بداية

رواية عندما نستلذ الالم -23

رواية عندما نستلذ الالم - غرام

رواية عندما نستلذ الالم -23

رفعت عينيها لباب الحُجرة الصغيرة التي تحتويهم
لتجد صاحبة المنزل وزوجها العجوز يناولون النساء و الأطفال القليلين الذين لحقت بهم خُبزاً ليأكلوا
أيدي الجميع تتناوشه لكي ينالوا حصصهم
وصَلت لها قطَع صغيرة أنحنت و وضعتها بجانب " عمر " النائم بجوارها
و صوت إنفجار بعيد يُسبب إهتزاز ضعيف لجدران المكان
يعود ليثير خوفها الذي لم يتبدد للحظَة أبداً
أسندت رأسها وهي تتنفس أكبر قدر من الهواء
الملوث برائحة البارود
و تدعو الله بصدق .. أن يلطُف بهم
و ينُهي خوفها
*
أستغفر الله العظيم
بالخارج نام الليل بكآبة و أضواء حمراء تُنغّص منامه
أثار نيران مُتفرقة بين هُنا وهناك
صيحات مكتومَـة و أهات نازفة ..
أعينُهم تفيض من الدمع و قلوبهم ترتجف بشدة
فقدوا الكثيرين مع آخر غارة
و بات المكان مُظلماً كئيباً بلا كهرباء أو أي وسيلة
تُذكر بالحياة
هو ترجّل من دراجته النارية
و تركها لفتى في السابعة عشر من عُمره
أسّر إليه حديثاً , فبدت أماراه الحماسة على الأخر
ركبه وأنطلق به مُبتعداً صوب " بيت لاهيا "
بينما أنطلق خالي الوفاض لا يحمل معه سوى بضعاً من حاجيته .. و عقُله المُثقل بالتفكير
مع أي فوج رحلت هي .. ؟
أي ركب أقّلها بين جنباته ..؟
ساعات قليلة تفصَلهم عن إنفجار آخر ..
هل سيدركُها قبل فوات الأوان
لمَا يشُعر بكُل هذا القلق الرهيب عليها
هل لأنها أمانة أخيها ..
أو رُبما لأنـهـآ
قًطع تسُلسل أفكاره صوت حاد يعرفه
..- دكتور فيـــصل ..
رفع بصره نحوه و تقدم بخطوات سريعة باتجاهه
حيث وقف الأخر خلف كُتلة مُحطمة من بقايا منزل مُتهدم
أمسك الأول بذراعه و بقوة سأل
..- ويـن أخذتوهم ..؟
شد المُمرض يده من بين قبضَتيه
وهو يُجيب بصوت هامس ونبرة خافته
..- معرفش يا دكتور .. بس أتفرئنا لنُصين ..
زمجر القلق بشدة في روحه
فأغمض عينه بقّوة وهو يسأل بمُباشرة
..- إيـه .. ويــن " المُمرضة " و نسرين .. مع أيهُم ؟
ثم بدت علامات الحيرة على الأخر
ليشد الأول قبضَته من جديد ثم دفعه أمامه وهو يهتف
..- أقول .. تحّرك .. ودنّي عند إلي تعرف مكانهم
تحرك الأخر سريعاً امامه
و عقل " فيصل " يحُلل في جُزء من الثانية مُوقفه
فلربما أحدُهم يعلم بأي طريق سلك أولئك الأخرين
لم يكُن مع تقسيهم لكَنه امر لا بُد منه
لا مكان يسعُهم
أجتاز به الأخر الأزقة .. ومّر بالعديد من المناظر المؤلمة
من الصعب جداً .. أن يكون الرجل عاجزاً بذاته
لكَنه طبيب يعشق الوقوف على مداوة الأخرين ويرجواراحتهم
وها هو يراهم دون أن يساعدهم .. عاجز تمام
لا يحمل سوى أمتعته التي عليه و القليل الأخر
وصَل لمنزل صغير
توسطَ ساحة مُشجرة بأشجار الزيتون المُنتشرة في هذه المنطقة
وقف بالخارج حيث نُصبت خيام بلاستيكية صغيرة
لحالات كهذه ..
خرجت " نسرين " مُسرعة من المنزل وهي تتجه نحوه
فأبتسم براحة مُطلقة وهي تٌبادره
..- الحمدلله على السلامة .. دكتور فيصــل
حّرك رأسه بالإيجاب وهو يجيبها مع شبه إبتسامة
..- الله يسلمك .. " سلمـــى " داخِـل ؟؟
حّركت رأسها بإبتسامة كبيرة وهي تجيب بنبرة دافئة
..- إي .. نايمة .. أناديها إلك ؟
لوح براحته نافياً وهو يجلس على الأرض
..- لاآ .. خلّيها ..
تركتُه .. وهو يحمد الله على سلامتهم جميعاً
ثم تمدد و رقد فوراً .. دون أن يعي
فجسَده المُرهق لم يتذوق النوم ليومين أو يزيد
بينما قلب آخر أشد براءة يرقَد بالداخل
ويحُلم بأماني
تقع بالقُرب منه
مُباشرة
*
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
..- الســـلام عُليكم .. !!
نهضَ بسرعة وهو يصافحه ثم أحتضَنه بشدة
..- وعليــكم السلام .. مرحبــآ بك في ملجأنا الثاني
إبتسم الأخر بتعب و مشاق السفر تلوح على وجهه
..- هههه يا ثقل دمّك .. وين تجلس بس ؟ .. و شّيل ذي الشنط كسرن متوني ..
حمَل حقيبته " الإسعافية " سريعاً و فتح باب الخيمة و ألقاها بداخلها
ليبتسم الأخر
..- الله .. تنام في هالخيمـة .. و الله أيـآم يـآ فيصل
ثم إزدادت إبتسامته وهو يقول بهمس
..- أقول إلا ويـن أختي .. ؟ لا تقـول لي إنك أكلتها
ابتسم الأخر بصفاء و أريحية
..- هههههههه .. غول قالولك .. أختك داخل و ترا درت بالسالفة
اتسعت عيناه بصدمة
..- مـــسرع ..
حكّ شعره بسخُريـة
..- وش نســـوي عـــآد كــآن لازم
قاطعه صوت الأخر وهو ينهض
..- أقول قم .. شف أحد ينادها لي .. أشتقت لها
*
أستغفر الله العظيم
بدآخل وصَلها الخَبر الذي تلقّفته بهجَة و فرح
رغُم كُل هالات الحُزن التي تُحيط بها .. تفتقد جُزء ما في روحها ..
بعيدة عن موطنها حتى لو لم يكُن هناك من ينتظرها
غُرفتها .. نومها .. وراحتها
تفقد الأمن هُنا
أصبحت أمامه تراه كيف هزُل و أنحسرت وجنتاه على خدّيه
إقتربت منه بسُرعة و فزع مُحب همست بعُمق
..- الحمـــد لله على سلامـتك يا خوي ..
تلمست وجهه حينما أحتضَنها إليه وفزعها ينتشَي في صوتها أكثر
..- وش به وجهك صاير كذا .. ما تأكل وأنا أختك ..
تأملها بحُب أخوي كـعسل مُصّفى على قلبه المُشتعل
..- و الله إنتي إلي ضعفــآنـة .. و شكلك مو عاجبني أبد
أنخرطت في بُكاء لا تدري ما سببه .. لكَنها
تلتمس بضعاً من الأمان هُنا بين يديه
أمّا الأخر وقف بعيداً بعد أن ناله من حوارهم جُلّه
و أستفّزه بقّوة منظرها الأليم .. ثيابها الرثَة و الدماء في مُعظمها
حتى حجابها هشّ رغُم تماسكُه
لم يستطع أن يفُرق بينها و بين سيدات من هُنا
لكَنه تذكر أن ملابسها التي أحضرها من أجلها
طُحنت تحت ذلك الملجأ المُنهار
قطَع سيل مشاعره رنين الهاتف
الذي ألتقطه بلهفه وهو يقول لـنفسه
..- زيــن جات فيه شبكة هنا
تحدثّ مع الطرف الأخر قليلاً و بصعوبـة
أستمر الحديث لضعف الإشارة
ثم أغلقه و الوجوم يعلو ملامحه
صوت آخر نطق بقوة من خلفه
..- وش فيــه .. عسى ما شر
عاد إلى السور المنخفض و أتكئ عليه بذراعيه
وهو يحاول أن يشتت نظره عن منظر تلك التي تختبئ برأسها فقط خلف أخيها
لعينيّ الأخير و أشار بإشارة ما
ليلتفت " حُسام " لـأخته وهو ينطق بحزم
..- أدخلي داخل .. شوي بناديك مّرة ثانية
لفّت طرف جلالها الأبيض حول سبابتها وهي تقول بحرج لموقفها
..- بــس أنـ
قاطعها وهو يضَع يديه على كتفيها و يدفعها بلطف أمامه
..- لو سمـحتي شّـوي بس .. و برجع وأناديك
دخلت بالقوة وعاد الأخر ل"فيصل " وهو ينطق بقلق
..- هاه .. وش كُنت بتقول لي ؟
إلتفت له الأخر و الوجوم يخيم على ملامحه
..- ما لنـآ قعدة هنا
حّرك الأخر يده وهو يقول
..- كلنا
حّرك رأسه بالنفي وهو يجيب
..- لاآ بس حنا الرياجيل .. يقلون إنهم بيجتاحون المنطقة هاذي .. وجودنا خطر على النسوان
عقد الأخر حاجبيه بقوة من خطر الموقف وهو ينطق بحزم
..- أجل نختفي من هنـآ .. بس وش إلي يضمن لنا إنهم ما يأذوهم
ازداد طنين موجع في إذن الأخر وقلبه يخفق بتوتر كبير
..- و لا شــــي ..
ضّرب كفيّه ببعضِهما وهو يلتفت حوله بسُرعة كعادة يتبّعها عند خوفه و تفكيره
..- أجل قم .. خلّنا نقّدم بالنسوان قدّام .. و حنّا نبدّل ملابسنا ونلبس مثل أي مواطـن ..
عقد الأول حاجبيه من غرابة الفكرة
..- لاآ بـــس حنّا عندنا أوراق تثبت إننا أطـ..
..- إنــسـى الأوراق وسالفتها .. هذآ إجتيــــآح
*
أستغفر الله العظيم
فٌلول النساء تتقدم ببطء بسبب الأطفال و العجائز بينهم
بينما تتحرك خطوات الشابيـن
تتبعهم " سلمى " كـظّلهم ..
يتفرّقوا و يتوقف كٌل منهم على حدى أمام أي منزل كبير
قد يستوعب العدد القادم منهم
لكَن الرفض القاطع كان إجابة الجميع
لكَن فيصَل و حسام لم ييأسا أبداً
رغُم اليأس الذي حّل على سلمى .. حتى خشيت أن يبقى الجميع مُفترشاً الأرضا ومتوسداً الحجرة هذه الليلة
لكَنهم توقفوا آخيراً أمام منزل كبير
و طَرق فيصل الباب عدة طرقات
فتأخر الجواب
حسرة انتابت الجميع .. و الدموع فاضَت من عينّي " سلمى "
تألم حُسام كثيراً
فهمّ بكسَر القُفل .. لكَن صوت حركة صدرت من داخل المنزل
تبعها إستدارة لقفل الباب
ثم ظهر رجُل مُســن يرتدي ثوب أبيض مُشع
تفّرس فيه " فيصل " الصلاح و التُقى
فبادره بالمُصافحة وهو يقول
..- نبيـك تضُف ذولي المساكيـن و أنا و خويي موب معاهم
تأمل الأخر العجزاء الذين استلقين على الأرض بإنهاك من طول المسير
ثم و بعد بٌرهة .. وافق على ذلك
و أدخلهم إلى المنزل .. شرط أن لا يدخلوا معهم
فوجود رجال قد يُلحق المصيبة بهم جميعاً
و لدى الباب بكَت بشكْل موجع
وهي تحَلف يميناً مغلظاً أنها ستتبعه و لن تتركه مرة أخرى
..- خلاآآص .. أرجوووك .. تراني حلفـــت .. لا تنكَث بيميني يا خوي وتقهرني .. خذني معك
غضب و ألم نفَى ذلك وهو يقول
..- و يــن أخذك مالــك مكــآن أجلسي هنا .. و أنا بخليـك المسؤولة عن المكان
مسحت وجنيتها بظاهر كفّها وحجابها ينزلق من مقدمة
شعرها .. لتتساقط خصلات وفيرة من شعرها الكستنائي
وهي تعود لتمسح عينيها بقوة
..- إييييه .. بزرر أنــآ تقصّ عليّ
لكَن لم تستوعب للحظَة لتلك اليد التي حجبـت حُسام عن ناظريها
فجّرها هو بقربه .. أدخَل شعرها الظاهر تحت حجابها
المُهلهل وهو يقول بحزم
..- لاآ منّب مخلّينك هنا .. بتجين معنا .. بس ها تسمعيـن الكلام ..؟
مع الجملة الأخيرة رفع سبابته مهدداً
فأنكوى وجهها بحمرة خجّل تبخّرت من حرارتها دموعها
هُناك وهي تخفض نظرها و تقول بإصرار رغُم خجلها
..- بسمـع كلام ..
إلتفت وهو يلتقط قبضَتها في حُضَن راحتيه
و رحل وشيء ما لا يكنهه يتحّرك بسعادة في قلبها
زجره مراراً لكَنه أقوى منه
ابتسم لذلك بشّدة .. و أخفاها
و هذه الابتسامة لأن عينا " حُسام " الهازئة تلحق بهما
قارب خطاه وهمس بخفّة
..- أفااا .. طحت و محد سمى عليك ..
حّرك يدها للأمام ليقربها أكثر .. ثم أحتضَن ذراعها
وهو يشعر بإرتجافتها .. فشّد عليها
ليبثّها شيئاً من الطمأنينة
و غرقت أجسادهم في ظلام الليل
وعقلها هي يتذكُر دمعتين ذرفتها " نسرين "
و إبتسامة خالصة لـ " عمر "
*
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
وصلوا لنقطَة مخيفة .. وتوغّلوا في الأنحاء بعُمق خطير
غرضُهم الخروج من بيت لاهيا .. و الذهاب لـغزّة تحديداً فالناحية هُناك أكثر أمانا ..
و بإمكانهم بعدها العودة إلى الوطن ..
توقف " حًسام " عن المسير فجأة .. ثم تراجع خطوات إلى الوراء وهو يشير للأخر
ويقول بهمس خافت
..- فيه صوت سيّارة .. شكَلهم جنود ..
عقد الأخر حاجبيه وهو يقترب بالأخرى نحو الحائط القريب
..- أصبروا هنا .. أنا بقّرب من ناحيتُهم وأشوف
غُصّت هي .. أما الأخر فقفز أمامه وهو يتبعه بتهّور
..- لا والله إني سابقك .. إنت إلي خلّك معها
رفع سبابته أمام الأخر وهو يصّر أسنانه بقوة
..- أقول مهو وقتك .. خلّيني أقّرب وأشوف ..
إختفى لدقائق
زادت قليلاً فأثارت القلق في قلبيهما
وصلوا لحيث أزداد الصوت وأعتلى
و رأوا طيفه يقف على الجادة المُقابلة لهُم
فهناك في الوسط وقف الجنود يمشّطون المنطَقة وأتخذوها مقّراً مؤقتا يحشون به أسلحتهم
الشارع ضيّق بإمكانهم الإسراع فقط في خطواتهم
شرط أن لا ينتبه إليهم أحد
و في وسط الطريق حُطام المنزل في الناصية الأخرى حيث " فيصل "
إزدردت " سلمى " ريقها وهي تحاول إستيعاب
صعوبة الموقف
..- بنروح لـه .. هناك
حّرك الأخر رأسه بالإيجاب وهو يمسح العرق الذي تصّفد على جبينه من شدة توتره
أشار له " فيصل " بيده بمعنى أنتظَر
و بدأ بالعد
لكَن الأخر لم يُلاحظ ذلك أبداً إنشغل " بسلمى " التي تفّوهت بشيء ما مُعربة فيه عن قلقها
فدفعها أمامه بقّوة ولحق بها ليحميها بجسده
ولم ينتبه للصخرة التي تعثّر بها
قفزت بسرعة لحيث كومة الصخور
ولم تشعر إلا بيدان حديدتان تُطبقان عليها
و تدفعها بشدة بعيداً عن للناحية الأخرى
لهثَت بشَدة حين تناهى لها صوت صيحات
المُتفرقة و إطلاق نار .. فسقطت من شِدة الخوف
مُغمى عليها ..
أما هٌناك لدى حُسام
فالمفاجئَة شَلت حركتَه بينما تحركت يداه
بتلقائيّة ليغلق أذنيَه ويحمي صَدره
وأرتمى جسَده بقوة نحو صَخرة كبيرة
أفلتت منه آهه في وسطْ الظلام وعيناه تتأمل أسَنة اللهبْ
هُنـآك على بُعدْ مسافَة منه
زحف الأخر بإعياء شديد وهو يشعر أنه يفقد التوزان شيئاً فشيئاً
وما أن وصَل لذلك الحاجز من الحجارة وألتف حوله
حتَى قال بضَعف
حسام ... ياغبي مو قلت لك أنتظَر لين ما أعدْ ..-
لكَن عينا حسام النادمَة أقتربت منَه
تأمله
والأخر يشَعر بسائل بارد ثخين الذي راح يغطي عينه اليمنى
آخر ما سمعه هو صرخة حُسام المنفعَلة
سلمى .... سلمى.. ..-
وثم أختفى كُل شييء
وأغلق عينيه هو على أبتسامَة
وخيالاتْ
الدفء الحقيقي موجود
لدى القلوب الأكثر إشتعالاً
القادم بعد أربعة أيام : )
أشره على الزفرة
لا باحت بالألم
اللذة الثامنة و العشرين
عندما نتحسس بحرارة
مشاعرنا الجليدية
فأن الجليد هو ما سيحّول تلك الحرارة لبرودة مُستعرة
على هذه الكلمات أغلقت كتَاب " كيف تقّوي ثقتك بنفسك "
المُهدى لها من قبل مركز رعاية خريجات السجون و أسُرهم
مسحت كفيها ببعضهما .. بملامح لا تحمل " هديل " الأولى
و لا تلك الهديل السابقة
ملامح جديدة لا تندرج سوى تحت البرود و الذُل
أسندت رأسها على حافة الأريكة الفخمة التي ترقد عليها بنصف جسدها
وهي تتأمل السقف المُزيّن بزخارف جبسيّة
أسرف كثيراً .. في إكرامها
رغُم أنها مُجرد حثالة لا تستحق أن يبتسم في وجهها حتى
الأخير لم يكُن هنا أبداً .. بل فقط على بُعد أمتار منها
لكَن الوضَع هذا يريحها
نهضَت بجرأة صنعتها بعض من تأثير الكلمات التي قرأتها قبل دقائق
رتبت الجلابية البنفسجية التي ترتديها
تأكدت من سلامة شعرها المجّدل و المُلقي بإهمال على كتفها
و خرجت من محبَسها
خطوات مترددة تتخذها بشكل مغاير نحو
الصالة الكبيَرة
حيث توزّع في المكان المُعتقّ بالبني الغامق
كنب جلدي بٌنيّ و إضاءة صفراء خافتة
مما أضاف على المكان طابع رجولي بحت
نظرت حلوها برهبة واضَحة كهذا منظر
يجعلها تختنق بوجده حولها رغم يقينها بغيابه
جلست على إحداها لدقيقة أو يزيد
بعدها نهضَت وهي تقول لـنفسها
..- بسم الله عليّ .. أنهبلت جلست بتصّور مع المكان
أنشغلت بفتح الشاشة التلفاز الكبيرة و
ففتحته كما أرادت فهي ماهرة في مُشاهدته سابقاً
عادت نحو الأريكة جلست على طرفها
ثم نهضَت وهي تهمس بضجَر
..- أوووف .. أحد يحطّ كنب بعيد عن التلفزيون ..
التقطت إحدى الوسائد و ألقتها أمام الشاشة
استلقت و بدأت في تقليب القنوات
ثقل ما راح يزحف نحو قلبها .. ويجثم على صدرها
كل تلك المشاهد والأفلام هوسها السابق
يمُر من عينيها بعد يجفف حلقها بمرارة غريبة
لأول مرة تشاهد التلفاز منذ خروجها
أو بالأصح منذ أعلنت قيام الحدْ ..
و أضأت ظُلمات السجن بعبادتها
تحولت حتى أنفاسها لإمراءة أخرى
لا يصَح منها كما السابق سوى اسمها
زفرت بخفوت تبدد به أكوام الأفكار من رأسها
للحظَة أنتفضَت بعنف حينما دوء رنين رنة إعتيادية في أرجاء المكان الخالي
ليصَدح صداه في قلبها
توجهت بعشوائية وإرتباك لكُل صوب
فقد نسيت أمر هاتفها تماماً
ذلك الذي أُعطّي لها كهدية من " خدوج"
لكَنها في الحقيقة رأته قبل ذلك بأسبوع مُخبأ
في حُجرة جدّتها
عبثَت بحقيبة يدوية اُعدت لها مُسبقاً
فوجدته
و أجابت
..- هلاآآ
خرج صوته صافياً عذباً يحمل إبتسامتها
..- هلاآآآآآآ والله بالعروووس .. ها طمنيني بس مبسوطة .. قولي لي إنه شيء حلو .. ؟
ابتسامة استهزاء مريرة فرجت بها عن أسنانها الأمامية
وهي تُبعد غُرتها عن وجهها وتجيب بسخرية
..- إييييييييييييييه مّرة
وصَل للأخرى صوتها .. لتجيبها بهدوء
..- زيـن بقولك ... أنا جد منحرجة من نفسي .. كُنّا على أساس إنه نخلّص وهو قال بعدها بيخرج يسلّم عليك .. بس ما أمدانا نخلّص إلاّ و لقيناكم رحتوا
حتى إنا ندمت إننا طولنا ولا لحقنا عليكم
بللت شفتيها بهدوء وهي تلمح إنعكاسها الباهت على المراءة أمامها
..- إذا على الخال ف ما عليه شره .. رجّال ما شفته في حياتي .. ف حاله حال الغريب .. وإنت مسموحة يا قلبي ما قصّرتي طول الأيام إلي قبل معاي
ألمَها قولها عن " زوجها "أولاً وخالها هي ثانياً
تكَلمت عنه بطريقة باردة جداً جعلتها تهمس بعدها بوجع
..- يمكن كلامك صح .. على العموم .. أمّي وحنّا مفقدتك .. فمسّوين حفلة صغيرة هنا بالبيت على شرفكم .. أبيك تتكشّخيـن و تتظبطّيـن بنات شادية أختي جايين من الشرقية .. يعني أبيك وآآآو .
.
..- زيـــن ..
..- طيّب منتظريـنك يا الغلا .. سلاآم
تركته بجوارها ونهضَت بتثاقل لـ سُجّادتها
لم تُكبر للصلاة
وإنما عقدت يديها أمام صدرها ووقفت تتأمل النافذة أمامها بصمت مُطبَق
عقلها يُحلل مُليـون حدث .. و خالها التي كادت أن تنساه يعود لذاكرتها
لا تريد منه أن يراه بل ترجو فقط أن تراه هي من بعيـد تتأمل فيه أمّها
ثم تَرحل ببقايا صورة .. لها
صوت خطوات و اصطكاك المفاتيح يرٌن بقوة في الأنحاء
ثم إتسع الباب الموارب بصرير خافت
و دخل
عندها أغمضَت عينها لدقيقة ثم كبّرت للصلاة
صلّت طويلاً .. بسكون لا تؤديه
لكَن عند هذه الآية انحنى رأسها
و تساقطت دموعها
حاولت التهام الأنفاس لتُكمَلها
"
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ولا يأتَلِ أولو الفضِل منكُم و السعة أن يؤتو أولي القربى و المساكين و المهاجِرينَ في سبيل لله و ليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكُم
تحبون أن يغفر الله لكُم
تحبون أن يغفر الله لكُم و الله غفور رحيم "
إبتلعت في حلقها الكم الباقي من ألمها وسجدت إلى الله ترجو عفوه هو ومغفرته لها
أنتهت من الصلاة وهي تتذكر أنه هُنا
صوت ثُقل المُتحرك على السرير يصلُها ربما هي المرة الثانية
أو الثالثـة التي ياتي إلى هُنا
..- تقبــــل الله ..
رفعَت يديها و مسحت وجهها عموماً ثم إلتفتت له وهي تحمل سُجّادتها بيدها الأخرى
..- منّا ومنـك .. تعشيـــــت ..!
لم تكُن ملامحه تشي بشيء فهي زوجة تقوم بكُل واجبتها
لكَنه كُتلة جليدية مُتحركة .. ربمُا شتم نفسه مراراً على تهوره
وأخذها .. لكَن رغبة حمقاء جعلته يتمنى أن يرها بعد السجـن
كيف أصبح منظرها .. كان يود أن يستلذ بذلك فلطالما حذّرها
ضربها و أهانها لكَنها كانت غبيّة مُتعجرفة
ومنحرفة قذرة ليس إلاّ
أما الأن فهي كُتلة البياض الروحي .. النور الربّاني المُغطي لملامحها
قٌربها الشديد من ربها .. جعلها تتشبّث بمنطقَة جديدة
يتحسسها لأول مرة في قلبه
شيء جديد إسمُه الحُب .. حُب لم يعتده قبلاً
حُب إنحرف هو الأخر ليبحث عنه .. لكَن هي أعادته لمنزله و لسكُنى الديار
التي هجرها طويلاً
حركّت كفّها أمام ملامحه السارحة وهي تعود لتقول بجدّيـة
..- هلاآآآ .. معااااي ..
وعندما انتبه لعينيها الزجاجتين أمامه أكملت هي وهي تصد عنه
..- أقـولك تعشيـــت
إسترخى في وضعيته أكثر وهو يجيبها ب برود
..- لاآ ..
فقط يُريدها أن ترحل في هذه اللحظَة عن عينيه
يكبُت رغبـة في جذبها لداخل قلبه .. في تأمل عينيها اللامعتين
و خدّها الندي دائماً ..
إلتقط بفضول إحدة الكُتب المُلقى على السرير
ووقع بين يده " اسعد امراءة في العالم " للشيخ عائض القرني
فتح صفحة بحذر صفحة مطويّة يبدو وكأنه وصلت إلى هُنا
و وقعت عيناه على هذه الحروف
العقد الثاني : قليل يسعدك ولا كثير يشقيك
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت ، أتاح لها لسان حسود
عمرك المحسوب هو عمر السرور والفرح والرضا والسكينة والقناعة ، أما الجشع والطمع والهلع فليس من عمرك أصلا ؛ فهو ضد صحتك وعافيتك وجمالك ، فحافظي على الرضى عن الله ، والقناعة بالمقسوم ، والإيمان بالقدر ، والتفاؤل بالمستقبل ، وكوني كالفراشة خفيفة الظل ، بهيجة المنظر ، قليلة التعلق بالأشياء ، تطير من زهرة إلى زهرة ، ومن تل إلى تل ، ومن روضة إلى روضة ، أو كوني كالنحلة ، تأكل طيباً وتضع طيبا ، وإذا سقطت على عود لم تكسره ، تمس الرحيق ولا تلسع ، تضع العسل ولا تلدغ ، تطير بالمحبة ، وتقع بالمودة ، لها طنين بالبشرى ، وأنين بالرضوان ، كأنها من ملكوت السماوات هبطت ، ومن عالم الخلود وقعت .
إشراقة : الله يحب التوابين ؛ لأنهم رجعا إليه وشكوا الحال عليه
ومضة : الحمد لله الذي أذهب عني الحزن
أغلقَه ليرى المُلصَق الكبير
كُتب فيه " كتاب من سلسة الكُتب المختارة من دار رعاية الفتيات
و حدة خريجات السجون و أسرهم "
لوهلة أدرك حجم ذلك البؤس التي تُحاربه داخلها
لكَنه رجُل عاقل .. هل سترضَى له نفسه يتزوج إمراءة تزوجت
حراماً قبله .. ؟
عند هذه النقطَة أشمئّز بشدة وهو يلتفت لها
وهي تقول بهدوء
..- العشاء جـآهز ..
نهضَ وهو يشير لها بسبابته " أن أتبعيني "
ففعَلت ما أرد
وصَلت حيث وصَل قبلها وآشر لها بالجلوس .. ففعلت أيضاً
و بدأ في الأكل دون أن يدعوها لمشاركته
لأن يعلم مُسبقاً أنها ستفعَل
قاطعه صوتها الخافت يقول بحرص
..- اتصلت علي عمتي " الريم " تقول على عزيمة غدا مسوينه في بيت جدتي
أجابها وهو يتأمل ملامحها و بذات عينيها الخاشعتان نحو الأرض
..- داري .. ولجَل كذا قومي هاتي لي الكيس الأسود من برا
خليته عند المدخل
نهضَت مُلبيّه لطَلبه ومازلت يداها تداعب طرف الجلابيّة بقلق
لا تُدرك كُنهه
وصَلت للكيـس الكبير .. إرتابت لوهلة
وكانها بدأت فهم أمراً ما
أوصَلت له و تركته إلى جواره
ثم همّت بالخروج فلا داعي لبقائها
لكَن صوت الأمر نفذ لـقلبها الواهن بقّوة
..- مــآ قلت لك روحـــي .. أجلسي مكانك أشـوف
جلست حيث أمرها بجواره مُباشرة


يتبع ,,,,

👇👇👇
تعليقات
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -