رواية لمحت في شفتيها طيف مقبرتي -145
مسكت رقبتها المشتعلة بالحرارة، لتقف متجهة إلى الحمام غسلت وجهها بالماءِ البارد لتُثبت كفيَّها على المغسلة، يالله كم يلزمنا من قوة حتى نتحمل كل هذا، تعبتُ من الحزن الذي يتسلل إليْ في كل مرَّة أريد بها أن أبتسم، تعبت من أن أخفي مشاعري وأكذب بها، تعبت من أن أحزن وأكابر وأنا والله لستُ إلا كاذبة جيِّدة، تعبتُ منك يا عزيز، تعبت من عيناكِ الغاوية، تعبت منَّا كلانا، أيّ هدنة نتحدثُ بها؟ هذا والله هراء.تسترجعُ في الأسبوع الماضِي كيف أتفقا على الهدنة بعد ليلةٍ بكت بها وأجهشت بالبكاء أمامه، كلماته التي أتت مؤلمة لقلبها الذِي يشيبُ على حبه " طيب يا رتيل أنا ماعندي مانع! قلت لك قبل هالمرة خلينا ننسى كل اللي صار على الأقل هالفترة وبعدها قرري بكيفك وش تبين! تعاملي معي كعبدالعزيز بس! أعتبريني أيّ شخص وأنا بعتبرك بعد أيّ شخص هالفترة وبعدها يصير خير! .. أتفقنا ؟ "
كيف مرَّت الأيام بعد الإتفاق هادئة تصخبُ به ضحكاتهم، لا تعرف كيف الدنيا تفتحت وأصبحت ربيع بمجرد غياب أثير لعدةِ أيام مع والدها خارج باريس، كيف للحياة كل هذا الإغراء بمجرد ما أستشعرت أنه ينام لوحدِه ويستيقظ لوحدِه دون أن يراها، أن يأكل أيضًا لوحدِه، هذه الأنانية التي جعلتني أفكر بهذه الصورة جعلت أيامي الماضية " جنَّة " ولكن سُرعان ما تلاشت، عادت وعاد حُزني معها وعُدت أنت كشخصيتِك التي لن تتغيَّر أبدًا.
سحبت منديلاً لتخرج ولم تراه على السرير، أنقبض قلبها بخوف حتى تنهدت براحة وهي تراه يسكبُ له من الماء. ألتفت عليها : قلت ماراح أطلع وجالس عندِك .. وش فيك خفتِي!
جلست على طرف السرير : ولا شي
جلس بجانبها ليمدّ لها كأس الماء، تعلقت عيناها بيدِه لثواني حتى أخذته، شربت الرُبع منه وهي تُبلل قلبها ببرودتِه، أخذه منها ليشرب من موضعها، ألتفتت عليه لتتشبثُ عيناها بفمِه، ماذا تفعل بي يا عزيز؟ بربِ السماء ما أنت بفاعلٍ بقلبٍ هشّ ؟ تقتلني أكثرُ من مرة وتُشتتني مرَّات ومرات، والآن ؟ مالذي تُريد أن تصِل إليْه؟ إنِي أسألك بحقِ الأيام التي ضاعت بيننا ماذا تريد؟ إني أسألك بحُزنِ عيني التي منذُ أن رأتك أغمى عليها، حياتِي لك، قلبِي لك، وكل التفاصيلِ لك ولكن لمرةٍ واحِدة أعدنِي إليْ.
وضع الكأس على الطاولة ليلتفت إليْها وبهدُوء : في كل مصيبة لي لازم ألقاك بوجهي! ... أظن هذا له دلالة قوية
رتيل تُشتت نظراتها : أصلاً لولا أبوي تأكد أني ماكنت راح أجيك بس قال ضروري عطوا الجوال لعبدالعزيز
عبدالعزيز : وأنا مصدقك
رتيل الذي فهمت من نبرته أنه يسخَر : أنت بنفسك سمعت
عبدالعزيز : والله مصدقك يا بنت الحلال .... قطع الصمت الذي ساد لبُضعِ دقائق .... يوم جيتيني وراسِك مغطيه الشاش، وش كان صاير لك ؟
ضحكت بسخرية : بدري سؤالك!
عبدالعزيز بمثل نبرتها : أعرف أروض نفسي وفضولها بسهولة!
رتيل : طحت
عبدالعزيز : وين ؟
رتيل : ببيتنا بعد وين! طبعا عشان تحس شوي على نفسك تراها بسببك
عبدالعزيز الذي كان يشعرُ بأن خلف الجرح الذي بين حاجبيْها حكاية ولم يخيب توقعه : وش سويت هالمرة بعد ؟
رتيل : سمعتك وأنت تبشر صاحبك كيف أنه شخصيتي تصلح لفترة مؤقته وبعدها خلاص!
عبدالعزيز : وبس هذا اللي سمعتيه؟
رتيل بقهر وهي تتذكرُ كل كلمة، كل حرف نُطِقت به شفاهِه لتنغرز بقلبها، مازالت آثار حدِيثه باقية في قلبي ومازال جبيني الذي يشهدُ بالحزن معي بالندبَةِ الواضحة بين حاجبيّ أيضًا باقية : ما أبغى أتذكر ذاك الموضوع، ممكن ؟
عبدالعزيز : أكيد ممكن بس على فكرة كلامي مع ناصر ذاك اليوم كان في وقته يعني تغيرت أشياء كثيرة بعده
رتيل تُعيد كلماته بحزنٍ يستعمر قلبها : أنا أعرف كيف أتكيف مع أثير وأقدر أعيش معها .. متى بس أنتهي من هالحياة وهالرياض وأفتك منها وأعيش زي ماأبي بدون أيّ أحد من هالعايلة ..
عبدالعزيز : كل شي يتغير حتى قناعات الشخص
رتيل : وش تغيَّر فيك يا عبدالعزيز ؟ أنك صرت عادل ماشاء الله وماتبي تظلم أثير
عبدالعزيز : أنتِ دايم تحطين نفسك قدام أثير ماهو قدامي .. لآ تقارنين وبترتاحين
رتيل بعصبية : لأنه عمرك ماراح تحس بشعوري وأنا أشوفك معاها! مهما حبيتك .. ماراح أقبل والله لو أيش أني أتنازل وأرضى بأنها تشاركني!!
عبدالعزيز تنهد : هالموضوع لو فتحناه ماراح يتسكر
رتيل : أنتم الرجال تحسبون الحريم مايقدرون يعيشون بدونكم لأنهم ببساطة يموتون فيكم! لكن صدقني مافيه بنت تحب وتنسى عقلها! مهما جنَّت فيك بالنهاية تقدر تنسحب بهدُوء وتعيش عذابها مع نفسها بدون لا تشارك أحد فيه لكن أنتم تنسحبون وتظلمون بنات غيركم لأنكم تدورون عن اللي تحبونه في الغير بس البنت عمرها ماتدوِّر أحد! إما أنه يجيها اللي تبيه ولا تبطِّل حُب، هذا الفرق بيننا وبينكم!
عبدالعزيز : وأنا ما دورت عليك عند أثير! حطي هالشي في بالك
رتيل : سوّ اللي تبيه وعيش حياتك مثل ماتبي لكن ماراح تقدر تجمعني معها أبد! .. ماراح تقدر يا عبدالعزيز لو صار أيش ما صار!
عبدالعزيز بقسوة : وليه ضامنة أني أبيك في حياتي!
رتيل بحدة تنظرُ إليه، هذه الحدة التي تلمعُ في عينيها كدمعة تُسجن في محاجرها، صمتت وعينيْها التي أستلمت الدفاعُ عن كلماتها، لوَت طرفِ شفتها السفلية إلى الداخل وهي تشدُّ عليها خشيةً من البكاء.
كان سيتحدث لولا صوتها الخافت : متناقض! عمرك ماراح تعرف تفكر زي الناس! قلت هدنة وأنا أعرف وش غايتك منها! وقلت يالله ورجعت بكلامِك لأنك ماتعرف تثبت على رآي!
عبدالعزيز بجديته أقترب منها : آسف
رفعت عينها بدهشَة من أنه يتنازل ويعتذر، رمشت كثيرًا حتى تستوعب ما قاله، صعبٌ عليها أن تُصدِق هذا الأسف بإنسيابية صوتِه.
: أنا ماأعرف بالهدن شي ...
رتيل : تعتذر عشانك ماتعرف بالهُدن شي؟
عبدالعزيز : قلبك مثل ما يبي يفهمها يفهمها
رتيل عقدت حاجبيْها : تنازل لو مرَّة!
عبدالعزيز بإبتسامة يقتل بها قلبها : أعتذر لمقامِك السامي يا رتيل بنت عبدالرحمن بن خالد آل متعب .. أتمنى أنه تنازلي هالمرة ما تجحدينه مثل ما جحدتِ غيره وتعرفين أني قادر أعتذر متى ما أخطأت بدون لا ينقص هالشي منِّي
رتيل بتلذذ في " تفشيله " : وإعتذارك مرفوض.
عبدالعزيز : ههههههه شكرًا لك
رتيل : العفُو يا ... بو سلطان
عبدالعزيز غرق بضحكتِه ليُردف بخبث : مين بيجيب لي سلطان ؟
رتيل : الله يخلي لك أم عيالك اللي تبيها في حياتك ... أردفت كلمتها الأخيرة بسخرية لاذعة على كلماته الأخيرة معها.
عبدالعزيز : يعني أفهم أنه حياتي ماهي مغرية لك؟
رتيل رفعت حاجبها وهي تقلدُ صوته بطريقةٍ ساخرة : أنتِ ماراح تكونين أول بنت في حياتي! أنتِ مستحيل تكونين أول بنت! أنتِ ... وأنتِ وأنتِ ... أذكرك إذا نسيت
عبدالعزيز : أجل أنا أعتذر عن كلماتي بعد .. تقبلين إعتذاري يا حرم عبدالعزيز العيد ؟
فهمت من كلمته الأخيرة كيف يُريد أن يربط مصيرها به، أخذت نفسًا عميقًا وهي تنظرُ لإبتسامته التي تُربكها، أخشى على نفسي من هذه الإبتسامة وفتنتها.
أردفت : أفكر
عبدالعزيز بضحكة وكأنه يحاول أن يهرب من واقعه بكلماته معها، يحاول أن ينسى ما يحدث بالخارج : طيب يا أم سلطان فكري وخذي راحتك بالتفكير
رتيل شتت نظراتها بعيدًا عنه : ههههههه عفوًا؟
عبدالعزيز : أحاول أكون لبق وذوق بس عاد الشكوى لله
رتيل : بوردون
عبدالعزيز تذكر أشهرُ ما يحفظه من الشعر الفرنسي لينطق بلكنته الفرنسية المكتسبة : tu peux dire à la rivière de ne plus couler .au soleil de ne plus coucher et même à la terre de ne plus tourner mais jamais à mon cœur de ne plus t'aimer " يمكنك ان تقولي للنهر أن لا يجري أبدا، للشمس أن لا تغرب أبدا و حتى للأرض أن لا تدور أبدا لكن لاتستطيعين مطلقا أن تقولي لقلبي أن لا يحبك أبدا. "
رتيل التي لم تفهم ولا كلمة مما قيل أردفت : طيب ترجم عشان أفهم!
عبدالعزيز بلكاعة يغيِّر المعنى : أن الحياة ما توقف عليك وأنه رجل مثلي بإمكانه نسيانك في الوقت اللي يفكر فيه كيف يقضي فراغه مع أصدقائه
رتيل : شفت الوقت اللي أسرِّح فيه شعري ؟ في هذا الوقت أنا قادرة أنهيك مثل لما أتهوَّر وأقص خصلة من شعري
عبدالعزيز : تتهورين! لهدرجة مسألة نسياني تعتبر تهور بالنسبة لك
رتيل أنقهرت من تمويهِه لكلماتها : أفهم على كيفك!
عبدالعزيز أبتسم : جوتيم .. أترجمها ؟
رتيل : هههههه مغازلجي فاشل!
عبدالعزيز و يحجِّرُ لها : أجل علميني كيف الغزل يكون؟ نتعلم من خبرتك
رتيل بضحكة تستفزه لتلتفت عليه بكامل جسدِه وهي تقترب منه : يقولك خالد الفيصل سلم المحبه ما وطا الزين ناطاه، حد الخطر لعيون خلي وطيته ، والي يودك كل ما منك يرضاه ، حتى عذابك يا حبيبي رضيته . .
عبدالعزيز غرق بضحكة طويلة ليُردف : الله يعاقبني دام مخليني بارد والدنيا قايمة برآ
،
يقف بإتزان بعد أن أجتاحته برودة التبلد وخاب كما يخيبُ الجميع، لم تكُن هناك فرصة أن أضطرب أو أقلق فقد فقدتُ كل أملٍ يتعلق بها، بصوتٍ هادىء : هل بإمكاني أن أتحدث .. أمر ضروري
: بالطبع .. تفضل.
ضغط الموظف الأشقر على رقم غرفتها ليُسلِّم السماعة ليدِ فارس، أخذ نفسًا عميقًا ليلفظ بصوتٍ حاول أن يُغلظه أكثر لتتغيَّر النبرة : عبير؟
عبير بنبرةٍ يتضح بها الخوف : أيه!!
فارس : إذا ممكن تنزلين! عمك مقرن ينتظرك تحت
عبير : مين أنت ؟ ليه مو هو اللي أتصل
فارس : تبين تكلمينه؟ هو قاعد يكلم أبوك لكن إذا تبين الحين أخليه يكلمك
عبير بإقتناع : و عبدالعزيز ؟
فارس : ماهو موجود .. على العموم لازم تنزلين بسرعة
عبير : بروحي؟
فارس : إيه .. إذا تبين أتصلي على أبوك وأسأليه
عبير : لآلآ خلاص .. ثواني ونازلة
أغلقه ليتجه بخطواتٍ سريعة نحو المصاعد ويتجه نحو طابقهم، ألتفتت على ضي التي أستسلمت للنوم بتعبٍ شديد، أخذت هاتفها وخرجت بهدُوء لتضغط على المصعد، أنتظرت وهي تتشابكُ بأصابعها بقلق، أنفتح لتحاول الدخول ولكن من خلفَّها شدَّها وهو يكتمُ أنفاسها بقوةِ كفِّه، همس وهو يُقرِّب المشرط الحاد من ملامحها : ولا كلمة !
لم تستطيع أن تراه وهو يحاصرها من ظهرها، ولكن صوتها تشعر أنها سمعته من قبِل، لم تُطيل التفكير والتخمين بمن صاحب هذا الصوت وهي تنتفضُ وتحاول أن تُبعده ولكن بتهديدٍ لاذع أستسلمت : عبدالعزيز . . رتيل . . ضي . . ؟ مين تبين بالضبط ؟
فهمت ما يقصد، لتهدأ، سحبها للمصعد ولم يجعلها تراه وهو يحاول أن يثبِّت كتفيها من الخلف، أنهمرت دمعاتها وهي تتوقع أسوأ السيناريوهات التي ستحدث بعد قليل، لا تعرف كيف تتخلصُ من هذا الرجل؟ وكيف تهرب! كيف تصرخ لعبدالعزيز وتناديه! يا غبائي! ليتني جلست مثل ما قال عبدالعزيز، كيف صدقت أن عمي مقرن يُريدني! فتح المصعد ليسحبها بيدِها دُون أن يلتفت عليها وهي لا ترى سوى شعره القصير من خلفه وجسدِه العريض، أركبها السيارة ليكتمُ أنفاسها بقوةٍ جعلتها تستلمُ للإغماءة المفتعلة بعد أن أتسعت محاجرها وهي تنظرُ إليه وتتعرفُ على وجهه، هذه آخر الحلول يا عبير! و رأيتك بأسوأ موعدٍ عرفهُ الحب، ومسكتُ يدِك بأسوأ لقاءٍ من الممكن أن يكُن، أنا آسف هذه المرة لأني سأجعلك تشعرين بحُرقة الذنب ونظر الله إليْك، ليتني أملك هذه الخشية من الله لمَا تجرأت أن أُسمعكِ صوتي.
،
أقتربت من الدرج وهي تتمسك بقبضته، شعرت أن قلبها يندفعُ بالعمق إلى بطنها، تشعُر بالنبض في بطنها يؤلمها بشدَّة، تيبست يدَها على طرفِ الدرج والضباب يغشى رؤيتها، كانت تُريد أن تنادي أيّ إسم وعقلها يدُور بها بلا ثباتْ/إستقرار، شعرت بوَجعٍ وكأنها تحتضِر، وضعت يدها على بطنها المنتفخ لتحاول أن تبتعد عن الدرج ولكن لم تكُن ترى شيئًا سوى بياضًا بإمكانه ان يعيقها عن الحركة لتنزلق من أعلى الدرج ورأسها يرتطم بقوَّة.
كان صوتُ سقوطها مهولاً في بيتٍ هادىء كهذا، رفع عينه : هذا أيش ؟
هيفاء : يمكن شي من المطبخ!
يوسف مسك هاتفه ليسمع صرخة الخادمة، تركه وهو يهرول سريعًا لتتسع محاجره من منظرها! كانت الدماءُ تنزفُ من رحمها، رفع رأسها من الأرض ليضعه على فخذِه،
هيفاء المندهشة ركضت للأعلى نحو جناحهما لتجلب عباءتها، وضع يده على رقبتها ليتحسس النبض والدماءُ بدأت تغرق كفوفِه، غطاها ليحملها متجهًا نحو سيارتِه ومعه هيفاء، وضعت هيفاء رأسها على فخذيْها بالمرتبة الخلفية لينطلق يوسف بسرعةٍ جنونية.
عقله غائب عن كل شيء، لا يستطيع التفكير بأيّ شيء وبأيّ تفصيلٍ صغير، مشتت ضائع لا يملك أدنى فكرة عن شعوره في هذه اللحظة.
هيفاء التي كانت ترتجف وهي تحاول أن تدعي بكل شيءٍ عملته في حياتها، لا حيلةً لها غير ذلك، نظرت لنهايةِ أقدامها والدماء التي تصلُ إليْها! هل هي تُسقِط الجنين الآن أم لا ؟ يالله أحفظها وأحمها.
ركن سيارته بمكانٍ خاطىء دُون أن يلتزم بأيّ مرورٍ وتعليمات، أدخلها إلى الطوارئ وقلبهُ يرتفع ويهبطُ بعلوٍ، مسح وجهه بكفيّه لينتبه بأن صمته هذا يجعله ينسى اللجوء إلى الله، في داخله بحّت نبرةُ قلبه بالدعاء، يارب لا تُريني بها مكروهًا.
جلست هيفاء وأصابعها تتشابك ببعضها البعض، تشعرُ بأن أمرًا سيء سيحصل، لا تعرف كيف تتحمل هذا الشعور! ولكن هُناك أمرًا يُخبرني أنه سيصيبها شيء، كل هذه الدماء لن تجعلها تسلم إلا .. إن رحمها ربي، يارب أرحمها وأرحم ضعفها ولا تُرينا بها مكروهًا.
أستغرقت الدقائِق الطويلة وهو يسيرُ ذهابًا وإيابًا، كل أعصابه بدأت تفلت منه وهو ينتظر أحدًا يُطمئنه، بعد تضاربِ قلبه الشديد خرجت الدكتورة : أنت زوجها؟
يوسف : إيه .. كيفها الحين ؟
الدكتورة : هي بخير الحمدلله .. لكن مقدرنا ننقذ الجنين .. يعوضك الله ... تركته وهي تجهل ماذا سببت له! تجمدَّت أقدامه على الأرض دُون أن يفهم شعوره، يجهل نفسه، صمت رهيب يُعيق لسانه عن الكلام، قبل أيام كنت أراه بعيني وهو في رحمها واليوم؟ في اللحظة التي شعرتُ بها بالأبوَّة غادرني هذا الشعور أسرعِ مما يُمكن، في اللحظة التي بدأتُ أحسب كم أسبوعًا بقي حتى أراه، رحَل. ولكنِي أريده يالله! كنت أتوق لرؤيته كثيرًا!
تنهد بطريقةٍ جعلت دمعة هيفاء تنزل بهدُوء، همس : الحمدلله على كل حال ... ألتفت عليها .. خليك بروح الحمام وراجع لك ... أتجه ليتوضأ بخطواتٍ خافتة ليعقب ذلك لمصلى المستشفى، لأن لا أحد يواسي خيباتنا، لا أحد يواسي أحزاننا سوى الله فأنا لا أعرف طريقًا للشكوى سوى السجود، لأني أحتاجك يالله أن تربت على كتفِي وتُجلي حزني، أحتاجك أن تُخفف هذا الحزن، في المرة التي أردتُ بها أن تكون الحياة " إبني " مات.
يُتبع
،
في ليلِ الرياض الطويل، كانت تتوضأ في مغاسلِ الصالة لتطل عليها حصَة : أيّ صلاة؟
الجوهرة : لا مو صلاة! بس كذا من كثر ما أشوف سلطان يتوضأ صرت زيه
أبتسمت : عقبال ماأكسب هالعادة
الجوهرة وهي تُغلق صنبور المياه : حلو الواحد يكون على وضوء دايم يعني وش بتخسرين كل مادخلتي الحمام توضي كلها دقيقة وتخلصين!
حصَة : السالفة مو كذا بس تنسين إذا ماكان وقت صلاة
الجوهرة بهدُوء : أنتِ ماتعرفين متى تقبض روحك فخليك دايم على طهارة . . . سمعُوا صوت السيارة بالخارج . . . هذا أكيد عمي جاء . .
حصة : طمنيني ولا تخليني أنتظر
الجوهرة : إن شاء الله . . . .
دخل لتُقبِّل رأسه، وبقلق : وش صار عليه ؟
عبدالرحمن : ماعليه خوف لكن أمرنا لله بيجلس في المستشفى هالأيام
الجوهرة : بس مافيه شي ! يعني واعي لا تخبي علي شي
عبدالرحمن : واعي وكلمته والحمدلله
الجوهرة برجاء : طيب طلبتك خلني أروح له
عبدالرحمن تنهد : وين تروحين له! خليك مرتاحة وهو صدقيني بخير ..
الجوهرة : الله يخليك عمِّي! لا تردني
بمُجرد ما نظر لعينيْها حتى رضخ، هذه العينيْن مقنعة وجدًا : طيب ... روحي ألبسي عباتِك
ركضت الجوهرة للأعلى ليبتسم عبدالرحمن، هذه الجميلة بقُربِ بناته وأكثر، حظُك يا سلطان البائس أظنهُ يبتسم إن أتى بإتجاه جوهرتك.
نظر لعائشة : جيبي لي مويا
عائشة بغمضة عين مدَّت له الكأس، رفع حاجبه عبدالرحمن بشكٍ من امرها المُريب : فيك شي؟ صاير شي هنا
عائشة : لآ بابا .. الحين بابا سولتان شنو فيه
عبدالرحمن ضحك ليُردف : الله يرزقنا حُبكم لهالسلطان! مافيه شيء بخير الحمدلله
عائشة بنبرةٍ سريعة : أنا واجد خوف بابا هادا بابا سولتان واجد زين هو مو واجد زين بس يأني*يعني* هرام*حرام*
عبدالرحمن أبتسم : ليه مو واجد زين؟ وش مسوي لك!
عائشة بإبتسامة واسعة : يأني هو زين انا ما يقول مو زين بس واجد آنقري*عصبي*
عبدالرحمن يرفع عينه للجوهرة التي تلبس نقابها، مد لها الكُوب : شكرا
عائشة : أفوَّا
خرج مع الجوهرة متجهان للمستشفى، بنبرتها الخائفة : قلت له لا يروح بس ما سمع كلامي!
عبدالرحمن : الحمدلله عدّت على خير بس هالمرة مستحيل يخلونه يطلع من المستشفى! عاد الله أعلم كم بيجلس يمكن أسبوع وأكثر.
الجوهرة : طيب وش اللي صاير في شغلكم ؟
عبدالرحمن وهو يقف عند الإشارة الحمراء : تعرفين سلطان وش وظيفته بالضبط؟
الجوهرة : لا
عبدالرحمن بإبتسامة : إذن ماراح تعرفين وش صاير
الجوهرة : لا يعني أبي أتطمن
عبدالرحمن الذي يشعرُ بأن اليوم كان ثقيلاً على قلبه أكثر مما يجب، ولا يعرف كيف سينام الليلة وعائلته هُناك! لا تكفي إتصالات عبدالعزيز لا يكفي هذا الإطمئنان من عزيز : كل شيء تمام الحمدلله .. تطمني.
تمرُ الدقائِق طويلة شاقَّة في تقاطعات الرياض المزدحمة حتى ركن سيارته في مواقف المستشفى : يمكن نايم ماراح نطوّل طيب لأنه ماهو وقت زيارة
الجوهرة :طيب . . . . دخل معها وبمسافةٍ قصيرة فتح باب غرفته المخصصة، ألتفت عليها : نايم!
فتح عينيه وهو الذي كان يحاول أن ينام بعد أن أستغرق يومه في النوم تحت وضعية التخدير، أبتسم بوسعود : كويِّس مانمت!
نظرت إليْه وهي ترى شحُوب ملامحه وصُفرةِ ملامحه المربكة لحواسِّها، عقد حاجبيه ليلفظ ببحة : ماكان له داعي
عبدالرحمن : أعقل هذي مرتك وتبي تتطمن عليك! .. جوهرة حبيبتي ماعليك منه أجلسي وبجيك بعد شوي ... وخرج.
أقتربت منه : تحب تعذب نفسك وتعذبنا معاك
سلطان بضيق : عسى ما روعتي عمتي؟
الجوهرة : لآ .. كيفك الحين ؟
سلطان : أنتِ وش شايفة ؟
الجوهرة بوجَع والدموع ترتفع بسلالمٍ هشة نحو عيناها : ممكن تتكلم معايْ بأسلوب أكثر لباقة
سلطان : مو قلت ماأحب أحد يجيني المستشفى!
ألتزمت الصمتْ وهي تتأملُ ملامحه التي أشتدَّت، أعرفُ أن التعب يجعل الشخص يرضخ قليلاً ولكن أنت يا سلطان شيءٌ آخر، شيءٌ لا أعرف ما منتهاه! مرةً أقُول أنك وطن ومرةً أقول أنك منفى.
يلتفت عليها : تطمنتي؟
الجوهرة : بتطردني يعني؟
سلطان بهدُوء : أنا سألتك
الجوهرة تنزع نقابها لتستفزه وهي تحاول أن تُوصل له بأنها ستطيل المكوث، غرق في عينيها اللامعتين لتُردف : جوابي وصل ؟
سلطان نظر للجهةِ الأخرى دُون أن ينطق بكلمة أو حتى حرف.
أبتسمت، لتجلس على السرير بجانبِ بطنه مما جعله يزيح قليلاً، هذه المرَّة من يستعمرك ويعبثُ بك : أنا ولست أنت، أيقنت أن الحياة أقبح من أن أتحداها بالقوَّة، أيقنت تماما بأن الخيبة التي تترسبُ في قلبي أخفُ وجعًا من أن أقسى وأُكابر، وضعت كفَّها على كفِه الباردة بإستحلالٍ تام لجسدِه : أقدر أرجع أسألك مرة ثانية كيفك؟
كان يعرف ما خلف هذه النبرة، يشعرُ بلمسةِ كفِّها وبالكلمات التي تنتقل من جلدها إليْه، يعرف تماما ما تقصد وما تعني بجملتها، تستفزني كثيرًا في وضع لا أستطيع به أن أقف وأروضها، أبتسم ليُعاكس البركان الذي يشتعل في صدره : وأقدر أجاوبك مرة ثانية وأقولك أنتِ وش شايفة ؟
أبتسمت بطريقةٍ لاذعة مستفزة لعينيْه التي تعلقت في شفتيْها : طيب الحمدلله، عمي عبدالرحمن يقول أنك بتجلس أكثر من أسبوع طبعا ماراح تخليني أنا وعمتك في البيت محروقة أعصابنا! ياليت تتحمل زيارتنا الثقيلة يوميًا .. " شدَّت على كلمتها الأخيرة "
عض شفتِه السفلية : عندِك دقيقة وحدة لو ماأبعدتي عن وجهي بتشوفين شي . .
وضعت أصابعها برقة على شفتيه لتمنعه من الكلام وهي تستلذُ بتعذيبه : أشوف إيش؟ معليش يا سلطان أستحمل لو أنك جالس في البيت وسمعت كلامي ماصار كل هذا! لكن أنت تحب تأذي نفسك وتأذينا معك
سلطان يعضّ أصابعها لتسحبها بقوة وهي تُطلق " آآه ": أنتهت الزيارة مع السلامة
الجوهرة بعناد : أنتظر عمي يجي .. ولا تبيني أطلع وأدوِّر عليه
سلطان بهدُوء : والله شكلك شايلة في قلبك كثير والحين تردين عليّ فيه!
الجُوهرة بمثل إبتسامتها المستفزة التي تتصارعُ مع ملامحها الناعمة البريئة : ماعاش من يشيل في قلبه عليك
سلطان : الجوهرة أحفظي نفسك أحسن لك
الجوهرة : جرِّب شوي الشعور اللي تخليني أحسه كل يوم
سلطان بحدة : جاية تتشمتين!
الجوهرة بجدية : أبوي ما رباني على الشماتة
سلطان : أتصلي على عبدالرحمن وخليه يجي ولا عاد أشوفك هنا
الجوهرة بهدُوء : قلت لك تحمَّل زيارتنا الثقيلة!
سلطان بغضب : لآ تعانديني قلت مافيه يعني مافيه!
الجوهرة : طلبك مرفوض
سلطان حاول يستعدِل بجلسته ليُفرغ غضبه بسهولة ولكن يدِها توجهت لصدره لتُرغمه على الإستلقاء وبصوتٍ خافت : يعني وش فيها لو جيناك! حرام ولا عيب!
سلطان : عندي حرام وعيب ومكروه!
دخلت الممرضة الناعمة لتطمئن على وضعه، لم تكن نظرات سلطان تتوجه إليْها بقصدها ولكن من غضبه شتت نظراته عليها دُون حتى أن يُفكر بتفاصيل الوجه الذي يراه.
بحركةٍ جريئة لم يتوقعها أبدًا وضعت يدها على ذقنه لتلفهُ نحوها . . . .
،
يُطيل النظره به دُون أن يفهم ما يقصده بكلماته : طيب؟
: وش طيب! أنا أقولك اللي عندِي! مو تبي تطلع حرتك
ناصر : إيه كلهم بلا إستثناء من سلطان إلى فيصل
: خلاص أعتبر موضوعك خالص، خلال يومين بنفسك راح تنتقم لنفسك ! وش تبي أكثر من كذا ؟
ناصر بهدُوء : ولا شيء! أبيهم يجربون شعوري خلال سنة كاملة وأكثر! أبيهم يحسون وش سوو فيني
: ماراح يحسون بشعورك سنة! بخليهم يشوفون هالسنة في يوم واحد . . .
،
وضع رأسه على الباب، صداعًا يُفكِك خلاياه ولا تركيز يُسعفه وينقذه، ألتفت عندما سمع صوت خطواته ليشدُ على قبضة الباب : يبه أترجاك لا تقرب لها
رائد : أبعد عني
فارس : لآ ماراح أخليك تدخل!
رائد بحدة : قلت أبعد
فارس بتوسل : ماراح تدخل ولا اللي معك راح يدخلون عليها!
رائد : فارس!!! لاتعصبني .. قلت أبعد
فارس يُغلق الباب بالمفتاح ليضعه في جيبه وهو مازال يشدُ على الباب حتى وهو مقفل : يببه تكفى .. تكفى هذي أول مرة أطلب منك شي يخصني
رائد بهدُوء ينظر إليْه : طيب أبي أشوفها ! أبي أتأكد
فارس بغيرة لاذعة : لآ .. ماتشوفها
حمد الذي كان بجانبِ رائد أردف بنبرةٍ ساخرة: على فكرة دينك يقولك يجوز أبو الزوج يشوفها
رائد إبتسم في عزِ غضبه ليصفعه فارس بحقد وهو الذي يحتبس غضبه منذُ ساعاتٍ طويلة، كان لا بد أن يفرغه بوجهِ أيّ أحدٍ يقابله.
رائد : حمد أطلع . .
يتبع ,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك