بداية

رواية الذوق الاسباني -1

رواية الذوق الاسباني - غرام

رواية الذوق الاسباني -1 

لورا والدوق الاسباني 

حجرة مليئة بالملابس الملونة الزاهية الفاخرة و الحقائب و الأحذية ذات العلامات التجارية المعروفة كديور و برادا و غوتشي و غيرها و على التسريحة وضعت أنواع من مساحيق التجميل ذات الجودة العالية .. و حجرة أخرى بيضاء مليئة بالأدوات الثقيلة و الأجهزة السوداء و والمصابيح العملاقة و أسلاك كهربائية ممتدة إلا مالا نهاية .. و فيها شخص يصرخ في كل ثانية و أخرى أما منتقدا أو مادحا .. هذا بالإضافة إلى الومضات ساطعة تزيد الحجرة بياضا و تعمي العيون .. . هذا المكان يطلق عليه (الأستوديو)!!!
كانت واقفة تقوم بحركات مختلفة حتى تتلقاها الومضات في كل الأجناب .. على اليمين و الشمال .. جالسة و واقفة .. متخصرة و منبسطة .. ترتدي فستان سهرة ابيض فأحمر فالأخضر و الأسود و الملون .. أو فستان قصير .. أو آخر بلا أكمام .. و من ثم تخلعها لترتدي ملابس رياضية مريحة أو ملابس عملية أخرى .. و من ثم تخلعها لترتدي جينز و قميصا ... فساتين.. و إما ترفع شعرها الأشقر بأكمله .. أو تسدله أو جزء منه ... أو ترتدي قبعة و على هذا المنوال تقريبا كل يوم خلال أربع ساعات متواصلة أو أحيانا تصل إلى يوم كامل ..
صاح بصوته المبحوح
- " يكفي .. "
و أخيرا نطق بها .. تركت الحجرة البيضاء و ألقت بجسدها المنهمك على الكنبة في غرفة التبديل الغير مرتبة .. أغمضت عيناها لخمس دقائق حتى شعرت به يندفع داخلا مزعزعا هدوئها و سكينتها
- " غدا موعدنا في الثامنة صباحا أرجوك لا تتأخري مثل اليوم "
فتحت عيناها و هي لا تصدق بأنه اتهمها بالتأخير
- " لكنني لم أتأخر اليوم يا سام بالله عليك لقد دخلت بعدك بخمسة دقائق "
- " نعم و أنا اعتبر من يدخل بعدي بخمسة ثواني متأخر و مقصر أيضا .. أنني أقول ذلك لمصلحتك يا عزيزتي .. يجب أن تصدر الصور و ترسل إلى المجلة بأسرع وقت ممكن .. "
- " اعرف ذلك اعرف .. لا ينبغي لان تكرر ذلك في كل مرة .. "
- " إنني ..."
قاطعته و استقامت واقفة .. ارتدت معطفها و قالت قبل أن تهم بالخروج
- " سأذهب .. أراك غدا .. "
صاح بصوت عال حتى تسمعه و هي خارجة
- " لا تنسي أن تهتمي بذلك الوجه الجميل فهو مصدر رزقنا "
لم تستطيع أن تغادر دون أن تبتسم و هي تسمع هذا التعليق الصادر من سام ديكاري صديقها المصور و مدير أعمالها أيضا ..
قادت طول الطريق حتى توقفت أمام ملهى ليلي ..تعطرت و أصلحت من احمر شفاها الفاقع و رتبت من هندامها و شعرها قبل أن تغادر السيارة ..
سمعت تعليقات الشباب الذين مرت بالقرب منهم التي اعتادت عليها على منظرها المثير لذلك تجاهلتهم و دخلت القاعة الكبيرة التي تقام فيها حفل عيد ميلاد صديقتها المقربة جاكلين روبرت .. لم ينتبه أحد لدخولها فالمكان صاخب و الأضواء خافتة و الحضور يملئون القاعة .. دارت بعينيها على المكان و لم تجد أثرا لجاكلين فقررت أن تجلس على البار و تترك أمر صديقتها لوقت آخر بعد أن تحتسي كأسا أو اثنين ..
- " كيف أخدمك يا آنسة ؟! "
سألها عامل البار بنظرات إعجاب و كأنه تعرف عليها أو شبه على ملامحها ..
- " تكيلا من فضلك "
سكب لها و ناولها إياها و وقف يحدق بملامحها ..
- " ماذا ؟! أليس لديك زبائن أخرى غيري ؟ "
قالت بانزعاج ..فقهقه ساخرا و ابتعد عنها .. رأته يهمس إلى زميله و ينظرا إليها و يبتسما .. تركت شرابها و ابتعدت لتبحث عن جاكلين .. و أخيرا وجدتها بالقرب من دورات المياة الخاصة بالنساء .. عبطتها بقوة
- " آه و أخيرا وجدتك !! عيد سعيد "
ثم ناولتها كيس صغير يحوي هدية بسيطة لكنها قيمة
- " لم أتوقع مجيئك .. إنها لمفاجأة سارة ..شكرا لك يا عزيزتي "
كانت تتحدث بصوت يشبه الصراخ حتى تستطيع سمعاها إثر هذه الضجة الصادرة من مكبرات الصوت ..
- " و أنا لم أتوقع كل هذا الحضور .. "
- " أغلب الحضور لا أعرفهم .. "
ضحكتا بالفعل فبالكاد يستطع الشخص الحركة .. جذبتها جاكلين من يدها و هي تقول لها
- " هيا تعالي لنمرح قليلا .. لنرقص .. "
ضحكت من تصرف جاكلين العفوي و سألتها
- " مع من ؟!! "
- " ستجدينه .. هيا .. لنستمتع إنه عيد ميلادي "
- " لكن .."
- " لا تندرج هذه الكلمة في قاموسي "
دفعتها إلى شخص واقف يتحدث مع براد صديق جاكلين و قالت له و هي تجذب براد لترقص معه قاطعة بذلك حديثهما..
- " توقف عن النقاشات التي لا تأتي بنتيجة يا بروس و راقص صديقتي "
وضعت لورا يدها على وجهها إثر الموقف المحرج الذي وضعتها فيه جاكلين .. مد ذلك الشاب الطويل يده و قال مبتسما و قد بدا عليه الإحراج بدوره فتناولت يده و بدأت تتمايل معه راقصة ..
لم تستطع أن تنظر في عينيه لأنه كان يحدق فيها و هو يبتسم .. قالت بصوت مرتجف
- " إن جاكلين مجنونة .. لقد جذبت يدي و ألقتني عليك "
- " لا بأس .. إني أشكرها .. فلقد وفرت علي جهدا لان أبحث عن فتاة جميلة و أسألها لترقص معي"
رفعت بصرها لتنظر إلى عينيه و ابتسمت له بامتنان ..
- " إن وجهك مألوف .. هل رأيتك من قبل ؟! "
- " لا أعرف .. لكني متأكدة بأني لم أقابلك "
- " حقا ؟!! اممم .. و لا حتى في منزل ستيوارت ليلة رأس السنة ؟! "
ضحكت .. و نفت بحركة من رأسها
- " إذا ما اسمك ؟! "
- " لورا .. "
قاطعها و أكمل قائلا مع ابتسامة عريضة فلقد تعرف عليها
- " آغنر .. نعم لورا آغنر يا لي من مغفل ..كيف لم أعرف ذلك ؟!"
ابتسمت و سألته بمكر
- " و الآن عرفت .. فهل أحدث ذلك فرقا ؟ "
كان متحمسا و سعيدا فتوقف عن الرقص
- " آه بالطبع يحدث فرقا .. و كيف لا .. أنت عارضة الأزياء الجديدة التي أحدثت ضجة في هوليوود و الولايات بأكملها "
انزعجت من ردة فعله لكنها مع ذلك رسمت ابتسامة ودودة و قالت تهدئه ..

- " لا أرى ضجة كبيرة .. "

- " صورك ملئ الشوارع و الجرائد و المجلات .. و تقولين لا ترين ضجة كبيرة "
تلفتت يمين و شمالا و هي ترى وجوه الراقصين ينظران إليهما فابتسمت بتوتر و قالت له بنبرة معاتبة ..
- " أنت من يحدث ضجة الآن و يجعل الجميع يحدقون "
- " بالطبع هذا ما يجب أن يفعلونه .. أنت لورا آغنر "
رفع صوته حتى يسمع الموجودين من يراقص ..
- " أرجوك توقف .."
ابتعدت عن الراقصين و ابتعدت و أخذت مقعدا لتجلس عليه فجلس بالقرب منها
- " لم أعرف بأنك صديقة جاكلين .."
- " نعم صديقتها منذ سنوات "
- " ألم يعرض عليك تصوير فيلم ؟! "
- " بلى .. لكن ..."
- " هذا رائع .. أنا أعمل مخرج أفلام قصيرة .. ما رأيك أن تقومي بتمثيل دور في فيلمي الجديد ؟؟!! "
إنه يمطرها بأسئلة محرجة و مزعجة .. بلا توقف و لا يترك لها مجالا للإجابة .. تجمهر بعضا من الحاضرين حولها فشعرت بالاضطراب و الانزعاج .. و حاولت أن تفلت من ذلك الرجل بطريقة لبقة دون جدوى حتى تدخلت جاكلين و أبعدت بروس و أسألته و أخرجت لورا من تلك الجمهرة ..
جلست على البار و ناولتها جاكلين كأسا.. كانت تنظر إلى صديقتها المنزعجة من تصرف بروس فمسحت على يدها و قالت مبتسمة
- " هاي .. جاكي عزيزتي لا عليك أنا بخير "
- " لا لست كذلك لقد أزعجك بروس بتصرفه و أسألته .. و أنا السبب "
- " لا تكترثي .. كل شيء على ما يرام هيا ابتهجي انه يومك .. "
- " اعذريني يا لورا "
- " لا بأس هيا اذهبي و ارقصي ... أرجوك لا تقفي هنا .. انه شيء طبيعي إن يحدث معي هذا .. لقد بدأت اعتاد عليه "
- " هل أنت متأكدة بأنك ستكونين بخير ؟ "
- " بالطبع و ما عساه إن يحدث ؟! انظري انه براد.. ينتظرك .."
- " حسنا .. أرجوك اخبريني إذا أزعجك أحدا آخر "
- " لا تقلقي اعرف كيف اعتني بنفسي "
عندما ابتعدت جاكلين استدارت لورا ناحية البار لتصطدم بعين العامل الذي كان يحدق فيها و ابتسامة ملتوية على شفتيه و قال بخبث
- " بالطبع .. لقد قلت في نفسي بأن وجهك مألوف .. إذا أنت هي لورا آغنر تلك الشقراء الجميلة "
لم تعر لتعلقه اهتماما بل مدت كأسها و قالت
- " هل لك أن تسكب لي المزيد ؟! "
- " لك ما شئت "
سكب لها ثم وقف ينظر إليها بافتتان و بدأ يمطرها بالأسئلة
- " كيف هي حياة المشاهير ؟! لم لا أرى معك حارس شخصي ؟! أو ماذا تفعلين في حفلة متواضعة كهذه ؟! مثلك يذهب في مواعيد مع نجوم هوليوود أو لاعبين مشهورين أو أي كائن ذو مركز مرموق و يرتادون حفلات الايمي و الأوسكار و... لكن ليس كهذه الحفلة "
احمر وجهها لكن هذه المرة بفعل الغضب و قالت بعصبية
- " ليس من شانك أن تعرف لكنني سأجيبك حتى أريح فضولك .. جاكلين صديقتي المقربة.. و شكرا على الشراب "
ابتعدت عنه و اقتربت من صديقتها قبلتها و تمنت لها سنة سعيدة
- " لكن يا لورا لم أطفأ الشموع بعد "
- " أرجوك اعذريني فانا متعبة و لم أعد إلى البيت منذ خروجي هذا الصباح .. "
- " حسنا .. سأحضر لك قطعة من الكعكة "
- " شكرا لك يا عزيزتي "
- " اعتني بنفسك .."
- " سأفعل .. و أنت كذلك .. استمتعي بوقتك .. و عيد سعيد "
جاء الصباح بسرعة البرق و كأنها قد غطت لدقائق معدودة و ليس لساعات .. تثاءبت و هي تقاوم النوم و تدفع الغطاء عنها لتغسل وجهها بماء بارد ينعشها و من ثم ترتدي ثياب عملية و ترفع شعرها و تخرج من المنزل .. تمر بطريقها على المقهى و تأخذ اسبريسو ساخنة حتى تبعث فيها الدفء و يوقظها الكافيين ..
عندما دخلت وجدت سام يبحث عنها كالمجنون و يسأل العاملين عنها و يطلب منهم أن يتصلوا بلورا .. وقفت تنظر إلى جنونه مستمتعة و هي تحتسي قهوتها .. عندها استدار و رآها واقفه عند الباب ترمقه .. و تضحك على الجنون الذي أصابه .. فهذا هو سام .. ديكاري
- " آه يا لورا .. لقد رفعتي ضغطي .. أنت هنا تتفرجين علي و أنا مصاب بالهستيريا ؟! "
- " أكمل .. لقد أعجبني منظرك و أنت تفتعل مشهدا .. و جائزة الأوسكار من نصيب المصور الفرنسي سام ديكاري "
صفقت بيدها و هي تبتسم ببرود أمام الحرارة المنبعثة من سام ..
- " مضحك جدا .. و الآن هيا إلى العمل ..."
أخذ من يدها كوب القهوة و هو يؤنبها
- " آه لا .. لا .. لا يا لورا .. القهوة مضرة .. ليس لك أنت .. يجب أن تهتمي لجمالك يا عزيزتي ... ستقتليني يوما .."
- " يوما ؟؟ حقا ؟!! ليس الآن ؟؟! يا للأسف "
- " من الجيد أن أراك في مزاج يسمح لك بإطلاق النكات المضحكة ... و الآن هيا .. غيري ثيابك و شعرك .. الكل ينتظرك بالداخل "
تحركت رغما عنها لأنه كان يدفعها إلى داخل غرفة التبديل .. حيث ارتدت فستان ذهبي طويل يصل الأرض من الدانتيل و له ذيل يمتد إلى الخلف و يليق بلون شعرها الذهبي الذي قام مصفف الشعر برفعه إلى الأعلى و من ثم تمويجه على جانب واحد كتصفيفات الشعر التي اشتهرت بالخمسينيات .. و قام مصمم الماكياج بوضع لمساته على وجهها و كان لون البرونز بالذهبي و الأسود هو اللون المناسب مع طلتها و ابرز عينيها الواسعة كحجر الزمرد في لونه الأزرق.. و احمر الشفاه ذو اللون العنابي الغامق هو الذي أكمل سحرها بالإضافة إلى الحلق الذهبي المتدلي من أذنها إلى عنقها من الأعلى ...كل هذه التجهيزات فقط تطلبت ساعتين من الوقت و التصوير مع سام يأخذ أكثر من ذلك .. تموضعت أمام الكاميرا .. و قام سام بأخذ لقطات لها ... حيث كان الموضوع او الفكرة عبارة عن فصل الخريف حيث سيكون غلاف مجلة ( اكسبلوجر ) التي ستصدر في بداية الشهر القادم ...
-2-
رفع رأسه عن مجلة ( اكسبلوجر) التي يتصفحها بيده و التفت ناحية الرجل الهائج الذي دخل عليه .. فسأله بهدوئه المعتاد ..
- " سيدي .. سيدي .. "
- " ماذا هناك يا ماريو ؟ "
توقف الرجل حتى يرتد أنفاسه المتقطعة و قال و هو يلهث
- " سيدي .. احمل لك أنباء... غير سارة "
قهقه مستهزأ و أعاد بصره إلى المجلة التي بيده و أخذ يقلب أوراقها و قال غير مكترثا و هو ينظر إلى فتاة شقراء تعرض فساتين لمختلف مصممي الأزياء الذين تصورت معهم .. ثم قلب الصفحة .. و هو يقول ..
- " و ما عساه أن يكون أسوأ من خسارتنا للصفقة مع ريس ؟! "
لكن ماريو كان جادا فيما يقول فهو لم يتأثر بكلام سيده فقال بصوت متوتر
- " للأسف يا سيدي إنه أسوأ.. "
استطاع توتر ماريو و جديته أن يؤثر عليه فأصابه القلق و خشي من ما سيسمعه فترك المجلة التي بيده و استقام واقفا ليقترب من ماريو الصغير الحجم بالنسبة لضخامة سيده
- " هل ستخبرني يا ماريو الآن أم يتوجب علي أن انتظر دقائق أخرى حتى يهتز بدني بأكمله و أشعر بالغثيان؟ "
لا يعرف ماريو لم يشعر بالرهبة كلما اقترب منه الدون باتريك ليس فقط لضخامة جسده بل أيضا لشخصيته المهيبة .. بلل ريقه و قال بصوت مرتجف
- " إنها الكونتيسة .. لقد ..لقد توفيت بالأمس إثر حادث "
سكت ليأخذ نفس آخر ثم أضاف
- " و نقل زوجها إلى المستشفى و هو الآن في غيبوبة .. "
لم تعد رجله تستطيع تحمل جسده .. فجر نفسه بصعوبة و جلس على الكرسي الذي كان يتمدد عليه قبل قليل .. وضع يده على رأسه إثر الصدمة التي تلقاها فرأسه لم يستحمل تلك الصدمة الكبيرة ..
- " دون باتريك .. أنا آسف لفقدك والدتك ..و أكثر من ذلك أنا آسف لأني من نقل لك هذا الخبر "
نظر إليه دون أن يعلق منتظرا ماريو أن يكمل كلامه ..فقال بحزن و هو ينظر إلى سيده الذي بالفعل اهتز بدنه و لم تحمله رجليه ليجلس ذلك الرجل الضخم و يصبح منكسرا
- " لقد رتبنا لك للعودة إلى أسبانيا اليوم لدفان الكونتيسة و لتكون المضيف في الجنازة يا سيدي "
فتح عيناه على اتساع .. فلقد استوعب الأمر لتوه .. لقد توفيت والدته .. و هذا الأمر حقيقي .. لكنه لم يتخيل يوما ما بأنه سيفقدها بل اعتقد دائما بان الأمور ستصلح بينهما و ليس بان تغادر هذه الحياة و الأمور بينهما معقدة .. فهو لم ير والدته منذ ستة سنوات غادر فيها إلى لوس أنجلوس و لم يتحدثا خلالها لأنه كان مغتاظا و معترضا تزوجها من رجل لا يستحقها و ليس من مستواها فهي كونتيسة و زوجها السابق دوق ألبا و كذلك ابنها الوحيد ...
- " دون باتريك .. هل تسمعني ؟! "
قاطعه صوت ماريو من أفكاره .. استقام واقفا و دخل إلى حجرته و أغلق الباب خلفه ..
وقف ماريو مع داني صديق باتريك ينظران إلى الباب و ينتظران أن يفتح و يخرج منه لعله يتحدث إليهما ...
- " هل تعتقد بأنه سيخرج ؟! "
وجه ماريو السؤال إلى داني .. صديق باتريك ..
- " ليس لدي أدنى فكرة .. "
- " لم اعهد الدون هكذا من قبل.. "
- " إنها والدته يا ماريو و هو لم يتحدث معها منذ سنوات .. اعتقد بأنه سيأخذ وقتا طويلا"
- " إذا يجب أن أخبر كابتن الطائرة بأننا سنتأخر قليلا .. فهو سيقلع بعد ساعتين "
رفع ماريو الهاتف الأسود الذي يحمله بيده ليتصل بكابتن الطائرة الخاصة الذي سيأخذهم إلى أسبانيا و يخبره بتأخرهم ...
- " لا بل سنبكر "
التفتت الاثنان ناحية الصوت و إلا به باتريك واقفا و هو يدفع حقيبته بيده موشحا بالسواد ببذلته و قميصه و ربطة عنقه السوداء و قد بدا عليه الحزن و اليأس و مع ذلك كان واثقا و قويا و مهيبا ..
أبتسم ماريو .. فهذا هو سيده رغم الصعاب هو كالجبال .. أسرع بأخذ الحقيبة منه ليحملها إلى السيارة .. فماريو يقوم بكل شيء .. كل صغيرة و كبيرة تتعلق بالدوق .و كما يقولون ذراعه الأيمن ..أي لا يمكن أن يقوم الدوق بشيء دون أن يكون ماريو على علم به .. ماريو شخصية مهمة على الرغم من منظره اللطيف فهو هزيل البينة و صغير الحجم ذو شعر أسود خفيف و ذقن مرتب .. و هو من الرجال الدائمي لبس البذل الرسمية السوداء و الذين يتحدثون بالهاتف لأربع و عشرين ساعة ...
و بعد ساعة كانوا جالسين في قاعة الانتظار للدرجة الأولى فقد اخبرهم الكابتن بأنهم لم يسمحوا له بالإقلاع قبل الموعد المحدد بسبب زحمة الطائرات ففتحوا للدوق القاعة حتى يستريح فيها لساعة و بعدها يغادر إلى أسبانيا ..و في هذه الأثناء كان جالسا لوحده بعيدا عن ماريو و داني ينظر من النافذة إلى الناس و حركتهم داخل المطار .. انتبه لامرأة شقراء جميلة تسير و تسير قافلة خلفها ..تتبعها و هي تتحرك و تتحدث مع من حولها .. كانت توشوش في أذن الرجل الذي معها ثم تبتسم ..ابتسم باتريك بدوره .. و لا شعوريا رفعت عيناها لتنظر إليه .. كان غير متأكدا بأنها تستطيع رؤيته .. لكنها عندما ابتسمت له أدرك بأنها قد رأته بالفعل .. و للأسف.. بسرعة جذبها الرجل الذي معها ليدخلوا حيث الباب المؤدي إلى سوق المطار .. ثم اختفوا ...
وقف و هم بالخروج فانتبه له ماريو .. و أسرع داني يقترب منه قائلا
- " باتريك .. إلى أين ؟ "
- " أريد أن أحرك ساقي قليلا "
- " أين ؟! "
أشار إلى سوق المطار في الأسفل .. ففغر داني فاه و أشار إلى ماريو أن يقترب منهما
- " سنذهب معك .. نحتاج لان نحرك ساقينا أيضا "
- " حسنا "
كان يسير و ينظر إلى الناس ..يبحث من بين الوجوه .. عن تلك الجميلة التي ابتسمت له من بعيد ثم اختفت بين الحشود .. و الناس من حوله بعضهم من يضحك مع آخر وثاني يتقافز فرحا و طفل يبكي و آخر يصرخ و أطفال يركضون و يكادون يصطدمون برجليه فيوقفهم ماريو .. و فتيات ينظرن إلى باتريك و يتهامسن و يرسلون له ابتسامات و نظرات إعجاب .. فيبادلهما بإيماء برأسه .. و امرأة كبيرة بالسن تضحك في وجهه .. و رجل يهرول و آخر ينادي على عائلته فيركضون مسرعين للحاق بالطائرة .. و كل لاهي بمشاكله و همومه .. حتى رأى تجمهر في إحدى الزوايا و آلات تصوير ..
أغلق ماريو الهاتف و وجه كلامه للدوق
- " سيدي يجب أن نذهب "
- " لا .. انتظر ماذا هناك ؟ "
كان يقترب ناحية التجمع فقال له داني
- " لعلهم الإعلام و قد عرفوا بأمرك يا باتريك "
- " لا .. انظر .. إنها هي .. "
- " من ؟! "
نظر إليه داني مستغربا .. فأشار باتريك .. و انتبه بأنه قد يكون أفضى عن مكنونه أكثر من اللازم فقال مصححا

- "امرأة يجتمع حولها المصورين و المعجبين "

أشار ناحية امرأة هيفاء ترتدي فستان رمادي ضيق يفصل جسدها الرشيق .. شعرها أشقر كثيف يتساقط على كتفيها كالشلال و كانت تضع ماكياج يتماشى و لون ثيابها الأنيقة تسير بكل ثقة و تبتسم للملتمين حولها .. سمعها تجيب أحد المعجبين عن سؤال ما
- " إلى أين أنت ذاهبة ؟ "
فابتسمت له قائلة
- " سألف أوروبا كلها "
- " هل تأخذيني معك ؟"
صاح احد الشباب فضحكت تلك الجميلة و سارت مودعة إياهم حتى اختفت داخل قاعة الانتظار للدرجة الأولى .. أحس برغبة في أين يتبعها و ما أن دخل خلفها القاعة حتى أوقفه رجال الأمن فاخبره ماريو بأنه دون باتريك و انه من الدرجة الأولى أيضا .. فسمح له بالدخول .. لكن و للأسف .. تأخر .. اختفت مرة أخرى و لم يجد إلا أمتعتها على الأرض .. انتظر قليلا علها تعود .. و لكن رجل أصلع طويل القامة و هو الذي كانت توشوش في أذنه عندما كان يرقبها أتى ليحمل أمتعتها و آلات التصوير .. فشعر بخيبة أمل .. عندها أتى ماريو و أخبره بأن يصعد إلى الطائرة لأنها ستقلع خلال دقائق ..
و في الطائرة كان مشغول البال لم يعرف هل يفكر بتلك الشقراء الهيفاء التي أسرت قلبه المحطم و هو الذي لم يلمحها إلا من بعيد !! .. حتى أنه لم يركز في ملامحها .. أم يفكر بوالدته التي خرجت عن العادات و التقاليد التي اشتهرت بها عائلتهم المحافظة و طعنت برأي ابنها الوحيد و تزوجت من رجل ليس من مستواها فيغادر و يتركها لمدة ست سنوات و لا يتحدث إليها لا في الأعياد و لا في المناسبات .. فهل الحزن هنا ينفع بعد فوات الأوان .. بعد أن غادرت دون أن يراها و تراه دون يسمع صوتها .. كان نادما لفقدها و محزونا أكثر لأنها لم تكن تبالي أو تكترث بالخصام الذي بينها و بينه بل فضلت الرجل الغريب عليه حتى بأنها لم تبادر بإرضائه أو التحدث إليه فلطالما عرف عن الكونتيسة مارسيلا بقسوتها و صلابتها ... و لكن مع هذا فقد أحبها بصدق فهي والدته .. و الأكثر من شعوره بالندم و الحقد عليها في نفس الوقت إلا أنه يشتاق لها الآن مثل كل طفل يرجو أن يغفو في حضن أمه..
- " دون باتريك لقد وصلنا .. هل نمت يا سيدي ؟! "
رفع رأسه عن النافذة و التفتت إلى ماريو
- " لا يا ماريو .. أنا مستيقظ "
- " جيد .. أرجو أن لا تكون متعبا يا سيدي فلدينا رحلة أخرى من مدريد إلى مطار ألبا و من ثم إلى القصر "
- " لا لست متعبا .. استطيع أن أتحمل خمس ساعات أخرى"
التفت إلى صديقه داني الذي كان نائما بطريقة مضحكة فشعره الأصفر قد تبعثر فوق جبهته و يده اليمنى أسفل خده الأيمن و فمه مفتوح و كان يشخر بصوت مرتفع .. فأخذ باتريك هاتفه و قام بالتقاط صورة له .. انفجر الجميع ضاحكين موقظين بصوتهم داني المسكين الذي قفز مفزوعا
- " ها .. ما .. ماذا يجري ؟! "
لم يستطع احد الرد عليه فالكل كان يضحك .. و الذي أضحكهم أكثر بان ماريو سقط أرضا من كثرة الضحك .. ملامح داني الجدية بأنفه الدقيق و شعره الأشقر تجعل من الصعب أن يتخيل أحد نائما بطريقة مضحكة و غريبة .. فداني تغلب على ملامحه الجينات الأمريكية على جيناته الأسبانية .. فوالدة داني أمريكية انتقلت مع والدها السفير الأمريكي إلى ألبا و هناك وقع في غرامها والد داني الذين كان يعمل كمدير لمصانع ألفاريز دي تيلدو ..
وضع يده على شعره الأشقر
- " يا إلهي يا باتريك هل أنت بخير ؟! لم تضحك ؟! "
توقف باتريك عن الضحك ليسترد أنفاسه قائلا
- " آه يا داني .. و لم لا أضحك و أنت نائم تزأر كالأسد .. آه لم أضحك هكذا منذ يومان .."
استقام داني واقفا و كان منزعجا و في نفس الوقت كان سعيدا لأنه استطاع أن يدخل البهجة في نفس صديقه المقرب و كذلك العاملين عنده الذين اكتأبوا لحزنه و الآن ضحكوا معه عليه .. هذا جيد ..
توقفت الليموزين عند مدخل القصر الريفي في ألبا في الساعة الثانية عشر صباحا و كان الجميع منهمكين بسبب الرحلة الطويلة .. دخل باتريك المنزل الذي عاش فيه طفولته و مراهقته و غادره و هو في الرابعة و العشرين أي قبل ست سنوات .. و عاد إليه ليدفن والدته غدا صباحا و يكون المضيف في حدادها .. انه يشعر بالعار فوالدته لو كانت على قيد الحياة لأرسلته من حيث أتى ..لقالت له ( هل عدت فقط لدفني !! ) يا له من عار .. يعود إلى موطنه و أصله و نسبه فقط من أجل أن يقف على رجليه و يصافح الناس المقربين و الأصدقاء المعزين بوفاة والدته التي لم يعرف عنها شيئا منذ سنوات طويلة ..
تمشى في القصر القديم و أخذ يتلفت يمينا و شمالا لعله يجد والدته جالسة على أحد المقاعد إما تقرأ كتابا أو تكتب رسالة لأبيه أو تفتح ذراعيها حتى تحضنه و تمسح دموعه عندما يبكي .. أو تقف في إحدى زواياه تغني مع الأصدقاء في كل عيد و يقوم هو بالعزف على البيانو الذي كانت تعلمه كيفية العزف عليه ... إنه يكره هذا البيانو الآن .. فأين والدته لتعزف عليه ؟!!
أو أين هي لتلم العائلة على المائدة الكبيرة في غرفة الطعام .. أم تسقي الزهور في مشتلها الصغير .. أم تقف أمام التل لتنظر إلى الكروم الكبير و تخبره بأنه سيغدو مثل والده يوما ما فارسا شهما نبيلا .. و أنه سيهتم بالمصانع و بصنع أفضل أنواع النبيذ الذي اشتهرت فيه عائلة ( آلفاريز دي تيلدو ) لقرون ...
و في آخر المطاف و هو يأخذ جولة في المكان الذي ولد فيه و عاش فيه نصف عمره ليقف أمام حجرتها و تردد في فتح بابها .. لأنه يعلم بأنه سيتألم عندما لا يجدها ..و أخيرا مد يده و فتح الباب تخيلها جالسة على تسريحتها تسرح شعرها و تلقي نظرة أخيرة على ثيابها و تأنقها و تأخذ برأيه
- " باتريشو .. ما رأيك بأمك ؟! "
فأجابها بكل فخر ..
- " أنت أجمل النساء يا أمي و أنقهن "
اقترب منه و تخيلها تحضنه بقوة مبتسمة ..
- " لو سمعت زوجتك هذا الكلام .. ستغار مني حتما "
- " دعيها تفعل ما تشاء .. أنا صادق .. أنت أجمل أمرأة في أسبانيا كلها "
طبعة قبلة على رأسه مازال يشعر برطوبتها و حرارتها ..
سار حتى توقف عند النافذة التي كانت تقف عندها والدته .. تطل على الكروم و الإسطبل الكبير حتى تتأكد من سلامة ابنها كل يوم عندما يذهب لركوب الخيل حتى عندما غدا شابا و اشتد ساعده.. كانت تصيح على سائس الخيل أن يشد من الرباط و يتأكد من تثبيته على ظهر الخيل ...
سالت دمعته و هو يتذكر المواقف السعيدة مع والدته تلك المواقف التي تمحي الضغينة من قلبه و تجعله اليوم نادما اشد الندم لهجره إياها كل تلك السنوات .. لكن هل ينفع الندم الآن ؟؟
- " دون باتريشو هل هذا أنت يا عزيزي ؟! "
استدار ناحية الصوت الموسيقي الحنون الذي اعتاد النوم عليه و قال بصوت مخنوق
- " نانيرا إيزابيلا "
حضنها بقوة و استطاع أن يحكم على ضلوعها بساعديه .. آه لقد غدت تلك المرأة القوية عجوز ضعيفة و نحيلة ..
- " لقد أصبحت رجلا ضخما يا بني .. اشتقت لك "
- " و أنا كذلك يا نانيرا .."
اشتاق لان ينطق باسمها .. نانيرا .. أي (مربيتي).. أضاف و هو ينظر إليها بشوق
- " لم أنت مستيقظة حتى الآن ؟ "
- " لقد علمت بقدومك و سمعت أصواتكم .. و كنت متأكدة بأنك ستكون هنا يا حبيبي "
أمسكت بوجهه بين يديها و مررت أصابعها الضعيفة تتحسس ملامحه الحادة ..
- " يا إلهي كم أنت تشبه الدون آليخاندرو في شبابه "
ابتسم و استطاع ان يصطاد يدها و يقبلها بسرعة ثم قال
- " كيف حالك ؟ "
- " كما تراني يا حبيبي .. مازلت على قيد الحياة .."
- " هذا أفضل .. فلن أستطيع تحمل أن افقد والدتي الأخرى .. "
قبل رأسها ثم وضع رأسه على صدرها فأخذت تمسح على شعره الأسود الكثيف ..
- " غني لي يا نانيرا .. كما كنت تفعلين عندما كنت صغيرا "
قهقهت و قالت
- " لم يعد صوتي مثل ما كان يا حبيبي "
- " لا بأس .. أنا متأكد بأنك مازلت تملكين أجمل صوتا في أسبانيا .. غني لي "
بدأت تغني له أغنية المباركة بصوت شجي فبدأت تبكي لذلك الطفل الذي غدا رجلا بسرعة ..و سالت دمعته هو بسبب الذكريات التي أثارتها تلك الأغنية و صوت نانيرا إيزابيلا .. ضمته بقوة إلى صدرها و همست في أذنه ..
- " أنت متعب يا حبيبي .. هيا اذهب إلى غرفتك يا باتريشو لقد جهزتها لك "
قبل يديها فرفعتها لتمسح دموعه المتلألئة على وجنتيه فقال ضاحكا
- " أتعرفين يا نانيرا لم يعد أحدا يناديني بباتريشو .. فاسمي الجديد في الانجليزية هو باتريك "
- " لكنك أسباني يا بني .. و سأظل أناديك بباتريشو أو باتي "
- " نعم أفضل ذلك منك .. شكرا لك نانيرا "
- " يا بني الصغير .. عمت مساءا "
قبل رأسها الأبيض و دخل حجرته القديمة التي لم تتغير فهذا الفراش الأبيض الكبير و تلك الألعاب الخشبية على الأرفف البيضاء و قصصه و كتبه القديمة التي يصفها على المنضدة بالقرب من فراشه و يقرأها كلما شعر بالأرق ..
خلع سترته و حذائه و ألقى بنفسه على الفراش و ما أن وضع رأسه على الوسادة الوثيرة حتى غط بسبات عميق ...
و لم يستفيق في الصباح إلا على صوت صهيل الخيول .. فتح عينيه يصارع أشعة الشمس التي تخللت من الستائر الخفيفة .. وقف و كان جسده متكسرا بسبب رحلة أمس و اختلاف الوقت عليه اغتسل و ارتدى ( التكسيدو ) الأسود و صفف شعره للخلف ثم نظر إلى شكله للمرة الأخير قبل أن يخرج من حجرته ..
وجد نانيرا إيزابيلا تتناول الإفطار على المائدة الكبيرة فجلس بالقرب منها و صب لنفسه قهوة و تناول قطعة خبز محمص
- " كيف كانت ليلتك يا بني ؟ "
- " لقد نمت بملابسي من التعب .. و استيقظت للتو .. "
حدقت في ملامحه و فجأة وضعت يدها على يده قبل أن يقطع لنفسه قطعة من الجبن
- " هل أنت مستعد لليوم ؟ "
ترك الذي بيده و ضغط على يدها
- " نعم .. لقد ذكرت نفسي أكثر من مرة بأنني أعيش في الواقع و أن هذه الحياة .. و اعترفت لنفسي بخطأي و لا نفع للندم الآن "
- " أرى النبالة تسرى في عروقك يا بني فهذه هي المروءة .. أحب فيك الصبر و الهدوء الذي عرفت بهما "
- " شكرا لك نانيرا .. و أنا كذلك أحبك كثيرا كما أحببت أمي أو أكثر فأنت من رباني و اعتنى بي و أنت من إليها ألجأ عندما تغضب والدتي .. احبك "
ضمته إلى صدره و ربتت على ظهره .. عندما دخل ماريو
- -" دون باتريك .. الحمد لله لقد استيقظت .. هل أنت جاهز للذهاب ؟ "
نظر إلى نانيرا إيزابيلا و ابتسم
- " نانيرا .. هل أنت مستعدة لتوديع والدتي ؟ "
ارتجف حنكها و سقطت دمعتين من عينها ثم أومأت
- " نعم .. أعتقد بأني مستعدة .. "
أمسك يدها و ساعدها على نزول الدرجات ثم ساعدها لركوب الليموزين التي أخذتهم إلى الكنيسة الكبيرة التي تقام فيها مراسيم الجنازة .. رأى نصف سكان ألبا و بعض من نبلاء المدن المجاورة و كذلك أنسباه و أقربائه الذين أتوا لتوديع الكونتيسة مارسيلا .. اقترب بهدوء ناحية التابوت و كان يمسك بيد نانيرا و يشد عليها لاشعوريا فتلتفت عليه في كل لحظة .. رفع غطاء التابوت لينظر إلى وجه امرأة عجوز قد ازرق لونها و رفع شعرها الأبيض بنفس الطريقة التي تصفف بها إياه في كل مناسبة و قد ارتدت فستانها الأزرق الذي تحبه و وضع على صدرها وشاح ابيض من الحرير .. تراقصت الدموع في عينيه و لم يستطع كبحها فترك إحداها تسقط على جبين والدته فنزل ليقبل جبينها و قال هامسا
- " سامحيني يا أماه فلقد أخطأت بحقك .. إني اشتاق لك في كل يوم و كل وقت و كل حين .. احبك"
لم تستطع نانيرا أن تمنع نفسها من البكاء و هي تسمع الحزن في صوت باتريشو.. فتركت المنصة و جلست بالقرب من داني و انهارت باكية..
همس ماريو بشيء في أذن باتريك الذي وقف لفترة يستوعب بأن الموجود في هذا التابوت هي والدته التي كانت مفعمة بالحياة .. ما بها الآن ؟؟ لا تتحرك ؟؟
حبس الحزن في قلبه و اعتلى المنصة ليلقي كلمته
- " مرحبا.. أنا الدوق باتريشو أليخاندرو آلفاريز دي تيلدو و أنا هنا لأودع والدتي الكونتيسة مارسيلا غارسيا آلفاريز دي تيلدو لحياة أفضل من هذه التي نعيشها .. لحياة الخلود .. و لأعاهدها و أعاهدكم بأني سأسعى لتحقيق أمانيها و أحلامها و أكون مكملا لمسيرتها و مسيرة والدي و أجدادي لعلي أعوض عنها و عن نفسي سنين الغياب .. فأرجوا منها أن تقبل عذري .. و اخبرها بأنها ستكون هنا في ألبا بين أهلها و أصدقائها و بالأخص في قصرها و قلب ابنها ... احبك يا أمي .. و سأظل أحبك أبدا"
صفق له المعزون و وقفوا له احتراما و تقديرا .. و ما أن توقف التصفيق حتى صعد ماريو المنصة و همس بأذن الدوق .. ظل باتريك صامتا فأثار الحاضرين الذي أخذوا يتساءلون عن ما همسه ماريو في إذنه .. فهدأو عندما فغفر فاه و أضاف قائلا
- " و أنا آسف لأن أعلن لكم بان زوجها كارلوس دي بابلو قد فارق الحياة قبل ساعة و سنقوم بدفنه بطريقة تليق به كزوج كونتيسة بعد أن ندفن والدتي .. و شكرا لكم و لحضوركم إنني اقدر لكم تعازيكم "
نظر إلى وجه والدته للمرة الأخيرة قبل أن يقوم الكاهن بإغلاقه ثم وضع التابوت في الليموزين و حمل حتى المقبرة حيث دفنت الكونتيسة و بعدها أحضرت جثمان زوجها و وقف المعزون و قاموا بدفنه ليكون مع زوجته رفيقا تحت الثرى ...

يتبع ,,,,

👇👇👇

تعليقات
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -