. ترتدي
نظارات طبية كبيرة وشعرها اشعث.. و.."
فتدخل حسام وقال بنبرة مهزومة "لا لقد رأيتها.. وجهها جميل كالبدر.."
وتابع عنه قاسم فقال "اما شعرها.. "و صمت هنيهة ثم اردف "لا نعرف .. فهي محجبة"
فتمتم اسامة في نفسه قائلا "محجبة؟؟ محجبة في مدرسة ارساليات؟؟" وسرح في الافق حتى بدا وكأنه في عالم
آخر..
نعم كما استشعرت بحاستي السادسة، لم يكن اسامة يشعر بالراحة لحظة واحدة لمكوثه في مدرسة ارساليات
مختلطة فقد كان يتمنى ان يتعلم في مدرسة رسمية للبنين فقط. لطالما كان اسامة يعتبر في طفولته - كسائر
الصبيان من سنه - ان البنات كائنات ضعيفة يتفوق عليهن بسهولة في السباق والتسلق واستعراض القوى
ولطالما حبب اليه وهو صغير ان يشد شعر الفتيات من اقاربه (باستثنائي طبعا فانا كنت طفلته المدللة كما
يردد) فكان يضحك كثيرا عندما يرى دموعهن السخية تجري على الخدود.. وكانت اهم هواياته بعد كرة القدم
وجمع بقايا الصورايخ وشظاياها ان يتلذذ بتعذيب القطط والكلاب والبنات وربما في لاوعيه لم يكن ليفرق بين
الاجناس الثلاث. لكن لم يستطع اسامة ان يفهم سر هذا الاحساس الغريب الذي بدأ يسري في عروقه مع
مداهمة سن البلوغ.. لم بدأ يشعر بالضعف امام الفتيات ويحلم بالاستماع لاصواتهن الرقيقة او تتبع ملامح
الانوثة في اجسادهن؟؟؟ كانت هذه اسئلة اصعب من ان يستطيع عقله اليافع ان يجيب عليها .. فكان يقول في
نفسه لا بد وان الاناث ساحرات .. لا بل شياطين.. الم يقل الشيخ مسعود في خطبة الجمعة ان المرأة تقبل
في صورة شيطان؟ الم يقل ان اكثر اهل النار من النساء؟؟ بلى كان اسامة يؤكد..

النفور من المدرسة

المتأمل في تاريخ مدينتنا سيجد ان مسجد الرحمة بزخرفته الاثرية وقبته الخضراء ومأذنته الحجرية هو من
اقدم المساجد في المدينة ويقال انه يعود الى عصر المماليك حيث امر ببنائه الامير طولون.. ولا ريب ان اي
دولة تحترم نفسها كانت لتجعل منه تحفة معمارية ومزارا للسواح ولكن في وطننا ليس للبشر قيمة فهيهات ان
يكون للحجر... وكان الشيخ مسعود إمام هذا المسجد رجلا سبعينيا تزين وجهه لحية بيضاء وقورة وكان
يحظى باحترام وتقدير جانب اهل المنطقة لتواضعه و اندماجه بالناس و يسر فتاويه التي راعى فيها دوما
حالة السائل دون ان يحيد عن قطعيات الدين مرددا عبارة "يسر ولا تعسر.. بشر ولا تنفر". غير انه اذا اعتلى
المنبر تحول الى انسان آخر يرغي ويزبد ويتوعد بجهنم حتى يشعرك انها تكاد تلفحك بنارها وكم اسال
الدموع انهارا من خشية الله في خطبه النارية غير انه مع ذلك لم يهمل جانب الترغيب في الدعوة فكان احيانا
يصف للمصلين الجنة بحورها وقصورها وانهار الخمر والعسل واللبن وفاكهتها التي لا ينضب معينها حتى
لكأنك تكاد تطال عنقودا من اعنابها بيديك. ولكن لما كان اسامة احادي النظرة في هذه الامور فهو لم يحفظ
من كلام الشيخ الا الوعيد. ومع ان الشيخ مسعود لم يكن يروج ابدا لهذه الافكار العدائية ضد النساء بل كان
يقول هذا الكلام في وصف المتبرجات المستهترات فقط الا ان اسامة في هذا السن لم يفهم هذا الاسلوب بل
كان يعمم كلام الشيخ على النساء كلهن حتى انه طور مع شلة من اصدقائه عقيدة خاصة بهم تعتبر ان البنات
شر مطلق وان مجرد الكلام مع بنت اثم كبير يستحق ان يغمس صاحبه في النار. ومع كرهه العميق للجنس
الآخر فقد كان اسامة يحب والدته انيسة كثيرا فقد كانت كل شيء بالنسبة له بعد استشهاد والده. كانت الاب
والام والصديق.. ولم يكن يرى فيها الانثى ابدا.. بل يراها فقط كأم. لذلك فهو ما كان يصدق ابدا ان ما
يتحدث عنه زملائه الصبيان عن العلاقة بين الرجل والمرأة ممكن ان يكون جرى يوما بين امه وابيه فوالده
شهيد ضحى بحياته من اجل الدفاع عن مدينته ووالدته طاهرة جدا ولا تقوم بهذه الافعال الشائنة الدنسة.
وظلت السيدة انيسة مستودع اسرار ابنها حتى سن البلوغ حيث بدأ يخفي عنها اسرارا كثيرة يصنفها
رجولية و اصبح ينظر الى نفسه على انه رجل الاسرة فلا يليق به ان يعبر عن احساسه بالضعف او الخوف
امامها بعد الآن. لا بل انه مارس دوره التسلطي باكرا مع اخي الصغير "رائد" فكان ينهره ويضربه اذا بكى
لأن الرجال لا تبكي.. متناسيا انه في عمره كان يبكي وبحرارة ايضا.. ولأتفه الاسباب. المهم في ذلك اليوم
وعقب "خيانة" قاسم جاء اسامة الى والدته منكس الرأس وكأنه قد خسر للتو معركة ستالينغراد. وبقى لثوان
صامتا جريا على عادته فجذبته السيدة انيسة نحوها بحنان وقالت:
ما بك يا بني؟؟ الم توفق في الامتحان؟؟ ثم تابعت بمكر "هل اخذت تسعة على عشرة؟؟" اذ كانت تعرف ان
ابنها ينشد الكمال وان اكبر همومه هي فشله في نيل العلامة الكاملة.. لكنه فاجأها بموضوع آخر.
اماه انا لا اريد ان ابقى في هذه المدرسة.. اريدان انتقل الى مدرسة رسمية
فهزت السيد انيسة رأسها استغرابا وقالت لماذا يا بني؟ انها مدرسة ممتازة والتعليم فيها افضل من..
ولكن نفس الاساتذة يعلمون في المدارس الرسمية..
بني.. اظننا سبق وتكلمنا في هذه القضية من قبل. المشكلة في المدارس الرسمية هي في ضعف الادارة
ونوعية الطلاب.. انهم بلا اخلاق.. ثم ان المدارس الرسمية لا تهتم بتعليم اللغات الاجنبية ..
انا لا يهمني ان ادرس لغات.. انا لن اسافر الى الغرب .. انهم اعداؤنا.. انا لا افهم كيف تضعيني في
مدارسهم في الاصل؟ لقد قتلوا هم واتباعهم والدي..
بني لا تحمل هذه النظرة القاسية عن الآخر.. في كل مكان هناك الصالح والطالح..
لكن مدرستنا يعم فيها الفساد..
فاستغربت الام هذا السؤال وقالت "ماذا تقول؟ انها مدرسة راهبات.. انهم لا يسمحون باي شيء مناف
للاخلاق هناك.."
اسامة: حقا؟؟ وماذا تقولين عن الاختلاط والفتيات اللواتي يقمن باغراء الشباب.. بالامس سقط واحد من اعز
اصدقائي في براثن احداهن..
"احداهن؟؟ من اين تأتي بهذا الكلام؟؟" ضحكت السيدة انيسة وضمت ابنها الى صدرها.. ثم قالت "بني.. هذا
هو المجتمع .. لا نستطيع ان ننعزل عنه.. طبائع الناس مختلفة.."
"واين الامر بالمعروف والنهي عن المنكر؟؟ "
"بارك الله فيك يا بني.. هذا تمارسه حينما تكبر وتصبح في سن تفهم فيه اولويات الدعوة. احب ان اراك
عالما متفهما ومعتدلا كما كان والدك رحمه الله.." ثم انها ضمته بشدة ونظرت الى صورة الشهيد وبكت بكاء
مرا.. وتمتمت في سرها "اشتقت لك.. الحمل اصبح ثقيلا علي وحدي.. ابنك يحتاج لرجل كي يوجهه.."
منافس جديد على العرش
لكن.. من هي هذه الفتاة التي ارقت مضجع اسامة والتي كتب لها ان تلعب الدور الاكبر في حياته القصيرة؟
عبير فتاة من وطني نشأت في الخليج حيث ترك والدها السيد رأفت استاذ الرياضيات المعروف وطنه مهاجرا
الى هناك ليحصل لقمة العيش الكريمة بعد ان سدت في وجهه الطرق. وبعد عشر سنوات قضاها هناك آثر
الاستاذ رأفت ان يعود الى وطنه خاصة بعد ان حاول بعض افراد الادارة الجديدة للمدرسة التي يعلم بها
ممارسة بعض الضغوط عليه كي يميز بين الطلاب حسب درجة قرابتهم للاسرة المالكة وهو ما كان مرفوضا
تماما عنده. لم يكن السيد رأفت والد عبير من نوع الآباء السلطويين القساة القلوب بل كان يؤمن بوجوب
مصادقة بنيه متى كبروا.. وكان ينتهز فترة الغداء ليستمع الى اخبار ابنائه من دون كلل او ملل حيث كان هذا
هو الوقت الوحيد المتاح للاسرة كي تجتمع معا. وكثيرا ما كانت السيدة نادية زوجته تضيق ذرعا بثرثرة
اولادها وتنهرهم فيرمقها بنظرة عتاب حانية فترتدع وتلتزم الصمت حتى ينهي الاولاد قصصهم. كان السيد
رأفت رجلا فريدا من نوعه، يمارس دور المربي باسلوب باهر حيث يحرص على توجيه الاشارات الى
اولاده بمنتهى الهدوء والحب والحنان والتفهم ولكن دون ان يتخلى عن الحزم إذا لزم الأمر. ومن دون سائر
بناته كان السيد رأفت يكن معزة خاصة لابنته البكر عبير. كانا صديقين بكل ما في الكلمة من معنى حيث انها
ورثت عنه حبه للعلم والرياضيات وتذوق الادب. كانا يقضيان الساعات الطوال معا يتناقشان في تحليل رواية
ما او في حل معادلة حسابية. بالنسبة لعبير لم يكن السيد رأفت ابدا مجرد والد تنتهي مسؤوليته عند حدود
الانفاق على الاسرة كسائر آباء صديقاتها بل كان المثال الأعلى لها وقدوتها لدرجة انها لم تستطع ان تتخيل
فارس أحلامها الا بصفات تطابق صفاته وملامح تشابه ملامحه ..
ومرت الايام ونبذت شلة اسامة قاسم بعيدا عنهم كأنه البعير الاجرب ولقب بالخائن الذي تجرأ وكان اول من
يتكلم مع فتاة من الشلة مع ان المسكين لم يعد الكرة ابدا. وهم قاسم عدة مرات بالاعتذار من اسامة وتوضيح
الموقف ولكن عبثا ففي عرف اسامة " المتكلم مع البنات كساب الرسول لا تقبل توبته". وانا الآن اذ اخط هذه
العبارات ادرك يقينا مدى الظلم الفادح الذي الحقه اسامة بقاسم حين اتهمه بالتقرب من عبير. كانت عبير
جميلة جدا ولا شك وفتنت معظم فتيان صفها الا قاسم بالذات فالقلب الممتلىء لا يتسع لاثنتين وقلب قاسم لم
يكن شاغرا. ومر عام على هذه الحادثة وترفع اسامة الى الصف الثانوي الاول حيث اجبرت الادارة على ضم
كل الشعب في صف واحد نظرا للرسوب الكبير في الشهادة الرسمة البريفيه ولاختيار عدد كبير من الطلاب
التعليم المهني بديلا عن الثانوي. وكان اسامة قد تعود ان يكون الاول في صفه منذ صف الحضانة بدون
منافس جدي. وكان هذا الامر يعني له الكثير اذ ان زعامته للشلة مرتبطة بتفوقه عليهم فكريا وليس جسديا
فقط خاصة وانهم كانوا ينظرون اليه كأنه نابغة عصره الذي لا يعجز امام أي تحدي. وبدا منذ الايام الاولى
ان عبير ستكون منافسا جديا له فقد كانت تتمتع بطلاقة رهيبة في اللغات، ولم تكن في الوقت نفسه ضعيفة في
مواد العلوم التي طالما اعتبرها هو من اختصاص الذكور.
الثعلب ذو النظارات
كان المستر سميث استاذا للادب الانكليزي والفلسفة في المدرسة مند فترة طويلة .. ورغم انه مكث في البلاد
عشرين عاما يدرس آدابها وثقافتها الا انه لم يطبق المثل القائل "من عاشر القوم اربعين يوما صار منهم" فلم
يستطع ولا للحظة ان يتأقلم مع طريقة التفكير العربية.. كانت طريقة العرب في التفكير عاطفية مثالية بنظره
فيما كان هو يقدس العقل والمنطق والمصلحة لا بل لم يكن يميز بين المنطق والمصلحة اصلا فكل ما يصب
في مصلحته يعتيره منطقيا. والسؤال الذي حيرني دوما: لماذا يقيم هذا الغربي بيننا ان كان يكره ثقافتنا الى
هذا الحد؟؟ كيف يتحمل الحياة في بلد تثخن فيه الحرب جراحا ويترك بلادا غنية ومتحضرة؟؟ بنظري كان
استاذ المنطق المستر سميث لا منطقيا ابدا في تصرفه هذا.. واثبتت الايام صدق حدسي.
لم يكن اسامة يرتاح ابدا لهذا الرجل وكثيرا ما كان يقول لي انه يخفي وراء نظاراته الطبية عيون ثعلب
وتحت قفازاته المخملية مخالب الذئب. وفي الحقيقة لم يكن هذا الموقف موقف اسامة فقط بل موقف معظم
طلاب الصف اذ لم يستطيع المستر سميث ان يدخل في قلب احد الا في قلب قاسم فقد تفرد به كما يتفرد
الاسد بالحمل المعزول عن القطيع واستطاع ان يؤثر فيه تأثيرا قويا مستغلا وحدته التي نشأت بعد مقاطعة
شلته القديمة له. وفي احد الايام دخل المستر سميث الصف ليعطي حصته ووضع كراريسه على المكتب ثم
اتكأ عليه بطريقة مسرحية وسأل مناورا: هل الاعدام عقوبة همجية؟ اريد ان افتح حوارا حول الموضوع..
وهنا سأل قاسم متلهفا: وما رأيك انت يا استاذ؟؟ انت تعرف اكثر منا..
فاجاب سميث وهو يذرع الرواق جيئة وذهابا: رأيي -ولا افرضه على احد- بأن عقوبة السجن ممكن تغني
عن الاعدام.. والاعدام بنظري عقوبة قاسية جدا وتنتمي الى العصور الوسطى ولا مكان لها في عالمنا
الحاضر. لا يحق للانسان ان يسلب روح انسان آخر تحت أي ذريعة.
وهنا رفع حسام يده ليجيب: ولكن الاسلام يقول "ولكم في القصاص حياة يا اولي الالباب" مقرا عقوبة الاعدام
للقاتل..

يتبع ,,,,

👇👇👇
تعليقات