رواية بكاء تحت المطر -2
استلقيت على سريري شبه منهارة.. لم تكن مشاكل عيادتي تؤثر بي ولكن خالد.. خالد إنه شيء آخر.. شيء أكبر من كل الكلمات وحكاية تتضاءل عندها كل الحكايات.. إنه حسن الراحل في ثوب جديد.. ربما يصغره بخمس سنوات.. ولكن الشبه بينهما يستحيل تجاهله أو التغاضي عنه..
بحثت في أحد الأدراج وأخرجت صورا قديمة.. صوراً من سعادة باتت ذكرى توجع القلوب.. صوري مع الحبيب الراحل.. وانسابت الدموع من عيني بحرارة.. الدموع التي تحجرت فيما مضى وذابت حين تعلقت بالحلم المستحيل..
التقيت "خالد" في العيادة.. شوقي تخفيه رزانتي كطبيبة.. وأحلامي تقتلها عيناه الكئيبتان..
قال لي بدون مقدمات:
ــ هل هناك أمل يا دكتورة؟
ابتسمت في وجهه ببشاشة:
ــ بالطبع إن شاء الله.. فأنت لست مريضاً بمعنى الكلمة.. إنما أنت تعاني من شيء ما يمكن في اللاشعور.. في عقلك الباطن.. وحين نتوصل إليه ستشفى بإذن الله.. فلا يوجد داء بلا دواء.. لذلك سأعطيك الآن إبرة التفريغ النفسي.. إنها إبرة مهدئة.. ستريحك تماماً..
وعندما استرخى تماماً على المقعد.. قلت له بهدوء:
ــ والآن ماذا تتذكر من طفولتك..؟
قال بصوت كأنه خرير الماء:
ــ كنا أسرة واحده غريبة.. مجتمعين ولكن على شتات في كل منا أحزان هائلة يعجز عنها قلب بشر.. ومشاكل لا تنتهي بين أمي وأبي على أي شيء وكل شيء.. كنت منتظماً في دراستي رغم ضياعي..
وفجأة حدث الطلاق بين أمي وأبي.. وما زالت ذكرى ذلك اليوم البائس تسكن ذاكرتي وتلقى ظلالاً بائسة على حياتي حتى هذه اللحظة..
فقد عدت من مدرستي متعباً مهدود القوى ( وهكذا أنا دائماً ) وجدت أمي تبكي.. تبكي بحرقة وهي تلملم ملابسنا في حقيبة كبيرة وأبي يلاحقها بكلمات ولكمات غاضبة وألفاظ جارحة.. كنت أشعر بالتمزق والضياع وأنا أسرع راكضاً لألقي على بنفسي بين أحضان أمي ليشدني أبي بقسوة ويطرحني أرضاً وهو يقول:
ــ الفاسد.. المدلل.. أفسدته بتدليلها.. إنه لا يصلح لشيء..
وصمت خالد.. وانعكست عينيه اللامعتين صوراًً من الماضي.. صوراً كئيبة تؤلمه.. تعذبه.. تنغص عليه حياته.. ومستقبل أيامه..
أمسكت بالقلم وكتبت في المفكرة التي في يدي:
( عقدة تكمن في الطفولة.. ولدا وحيد بين أربع بنات )
قلت ببطء:
ــ وقبل ذلك.. أعني الطلاق.. ماذا كان نوع العلاقة بين أمك وأبيك؟
ارتعشت رموشه بين عينيه وهو يقول:
ــ كانت علاقة باردة.. جافة.. تخلو من دفء الحب وحرارته.. كان دائماً يحقر أمي ويهينها ويضربها.. لم أرهما يوماً متضاحكين أو باسمين.. كان كلاً منهما يعيش في عالم آخر ودنيا منفصلة عن شريكة.. وعوضت أمي هذا النقص فينا أو على الأحرى بي أنا..
فأغدقت علي من الحنان والحب الكثير والكثير.. كانت تقول لي دوماً:
ــ أنت حبيبي الوحيد.. أنت الرجل الوحيد في حياتي.. ليس في دنياي سواك..
دونت في المفكرة:
( تعلق مبالغ من الأم بالولد وفي الوقت نفسه قسوة شديدة من الأب )
سألته:
ــ وهل تحب أمك كثيراً؟ أعني أكثر من والدك؟
التفت إلي وكأنه فوجىء بالسؤال.. ثم قال ببرود:
ــ لقد كانت حنونة علي أكثر من أبي وشيء طبيعي أن أحبها أكثر منه..
قلت له وأنا أقصد السؤال:
ــ أتحبها إلى درجة الموت؟
قفز مكانه فجأة وكأنني صفعته.. ولبث لحظة يحدق بي دون حراك.. تمالكت نفسي بصعوبة فلم ترهبني حالته النفسية قدر إحساسي المجنون بقربه مني "حسن الحبيب الراحل يعود لي مرة أخرى"..
انتشلت نفسي من أفكاري وأنا أواجهه.. ترددت أنفاسه بصعوبة.. جاءني صوته وكأنه ينتشله من بئر عميق:
ــ أحب أمي أكثر من أي شيء آخر في الوجود..
وألقى بنفسه على المقعد منهاراً وكأنه اجتاز معركة رهيبة.. معركة مع نفسه..
كتبت في مفكرتي:
( علاقة غريبة تربطه بأمه.. الموت هو كلمة السر )
قلت وأنا أتفحص وجهه:
ــ ماذا كانت علاقة والدتك بأخواتك البنات؟
نكس رأسه بأسى وهو يقول:
ــ كان كل شيء عادياً بينها وبين أخواتي.. لم ألمح أو أحس بأن هناك شيئاً غير طبيعي.. وكما يحدث في كل بيت كان هناك خلافات بين الأم وبناتها.. أحياناً أيضاً كانت هناك أوقات سعيدة ضاحكة بينهن.. والجميع كانوا يشاركون في رعايتي وتلبية كافة احتياجاتي..
قاطعته:
ــ هل كان والدك يضربك؟
اعتدل في جلسته على المقعد فجأة.. ونظر مترددة.. ثم ابتلع ريقه وهو يقول في صوت مهزوز:
ــ ربما.. في أحيان كثيرة.. ولكن هذا لا يهم.. فكل أب في الدنيا من حقه أن يربي أولاده بالطريقة التي يختارها.. وكل الآباء يضربون أبنائهم..
ثم قفز واقفاً وهو يستطرد قائلاً:
ــ أعتقد أننا تكلمنا بما فيه الكفاية هذا اليوم.. أرجو المعذرة.. أريد أن أذهب..
وتركته يذهب بكل بساطة.. تركته يغادرني ومئات الأسئلة تطرق رأسي حائرة دون جواب.. وصورته لا تغادر عيني..
ماذا وراءه؟ مم يعاني هذا الشاب الفتى الممتلىء صحة وحيوية؟ ما العقدة التي تستقر في عقله الباطن وتنغص عليه حياته؟ ما الحادث الذي اعترض حياته وانتهى به إلى هذه الحالة النفسية التي تقوده للأنتحار؟
لماذا قفز فجأة من المقعد حينما سألته عن ضرب أبيه له؟ وإجابته الملتوية ودفاعه الصارخ عم حق أبيه في ضربه؟ وكأنه يهرب من السؤال ومن الإجابة.
أين تكمن عقدته يا ترى؟
لم أنم تلك الليلة.. ولا في الليالي التي تلتها.. حالة ذلك الشاب خالد الذي أسر كياني حيرني ومزقني خوفاً وهلعاً عليه.. فهي ليست حالة عادية بل حالة خطيرة وممكن أن تودي بحياته في أية لحظة..
ماذا لو فقد حياته قبل أن أتوصل لعلاجه؟ ماذا يحدث لي حينئذ؟ لابد أن أسرع في علاجه وأتخذ كافة التدابير والاحتياطات.. لابد أن أرى والته، فربما عن طريقها اكتشف الخيط الذي يقودني إلى عقدته وأحاول حلها..
قبل موعد الجلسة التالية بيومين اتصلت هاتفياً بخالد.. وهي ليست المرة الأولى التي أتصل فيها بمريض، فكثيراً ما ينقطع الخيط بيني وبين مرضاي مما يضطرني الاتصال بهم.
فمنهم المكتئب الذي يرغب بالتقوقع على نفسه بعيداً عن الأطباء النفسانيين.. ومنهم الذي يهرب بعقدته خوفاً من اكتشاف الطبيب لها في اللحظة الأخيرة.. والبعض يخشى من تعرية ذاته أمام الطبيب.. وغيرهم الكثير..
ولكن خالد كان حالة خاصة ليس لإحساسي الوجداني به فعيناه المعذبتين تدفعاني دفعاً لإنقاذه من دياجير الظلام التي يتخبط فيها..
قلت له بمرح:
ــ خالد.. أريد أن أرى والدتك وأتحدث معها إذا كان ذلك في الإمكان..
قال برجفة فضحها صوته:
ــ هل أحضرها في موعد الجلسة القادمة يا دكتورة؟ وهل وجودها ضروري؟
أجبته برقة:
ــ بالتأكيد وجودها مهم في خطة علاجك.. أرجو أن أراها في الجلسة التالية..
في موعد الجلسة التالية دخل خالد وبصحبته امرأة هزيلة تناهز الخامسة والخمسين من عمرها.. وخطها الشيب وترك الزمان بصماته على وجهها النحيل.. في عينيها هلع غريب وكأنها تخاف من كل شيء وأي شيء.. وكأنها شبعت رعباً وخوفاً وهلعاً..
قبل أن أتحدث معها بكلمة دونت في مفكرتي:
( أم خالد.. امرأة خائفة.. خائفة حد الرعب )
دعوتها للجلوس وابتسامتي لا تفارق شفتي.. أردت بث الطمأنينة والأمان إلى نفسها المضطربة الخائفة..
طلبت من خالد أن يغادر العيادة على أن يعود بعد ساعة واحدة.. نظر إلى بتردد قبل أن يبتلعه الباب الخارجي..
قلت لها بود حاولت من خلال النفاذ إلى أعماقها:
ــ ابنك شاب مثقف ورائع..
غابت ابتسامتها السريعة وهي تقول:
ــ كان كذلك دائماً.. حتى.. حتى وقت حدوث النوبات كما يسميها خالد.. إنه..
ثم أجهشت بالبكاء.. اقتربت منها أشد على يديها بحرارة..
قالت من خلال دموعها:
ــ لا أدري لماذا يحاول خالد الانتحار؟ إنه شاب وسيم والمستقبل كله أمامه وأنا أفديه بعمري لو أراد.. ولكن.. لا أدري ماذا أفعل يا دكتورة.. إنني حقاً أتعذب..
قلت لها بهدوء:
ــ إذن ساعديني لننقذ "خالد" مما هو فيه.. إنه حقاً لا يدري ماذا يفعل.. ولكن إذا تعاونا معاً أنا وأنت أمكن أن نساعد خالد وننشله بإذن الله من هذه الأزمة..
أجابت وبقايا دموع عالقة بأهدابها:
ــ وماذا أستطيع أن أفعل؟
ــ نستطيع أنا وأنت فعل الكثير.. فكل ما أريده منك هو سرد ما تستطيعين تذكره من طفولة خالد..
~
المقطع الرابع
كيف تزوجت والده.. كيف كانت ظروف ولادته.. طفولته.. نوعية حياتكم العائلية.. وهكذا..
خفضت بصرها إلى الأرض قبل أن تقول:
ــ كعادة أهلنا في هذه المنطقة، فقد تزوجت والد خالد وأنا لا أعرفه ولا أعلم عنه شيئاً ولا حتى صورته.. وفوجئت به بعد الزواج.. فقد كان قاسياً متزمتاً جافاً كعود الحطب.. كان يضربني بسبب وبدون سبب.. يئست من الوصول إلى قلبه أو حتى إلى طريق مشترك يجمعنا ببعضنا، فأهملته وأهملت نفسي وتفرغت لرعاية أولادي.. كل حبي ورعايتي وحناني أصبح لأولادي.. ولسوء الحظ والنصب، أنجبت ثلاث بنات على التوالي، مما أغاظ زوجي وفاقم الأزمة بيننا حتى أوشكنا على الطلاق.. ثم أنجبت "خالد" الولد الوحيد بين البنات.. كان رأسمالي في الحياة والورقة الوحيدة الرابحة في عش الزوجية التعيس.. كان مجيئه للدنيا بمثابة المنقذ الذي انتشلني مما كنت أتخبط فيه.. كنت أحبه أكثر من بناتي وأكثر من حياتي نفسها.. أحطته بحناني وحبي ورعايتي وأرضعته ثلاث سنوات كاملة.. حملت وأنجبت شقيقته التي تليه وأنا أرضعه.. حتى تزوج والده.. تزوج بامرأة أخرى غيري وأعادني أنا وأطفالي بدون فلس واحد إلى بيت والدي الذي لم يرض لي بكل هذا الظلم.. فتقدمنا للمحاكم ورفعنا عليه قضية نفقة ليرد لنا اللطمة بأخرى ويطالب بحضانة بناته الكبيرات اللاتي تعدين سن السابعة..
انحدرت دموعاً مرة على وجنتيها وهي تستطرد:
ــ وانتزع مني بناتي وكأنه ينتزع فؤادي.. انتزعهن قبل أن أودعهن الوداع الأخير.. فلم أكن أعتقد ولو للحظة بأنه سيحرمني منهن إلى الأبد..
وبكت بمرارة..
قلت لها بهدوء:
ــ وخالد ما موقفه..؟ وماذا كان يفعل إزاء كل هذه المشاكل بينك وبين والده؟
مسحت دموعها بظهر كفها وهي تقول وكأنها تتذكر:
ــ إنه غالباً يبقى هادئاً صامتاً ولا ينبس بكلمة..
قاطعتها:
ــ ولا حتى انفعال من أي نوع؟
كررت كلماتي ببطء:
ــ ولا حتى انفعال من أي نوع..
ثم لمعت عيناها فجأة وأردفت بعد هنيهة صمت:
ــ إنه أحياناً يندفع خارجاً من البيت وكأنه يهرب من شيء ما..
سألتها:
ــ ومتى كان يحدث هذا؟
أجابت بهدوء:
ــ لا أدري.. ولكن أعتقد أنه بعد أن يراني أبكي بشدة يفعل هذا.. وقد كان هذا سابقاً.. ولا..
قاطعتها بسرعة:
ــ ولما أصبح شاباً تغيرت حالة الهروب هذه إلى نوبات.. بمعنى أنه عندما يراك تبكين بقوة بدلاً من أن يهرب من البيت كالسابق عندما كان طفلاً فأنه يحاول أن يقتل نفسه بغير إرادته.. هل هذا صحيح؟
نهضت من مقعدها لتواجهني بعينيها الخائفتين:
ــ ما معنى هذا يا دكتورة..؟
ألقيت بنفسي على مقعدي متثاقلة وأنا أقول:
ــ لا أدري.. حقاً.. مازلت حتى الآن لا أدري.. ولكن هل تتذكرين بالضبط ماذا حدث في نوبته الأولى.. أول نوبة تحدث له؟
امتلأت عيناها بالدموع وقالت بصوت متهدج:
ــ كنت مستلقية في سريري أحاول عبثاً النوم حينما اقتحمت حجرتي ابنتي الصغرى صارخة:
ــ أمي.. أسرعي.. خالد يحاول الإنتحار..
أسرعت إليه بدون شعور بينما انطلقت شقيقته لتبلغ خالها في الجوار.. تحلقنا حوله نحاول انتزاع سلك المدفأة من بين يديه الذي كان يلفه حول عنقه بإحكام شديد وكأنه يود الخلاص من حياته..
بعد محاولات عدة وبكاء وصراخ، فتح عينيه فجأة، وكأنه يفيق من حلم مزعج.. عاتبناه على فعلته.. نظر إلينا بدهشة شديدة وأنكر أنه يحاول الانتحار ثم بكى منهاراً وهو يقول بأنه لم يكن يدري ما يفعل..
قلت لها فجأة:
ــ وكيف كانت هيئته حينذاك.. أقصد حينما كان يحاول الانتحار؟
أغمضت عينيها كمن يحاول التذكر.
قلت لها هامسة:
ــ أرجوك تذكري.. فالأمر مهم..
عمّّ الصمت أرجاء الحجرة لعدة ثوان قبل أن تهتف فجأة:
ــ نعم.. نعم تذكرت.. كان وجهه محتقناً بشدة وعيناه محمرتين وكأنه قد شبع من البكاء.. وقد كان خائفاً.. نعم نعم.. لقد كان خائفاً جداً وكأنه يهرب من وحش يطارده.. كان السلك يلتف حول عنقه وهو يتلفت بخوف باحثاً عن شيء ما.. لماذا يا دكتورة؟
كتبت في مفكرتي دون أن أجيب:
( يهرب من شيء ما يرعبه.. تمكن عقدته في الخوف من شيء ما )..
اقتربت منها بهدوء وأنا أقول:
ــ سؤال أخير يا أم خالد.. أرجوك أن تتذكري بالضبط.. ماذا حدث لك في ذلك اليوم الذي حدثت لخالد فيه النوبة.. لماذا كنت تبكين بشدة؟
نظرت إلي بسرعة.. ثم نكست رأسها وصمتت.. طال صمتها حتى اعتقدت أنها لن تجيب عن سؤالي..
أخيراً قالت بصوت جاف:
ــ لم أنس بناتي طوال تلك السنوات حتى وإن نسيهن من حولي.. كنت أنام كل ليلة وصورتهن بين أحداقي.. كنت أتساءل بالسر والعلن عن مكان وجودهن.. وقبل أن تحدث لخالد النوبة الأولى بأيام صادفت امرأة تعرفني منذ أيام زواجي الأولى فقد كانت قريبة لزوجي من بعيد.. تعلقت بها كما يتعلق الغريق بقطعة خشب طافية على الماء.. عرفت منها أن اثنتين من بناتي قد تزوجن وإن كانت لا تعرف على وجه التحديد أين يقيمان والثالثة ما زالت باقية عند أبيها وزوجته وأولاده..
حاولت أن أحصل منها على العنوان لكنها لم تكن تعرفه.. كل ما أخذته منها هو رقم هاتف منزلهم.. عايشت صراعاً مريراً مع نفسي حتى انتصرت عاطفتي على كرامتي وبقيت إرادة الأم هي الأقوى..
لم يكن يجيب على الهاتف سوى زوجي السابق.. لذلك رجحت بأن هذا الرقم ربما يكون هاتف المكتب أو العمل..
في ذلك اليوم البائس حادثته.. رجوته أن أرى ابنتي أو الأخريات.. عنفني وبصق في وجهي.. ذكرته بأولاده الباقين هدى وخالد.. وما أن نطقت بإسم خالد حتى صرخ بشدة:
ــ فلتشبعي به.. أنني لا أريد أن اعرفه ولا أن أراه..
وأغلق سماعة الهاتف في وجهي..
فأجهشت في بكاء مرير.. ودخل خالد.. كان قادماً من الجامعة متعباً.. منهمكاً.. أخبرته بما حدث.. ولم يعلق بكلمة.. دلف إلى حجرته بصمت وأنا غارقة وسط دموعي الحارة.. ثم حدث ما حدث..
دونت في المفكرة:
( النوبات تحدث له بعد مواجهة صريحة مع ماضيه.. مع والده على وجهه التحديد.. شيء ما يخيفه من والده )..
قلت بصوت ناعم:
ــ لقد أتعبتك اليوم يا أم خالد.. ولكن أرجو أن تخبريني هل كان والد خالد يضربه؟
اختلجت شفتاها بقوة واهتزت رموش عينيها.. قالت بعد جهد.. وكأنها تهرب من الإجابة:
ــ نعم..
لاحقتها بالسؤال:
ــ هل كان ضرباً مبرحاً؟
أجابت بحسم وكأنها تنهي الموضوع:
ــ نعم.. ولكن ما علاقة ذلك بالموضوع؟
فاجأتها بسؤالي:
ــ أم خالد.. لماذا أنت خائفة؟
ارتعدت أوصالها بعنف.. وكأن قشعريرة باردة قد تخللت جسدها المنهمك.. شرد عيناها.. أجابت بشردود:
ــ إنني خائفة على ابني.. خائفة على خالد..
ثم استطردت بعد أن استجمعت شتات نفسها:
ــ أرجوك يا دكتورة حاولي أن تنقذيه..
شددت على يدها بحرارة وأنا أعدها بكل خير..
خرجنا من الحجرة لأجد خالد يذرع غرفة الاستقبال جيئة وذهاباً..
ابتسم قائلاً حين رآنا معاً:
ــ هل انتهيتما من الحديث عني؟
بادلته الابتسامة وأما أهمس:
ــ لا تنس يا خالد.. أرجو أن تعود إلي بعد ثلاثة أيام.. اتفقنا..
وغادرني متأبطاً ذراع والدته أو على الأصح هي المتشبثة به وكأنه سيغادرها إلى غير رجعة..
عدت إلى حجرتي وأنا أمسح دموعي الكثيرة.. جاءني صوت الممرضة حانياً:
ــ أنت عاطفية يا دكتورة.. ستتعبين كثيراً إذا لم تفصلي بين عملك كطبيبة.. وبين أحوال الناس ومآسيهم..
ابتسمت ظاهرياً وأنا ابتلع غصة.. إنها لا تدري ولن تدري بأن خالد هو جزء لا يتجزأ من حياتي.. إنه حسن يعود في صورة أخرى.. وليته لم يعد..
**************
~
المقطع الخامس
عشت أياماً كئيبة وأنا أغوص في أمهات الكتب بحثاً عن حالة مشابهة لحالة خالد.. ولكن عبثاً كنت أحاول..
خالد حالة خاصة متفردة بذاتها لا يشبهها شيء حتى بالنسبة لي شخصياً.. فهو قد أيقظ نفسي التي ماتت وشبابي الذي دفنته بين المرضى.. وجوده أعاد لي إحساسي بالحياة رغم إصراري على فصل عالمه عن عالمي وألا تطغى شخصيتي الأنثوية على عملي كطبيبة..
كنت أؤكد دائماً لنفسي أن حسن مات ولن يعود وأن خالد مجرد صورة.. صورة منه..
تتراءى لي صورته.. صورة خالد باستدارة وجهه وشاربه الأسود الخفيف وعينيه المملوءتين حزناً ودموعاً.. شملتني تعاسة تامة فكيف أنتشله مما هو فيه.. كيف؟
تذكرت والده.. والد خالد.. وهو المحطة الأخيرة التي يجب أن أصل إليها.. الضرورات تبيح المحظورات.. ووالد خالد ضرورة بعد أن سدت السبل في وجهي وأصبح خالد المشكلة الوحيدة في حياتي.. فرغم أن كل شيء واضح أمامي إلا أن عقدته الأساسية ما زالت غير مرئية وتغيب في دهاليز ذاكرته..
ولكن كيف أصل لوالده وبيننا عشرات مئات العراقيل.. أولها أن الأب يحاول إنكار وجود ولده خالد، وليس آخرها إنه رجل متزمت ذو عقليه متحجرة كما سمعت عنه..
ولكنني لم أيأس وطمأنت نفسي بأنني حتى لو فشلت في مهمتي فيكفيني شرف المحاولة..
قررت أن أبحث عن والد خالد بمعزل عن ولده.. فلا أريد لخالد أن يعرف أي شيء عن هذا الموضوع.. فربما تعاوده حالاته المرضية التي تشتد بقوة حينما يتذكر والده.. وطفقت أبحث في دليل هاتف المنطقة حتى عثرت على ثلاثة أرقام للإسم نفسه..
اتصلت بالرقم الأول ليرد علي عامل آسيوي أخبرني بلغة متعثرة بأن أصحاب المنزل قد انتقلوا إلى منزل آخر.. وأنه لا يعرف لهم عنوانا أو رقم هاتف..
حاولت بالرقم الثاني ليأتيني الإحباط مضاعفاً، فقد أجابتني امرأة بأن صاحب هذا المنزل قد توفى منذ عشر سنوات وأن لا أولاد له..
ورقم الهاتف الثالث كان يرن بلا مجيب.. أعدت المحاولة مرات ومرات بدون أية فائدة..
ألقيت برأسي على سريري غارقة في لجة من الأحزان، تطالعني صورة حسن بطلعته البهية لتزيد من حزني وآلامي..
رباه كيف أساعد خالد.. كيف أنقذه من مخالب هذا المرض المخيف الذي يحاول الانقضاض عليه في أية لحظة..
لماذا تنغلق الأبواب في وجهي ولا أقبض إلا السراب..
وفجأة خطر لي خاطر.. لماذا لا يكون رقم الهاتف الثالث خاص بمكتب أو شركة لا تتواجد إلا في الصباح فقط..
فرحت لهذا الخاطر وقضيت ليلة مسهدة في انتظار طلوع الصباح..
وفي العيادة كررت الاتصال بالرقم نفسه ليرد علي صوت أجش سألته فيما إذا كان هو والد خالد..
تغيرت لهجته في الحال وقال لي بخشونة:
ــ من أنت وماذا تريدين؟
بصوت رقيق أفهمته بأنني طبيبة خالد وأحاول مساعدته ويجب أن يحاول هو كذلك مساعدتنا..
قال بأنه لا يعرف "خالد" ولا يريد أن يعرفه.. أمنته على كلامه، ولكنني أخبرته صراحة بحرج وضع ابنه وأنه يجب أن يساعدني وليس من الضروري بأن يرى أبنه..
قال وقد نفد صبره:
ــ وماذا تريدين بالضبط؟
ــ أن تحضر لعيادتي لألقي عليك بعض الأسئلة..
صرخ بقوة:
ــ أنا لست مجنوناً لأزور عيادات نفسية.. إذا كان لديك أسئلة فأخبريني بها حالاً..
وقررت بسرعة بيني وبين نفسي بأن ألجأ للتهديد.. فإن هذا الرجل على ما يبدو لا يجدي معه اللين، فكلما ازددت هدوءاً ازداد هو حقدة وعنفاً، فأيقنت أنه من ذلك الصنف الذي فقد كل شيء مع أبوته وما إمعاني له بالتوسل إلا نوع من الإذلال تأباه نفسي وكرامتي ولا يزداد معه إلا تعنتاً وطغياناً.. قلت له بسرعة:
ــ أتعلم بأن رفضك التعاون مع الأطباء يعد مخافة تعاقبك عليه السلطات المختصة؟
صمت لحظات وكأنه يبتلع ريقه قبل أن يقول بصوت بالغ الهدوء:
ــ إنني لم أرفض التعاون معك، ولكنني خشيت أن يراني الناس أتردد على العيادة النفسية فيعتقدونني مجنوناً..
ابتسامة نصر اعتلت شفتي وأنا أقول:
ــ اطمئن لا يستطيع أحد أن يقول عنك مجنوناً.. ولا حتى ابنك خالد.. ولكن صدقني أنا في حاجة إليك..
قال باستسلام:
ــ غداً العاشرة صباحاً.. لن أستطيع الحضور بعد الظهر على الإطلاق..
قلت بهدوء:
ــ حسناً فلتكن العاشرة من صباح الغد..
نبض قلبي بجنون حينما وقع بصري على والد خالد لأول مرة.. إنه نسخة منه.. نسخة طبق الأصل.. بل خالد نسخة من والده.. الأنف الروماني الدقيق ذاته واستدارة الوجه العجيبة.. الشفتان نفسهما المملوءتان قرفاً واشمئزازاً..
وكأن خالد أمامي وقد أضيف لعمره عشرون سنة على الأقل..
رباه.. لماذا ينكر الأب أبنه وهو نسخة مكررة منه، لماذا يكرهه ويرفض مرآة وهو أبيه من صلبه؟ لا بد أن هناك نقطة ما تغيب عني.. لا بد أن في الأمر سراً..
حييته بابتسامة، ولكنه كان يشبك يديه بعصبية وينظر إلى ساعته بين فينة وأخرى وكأنه متعجل..
يتبع ,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك