بداية

رواية عرسنا في الجنة -10 البارت الاخير

رواية عرسنا في الجنة - غرام

رواية عرسنا في الجنة -10

المؤمن بجريرة جرم ارتكب بحقه كرها عنه.
فتمالكت ليلى اعصابها وقالت: اسمع يا شيخ قاسم.. انا ضد الحرب.. وضد كل من يشارك بها.
قاسم: كلنا ضد الحرب.." كتب عليكم القتال وهو كره لكم.." لكن ماذا نفعل ان فرضت علينا ؟
تابعت ليلى وكأنها لا تسمع ما يقول: الحرب كلها مآسي وشجون.. اطفال تمزقها الصواريخ.. شيوخ تدفن
تحت الانقاض.. نساء تنتهك اعراضهن...ثم تمتمت بصوت خافت وتابعت "نساء يفقدن اعز ما يملكن.."
"ان اعز ما يملك المؤمن هو هذا" قال الشيخ قاسم وهو يشير الى قلبه.. "انه الايمان.. الرصيد الذي لا
ينضب. ومعه تهون كل المآسي ولأجله تحتمل كل الخطوب.. "
وتتابع الحوار بدفق وانسيابية فكان بداية التحول في نظرة ليلى الى الرجال.. واضطررت للاعتراف بعد
اسابيع لاسامة انه ربح الرهان.. لقد حصل آخر ما كنت اتوقعه.. تزوجت ليلى من شيخ المقاومين: قاسم..
اللقاء على ارض المعركة
في البدء شعر اسامة بالملل لأنه لم يكلف باي مهمة طيلة فترة وجوده في المعسكر باستثناء التدريب. وتاقت
نفسه الى رائحة البارود الممتزج بالدم وعبق رائحة الموت. ولم تخيب القيادة الموحدة للمقاومة امل اسامة
فكلف بترؤس وحدة من ثلاث اشخاص لتنفيذ عملية كبيرة بقيت ضمن طي الكتمان حتى اللحظة الاخيرة:
تفجير مقر القائد العسكري للجبهة الشمالية في جيش العدو الواقع في قرية المروج.
وجاءت لحظة الحسم وحدد اجتماع الثلاثة الاعضاء في التاسعة ليلا من يوم الاربعاء وتولى الشيخ قاسم ادارة
جلسة العمليات وتعريف اعضاء الخلية الى بعضهم البعض. دخل اسامة الى غرفة الاركان ليجد قاسم منكبا
على طاولة الاجتماعات يحدق في خريطة العمليات. ولاحظ قاسم دخول اسامة فاشار اليه ان يتقدم وقال
"اعتقد بانك تبلغت قرار القيادة بتوليتك امير ا على الخلية"
"نعم" قال اسامة "وتعجبت جدا ان اكلف بهذه المسؤولية في اول مهمة لدي"
فربت قاسم على كتف اسامة وقال "لقد زكيتك عند القيادة يا اسامة فكن على قدر المسؤولية ولا تخيب ظني
بك"
"وهل انت مقتنع بأني اهل لهذه المسؤولية؟"
"انا مقتنع بذلك تماما يا ابن حماي.. القيادة تجري في دمك.. انا خبرتك منذ كنت صغيرا اثناء قيادتك للشلة.."
فقال اسامة باسف "لكني طردتك منها واهنتك وشوهت سمعتك.."
فابتسم قاسم وتنهد قائلا "اسمع مني هذه النصيحة يا قاسم وطبقها ارجوك. اخلاق الجهاد تدفعنا الى التعالي
فوق الاعتبارات الشخصية"
فهز اسامة راسه موافقا وقال "انا اتقبل هذه النصيحة برحابة صدر .. ما المطلوب مني؟"
قاسم: "ستترأس قيادة المجموعة وتحمي ظهورها من الخلف .. وبيدك سيكون قرار التفجير وتوقيت الانسحاب
وتأمين التغطية، سنجهزك بمنظار ليلي، قاذفة ار بي جي مجهزة بثلاث حشوات.. ثلاث قنابل يدوية
وطبعا...".
قاطع اسامة كلام قاسم وربت على ظهر بندقيته وقال "وطبعا بندقيتي القناصة.. انه لشرف كبير ان لي ان
تولوني هذه المسؤولية.. ثم نظر حوله وكانه يستفسر عن هوية الشركاء."
واستشعر قاسم فضول اسامة فتابع كلامه وهو يشير الى تصميم المبنى على الخريطة قائلا: نحن نحتاج
كذلك لخبير ماهر يعرف كيف يزرع اقل عدد من العبوات الناسفة كي ينهار المبنى .. لا يوجد لدينا متسع
من الوقت لتزنير المبنى بكامله.."
فاكد اسامة على الفكرة وقال: "معكم حق مئة بالمئة.."
تابع قاسم دون ان يزيح وجهه عن خريطة العمليات: لذا اخترنا حسام فهو مهندس بناء وخبير في هذه
الامور.
فبهت اسامة للخيار غير المتوقع وقال" لكن حسام ليس عنده خبرة في الحرب.."
اجاب قاسم بثقة "لقد تلقى تدريبا كافيا في معسكر التدريب .. تفوقًا ملحوظًا"
اسامة : لكن انت تعرف ان النظريات شيء والواقع شيء آخر.. لماذا لا نبقيه هنا ؟؟ فليشرح لي الاماكن
المطلوبة على الخريطة وانا اضعها واحدة واحدة. هو الوحيد المتعلم بيننا فلم نخاطر به؟؟
فسمع اسامة صوتا خلفه يقول "لا يا اسامة.. انا جئت إلى هنا لأقاتل لا لأنظر.. دماء الآخرين ليست اغلى من
دمي.. ويوم القيامة لا يختلف حساب المهندس عن حساب أي انسان آخر.."
"حسام انت هنا؟؟" قال اسامة ثم التفت خلفه ليجد حسام فاتحا يديه لاستقباله فتعانق الطرفان بحرارة ونظر
كلاهما في عيني الاخر ثم تعانقا مجددا.
وإن كان وجود حسام ضمن الخلية مفاجأة لاسامة فان الشخص الثالث كان مفاجأة لحسام نفسه.. عرف قاسم
عنه قبل دخوله "هذا شاب جاء من بلاد الاغتراب ليشارك اخوته المسلمين في الجهاد.. شاب اقتنع ان
المسلمون امة واحدة وان المسلم اخو المسلم.. لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود"
و في هذه اللحظة دخل الشخص الثالث دون ان يتبين الحضور ملامحه في الظلام خاصة مع لونه الداكن فقال
بعربية مكسرة "ولا لكهربائي بسيط على مهندس مشهور الا بالتقوى"
"دنجوا.. هذا انت؟؟"
"بلال لو سمحت.. بلال.. ارأيت كم هي صغيرة هذه الدنيا يا حسام؟؟ لقد رفضت ان تأخذني معك فجاء بي
ربي اليك.." قال دنجوا بالانكليزية. ثم تعانق الطرفان بقوة.. وبعد ذلك تعرف الاصدقاء الثلاثة على العضو
الرابع "علي" وهو مزارع متواضع من الجنوب انضم للمقاومة دفاعا عن ارضه.
كانت الطريق المؤدية الى قرية المروج وعرة ولولا مشاركة علي ابن المنطقة في هذه المهمة ما كانت الفرقة
لتنجح في فك طلاسمها. كان علي يدخل الانفاق و الدهاليز التي حفرها المقاومون ابان الغزو الاول ويتجنب
حقول الالغام بمهارة فائقة.
وفي جنح الظلام وصل الابطال الثلاثة الى هدفهم وتجنبوا كلاب الحراسة البوليسية و الاضواء الكاشفة
بمهارة منقطعة النظير. وقطع بلال الاسلاك الشائكة في منطقة مخفية عن الحراس كان علي قد راقبها بدقة
مدة شهر كامل تظاهر فيه انه راع للاغنام ثم قطع التيار الكهربائي عن السياج المكهرب ليتسنى لحسام
الدخول الى حرم القاعدة وتنفيذ مهمته. تدرب حسام على انجاز مهمته في فترة خمس دقائق في فترة التبديل
الروتيني للحراس، وبالفعل انجزها ضمن هذا الوقت القياسي و كان يهم بالعودة الى قاعدته سالما حينما انتبه
احد الحراس لوجود حركة غريبة في الجوار، فاطلق صفارة الانذار وهرع الجنود لمحاصرة الدخيل فانتبهوا
الى وجود الثغرة في الاسلاك فوقف اثنان منهم امامها كي يمنعوا الدخيل من الهرب، وشرع البقية في البحث
والتفتيش بدقة عن الدخيل المفترض.
في ذلك الوقت كان اسامة يراقب الوضع عبر منظاره الليلي بالاشعة ما تحت الحمراء.. ورأى حسام يشير
اليه بأن المهمة أنتهت وأنه يستطيع ضغط زر التفجير.. ولكن يد اسامة لم تطاوعه ان يفجر المكان بالعدو
وصديقه العزيز ضمن دائرة الخطر مع ان هذا السيناريو كان ملحوظا سلفا من قبل القيادة المشتركة
للمقاومة؛ فالمهمة يجب ان تنفذ ولو ادت الى مقتل الثلاثة؛ اذ ان الضرر المعنوي الذي سيلحق بالعدو اهم من
فقدان ثلاثة مقاومين تطوعوا في الاصل ليكون شهداء وحملوا اكفانهم على ايديهم منذ انخرطوا في المقاومة.
مع هذا كله آثر اسامة ان يخالف الاوامر، فأطلق النار من بندقيته القناصة على الجنديين الذين يحرسان
الثغرة؛ مما سمح لحسام ان يهرب من المركز المحصن قبل ان ينتبه لفراره بقية الجنود.. وضاع اثره في
الليل البهيم خاصة وان علي سبق وارشده الى نفق سري يسمح له بالهروب.. ولكن للأسف كان هذا الوقت
كافيا للجنود لينبتهوا الى مخطط المقاومة ويفككوا العبوة الاساسية التي وضعت في عمود مكشوف امامهم فلم
ينفع ضغط زر التفجير متأخرا الا بهدم جانب من الجدار الايسر للمركز المحصن.
اعتزال المهندس
عتم العدو على هذه العملية النوعية التي قامت بها المقاومة لما يمكن ان تتسبب فيه من ضرر معنوي للجيش
والمخابرات، وساعدهم في ذلك محدودية الانفجار الذي حصل والذي تمكنوا من اخفائه عن الصحفيين
والناس. اما قتلى بندقية اسامة فقد اشاع العدو انهم سقطوا بنيران صديقة اثناء التدريب. من جهتها اعتبرت
قيادة المقاومة الخلل في تنفيذ الاوامر خطأ تكتيكيا كبيرا، والقت المسؤولية المعنوية للفشل على الشيخ قاسم
الذي اختار الخلية بنفسه فتقبلها هذا الاخير بصدر رحب. وتأسف اسامة جدا للضرر الذي الحقه بصهره للمرة
الثانية وآثر ان يترك المخيم ليعتكف في مسجد طفولته مسجد الرحمة و يقبل على دراسة القرآن الكريم وتدبره
سائرا على خطى المجاهد الشيخ قاسم.. ولم يتعرف الناس على هذا الوافد الجديد فقد غير الزمن من ملامحه
خاصة بعد ان ارخى لحيته وشاربه و استعاض عن لهجة مدينته الحادة بلهجة اهل الجنوب المتراخية. في هذه
الاثناء كانت المراسلات قائمة بين عبير وزوجها الغائب عبر البريد؛ ولكن لما كانت هذه الرسائل تتأخر احيانا
بسبب ظروف الحرب فقد قرر حسام ان يكتب لها في اول كل شهر تقريبا رسالة يرسلها مع صديق الاسرة
السائق ابو شريف الذي يعمل على خط العاصمة - الجنوب. وتأخر ابو شريف هذه المرة يومين عن موعده
فقلقت عبير كثيرا وفي اليوم الثالث جاء ابو شريف فتلقفته عبير بابتسامة كبيرة وقالت "عمو ابو شريف؟؟لم
تأخرت هذه المرة؟؟ كانت الطريق مقطوعة اليس كذلك؟؟" .. لم يجب ابو شريف بل نكس رأسه في الارض
"ابنتي لقد رجوتهم كثيرا الا اكون انا من يحمل اليك هذا النبأ.." فامسكت عبير بكتف ابي شريف وهزته بعنف
وقال ماذا هناك؟؟؟ تكلم .. هل اصابه مكروه؟؟"
رفع ابو شريف رأسه لترى عبير الدموع تنهمر بغزارة من مآقيه وقال بصوت مرتجف "ولا تحسبن الذين
قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون.."
لم تصدق عبير الخبر وكأن صمما مفاجئا اصاب اذنيها فقالت "ماذا تقصد؟؟ لا لا تقلها.. حسام لم يمت.. "
ثم ابتسمت ابتسامة عريضة كالمجنونة وقال "لقد كلمني البارحة .. رأيته في المنام وطمأنني انه بخير..
مناماتي لا تخطىء ابدا.." ثم داخلها شيء من الامل "ربما اخطئوا فيه.. ربما لم يتعرفوا على جثة مجهولة
فظنوها هو.. لربما اسره العدو"..
هز ابو شريف رأسه وقال "لقد تعرف عليه الجميع.. ودفنوه في مقبرة الشهداء.. احتسبيه عند الله يا بنيتي.."
لم تستطع عبير ان تصمد امام هذا الكلام فانهارت تماما وشرعت تضرب رأسها بالجدار وتقول " لماذا هو؟؟
لماذا انا؟؟ بم اذنبت حتى يكون عقابي هكذا؟؟ اولا والدي .. والان زوجي ولم يمر على زواجه مني الا
اشهر؟؟ لماذا كتب علي الشقاء؟؟ ".. فتح ابو شريف فمه ليعظها ان تتقبل حكم الله ولكنه خاف ان يزيد ثورتها
اشتعالا فآثر ان ينسحب مفسحا المجال للنسوة من جيرانها اللواتي هرعن لمؤاساتها بمجرد ان سمعوا
عويلها.. نعم ابى القدر الا ان يحقق مراميه.. "يدرككم الموت ولو كنتم في بروج محصنة" فبعد ثلاث اسابيع
فقط من العملية الفاشلة اشترك حسام في عملية اخرى قضى فيها هو وافراد خليته جميعهم اذ ترصدهم العدو
في كمين قاتل عند نهاية احد الانفاق السرية.
ومرت بضعة اسابيع حتى اعتادت عبير على تقبل الموضوع وبدأت تفوق من صدمتها واسترجعت يقينها بالله
تعالى ولكنها في أوقات وحدتها كان تعود لتبكي بكاء مرا وتحمل قميص حسام وتضمه اليها بشدة. وفي
الاسبوع الرابع حدث ما لم يكن في الحسبان، اذ جاءتها رسالة من زوجها الفقيد فداخلها الامل لوهلة بأن يكون
حيا والغريق يتمسك بقشة امل. الا انها ادركت ما ان فتحتها انها رسالة قديمة تعود لما قبل شهرين.
"اكتب اليك ايتها الحبيبة الغالية راجيا من الله تعالى ان تكوني انت والصغير اسامة باتم الصحة.. لقد اشتقت
اليكم كثيرا. بالامس قمنا بعملية نوعية نجوت منها باعجوبة.."
وتوقفت عبير عند هذه النقطة واجهشت بالبكاء ...
الخفاش يخرج الى النور
ومرت شهور على استشهاد حسام ولم يعرف اسامة بالموضوع لاعتكافه في المسجد وانكبابه على دراسة
القرآن وتفاسيره. ورغم ان اسامة كان واثقا من النتيجة التي وصل اليها قاسم من قبله عقليا الا انه احتاج الى
فترة من الاعتزال عن مشاغل الدنيا حتى يصل يقينه الى شغاف قلبه. وبعد دراسة معمقة للقرآن خاطبت
القلب والوجدان قبل العقل والمنطق شعر اسامة ان وقت عودته الى الدنيا قد حان فلم يأمر القرآن بالزهد
والتنسك و الرهبانية بل طلب من المؤمن السعي في الارض واعمارها ووصل اسامة الى قناعة التسليم
المطلق للامور الى الله خاصة حينما علم ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد اتخذ حراسا له اعفاهم من
مهمتهم ما ان نزلت "والله يعصمك من الناس". قرر اسامة ان يتخلى عن تمويهه ويعود ليظهر امام الناس
بشخصية اسامة رغم علمه ما يمكن ان يتعرض له من انتقام على يد فلول ميليشيا التنظيم و المافيات. ولكن
مع ذلك كان يعمل بالاسباب قدر استطاعته فلم يفارق عادته في التخفي وفي التحرك الليلي. وفي هذه الاثناء
كانت عبير قد قضت عدتها بوضعها لطفل ذكر اسمته حسام على اسم زوجها، رافضة وصية المرحوم
بتسميته اسامة وبدأت تخرج الى بيت اهلها نهارا لتعود الى بيتها ليلا فتمكث فبه. وخلال عودتها الى منزلها
ظهر شبح اسود من الظلام امامها فوجلت وحاولت الانسحاب بسرعة من طريقه..
"لا تخافي" نادى الشبح "انا اسامة.."
فرمقته عبير باشمئزاز قال "انت؟؟ اسامة القاتل.. المجرم.. المتكبر.. خفاش الليل"
اسامة بهدوء: سامحك الله .. اهذا ما ترينه في حقا؟؟
عبير: لو اردت ان اعدد ما فيك لاستهلكت قاموس الشتائم.. لكني امراة ملتزمة واصون لساني عن فحش
الكلام.
اسامة: بارك الله فيك يا عبير.. والله لم اظن بك يوما الا هذا..
عبير بغضب: لم تكذب؟؟ الا تذكر كل اهاناتك لي في المدرسة؟؟ الا تذكر تكبرك؟؟ الا تذكر كم مرة
ابكيتني؟؟ هل تريدني ان انعش ذاكرتك؟؟
اسامة: عبير.. كنت طفلا.. اتحاسبيني على تصرفات صبيانية ؟؟
عبير بغضب: لا يا أسامة.. الانسان لا يتغير.. انت هكذا من يوم ولدت.. انسان حقود ومتكبر.. عندك مرض
جنون العظمة.. توق غريب للسيطرة.. حتى اني عانيت مع زوجي الشهيد كثيرا محاولة ان اخلصه من
سيطرتك.. ثم اجهشت بالبكاء وقالت "رحمه الله وسامحني على رفضي وصيته ان اسمي ابني على اسمك"
اسامة: "الله يرحمه ويتقبله في عداد الشهداء.. لقد كان اعز اصدقائي.. معك حق انا لا استحق ان اكرم بهذه
الطريقة"
عبير: لقد استشهد في الجنوب مقاتلا ومدافعا عن دينه وارضه.. اما انت..
اسامة: انا ماذا؟؟ انطقيها..
عبير: انت مجرم سفاح.. تقتنص ببندقيتك الابرياء من ابناء وطنك العزل على حين غرة..
اسامة: لا يا عبير.. ربما كنت كذلك في بدايات انضمامي الى التنظيم، حينها ظننت ان قتل المدنيين الابرياء
من الطرف الآخر ضروري للدفاع عن مدينتنا.. ولكن بعد ان عرفت حقيقة الوضع لم اقتل الا من يستحق
القتل.. وانا لن اندم على هذا.
عبير بغضب: ماذا تظن نفسك؟؟ القاضي والجلاد في الوقت نفسه؟؟ من انت لتصنف من يستحق القتل ومن لا
يستحقه؟؟ ماذا تظن نفسك روبن هود ؟؟ تسرق الاغنياء وتعطي الفقراء؟؟
اسامة بهدوء: الله يسامحك.. ماذا اقول لك؟؟ لن تصدقيني..
عبير: صدقت.. هذه الجملة الوحيدة التي تصدق فيها.. انا لن اصدقك ابدا.. افهمت؟؟
اسامة وقد فقد صبره: عبير.. انت قاسية جدا.. انا عشت ظروفا صعبة.. انا لم اولد وفي فمي ملعقة من
ذهب. فتحت عيوني والقذائف تتساقط حول بيتي، والدي استشهد وانا طفل، لم يكن لدي والد حنون مثل والدك
ليوجهني. .. قتلوا امي غيلة وهي تنشر الغسيل.. اضطررت ان اعيل اخوتي وانا في السابعة عشرة،
اغتصبوا اختي.. ماذا كنت تنتظرين مني ؟؟ ان اكون ملاكا؟؟ ام ان ادير لهم خدي الايمن؟؟
عبير يهدوء: هل انتهيت من كلامك..
اسامة: نعم..
عبير: لقد اضعت خمس دقائق من وقتي الثمين..
"انت قاسية جدا يا عبير" قال اسامة بحزن وشد قبضته بقسوة على شيء يحمله فبدأت الدماء تسيل من يديه
دون ان يبالي:
فصرخت عبير بجزع: ماذا تحمل في يدك؟؟
فكبت اسامة المه وقال : "لا شيء.. لا شيء.." ثم انصرف لا يلوي على شيء.
سقوط العملاق
ولم يطل باسامة المقام في مدينته حتى عرف بوجوده فلول رجال التنظيم.. فارسلوا اليه من يقتله غيلة.
خاصة وانهم حملوه ذنب انهيار حزبهم.. بالفعل نجح هذا الشخص في اصابته بجراح قاتلة. فجر اسامة نفسه
جرا حتى وصل الى منزلي.. كنت قد عدت لتوي من العاصمة بعد ان مكثت فيها اشهر الصيف وآثرت
العودة الى منزلي انا ورائد. استقبلت اسامة على الباب وصرخت بجزع لدى رؤيتي له مضرجا بالدماء
فاسندته على كتفي ثم مددته على سريري وهرعت فورا لاستدعاء طبيب.. وجاء الطبيب على عجل وضمد
جراحه قدر الامكان.. وبمجرد خروجه من غرفتي جريت اليه وقلت له "ارجوك طمئني يا دكتور.. هل
جراحه خطيرة؟؟"
فتمتم الطبيب باسى "لا اخفي عليك.. الوضع معقد جدا.. جراحه عميقة.."
"هل ننقله الى المستشفى؟" قلت واعصابي لا تكاد تحملني..
لا يا حنين، لم يعد الطب يستطيع ان يقدم له أي شيء.. امره بيد الله وحده.
كان لهذا الخبر وقع الصاعقة علي.. كنت اتخيل موت الكل الا موت اسامة.. طالما بدا لي شامخا قويا معتزا
بنفسه.. يتحدى الموت ويهزأ به.. كان هذا امرا صعبا علي.. صعبا جدا. لكني تمالكت اعصابي وذهبت الى
سريره وقبلت غطائه الملوث بدمائه الزكية. فشعر بي وافاق من غيبوبته وقال بصوت خافت ""ماذا اخبرك
الطبيب ؟؟ سأموت اليس كذلك؟"
فمسحت دمعت نفرت من عيني وقلت "لا يا اسامة.. ستعيش ان شاء الله .. كن واثقا برب العالمين.."
"ونعم بالله" قال اسامة ثم اعقب "معك حق.."
"معي حق بماذا؟؟"
فاخرج عصابته الحمراء من جيبه حتى اصبح لونها قانيا وقال لي وهو يبكي "انا لست سوبرمان..." ثم
استرجع رباطة جأشه وقال "حنين، هل ممكن اكلفك بمهمة؟؟"
قلت "فداك روحي ودمي يا ابن عمي.. ماذا تطلب مني؟"
قال اسامة بصوت خافت " عبير.."
ماذا تريد منها هذه الحرباء؟؟ الا يكفي كم سببت لك من آلام؟؟" قلت والم الغيرة يعتصرني..
فغالب اسامة المه وابتسم قائلا "حرباء ؟؟؟ الله يسامحك... انها طاهرة كالملاك" ثم تابع "هناك شيء يخصها
معي.. لم استطع ان اعطها اياه في آخر لقاء لنا" واخرج من جيب قميصه سلسلة مضرجة بالدم وسلمني اياها
قائلا "عودي بسرعة.. لا ارغب في ان اموت وحيدا" . وانهرت عند هذه الجملة بالبكاء وكأني طفلة صغيرة
لكن اسامة مسح على حجابي بحنان شعرت معه بأن فيض القوة الذي طالما تميز به انتقل الي فقمت على
الفور لانفذ طلبه.
استقبلتني عبير ببرود وكلمتها ببرود مماثل فقلت لها "اسامة اصيب بجراح قاتلة.. لقد لاحقه افراد التنظيم.."
فقالت ببرود "وبشر القاتل بالقتل ولو بعد حين.."
فقلت لها بغضب شديد "راعي مشاعري على الاقل.. على كل حال انا لم آتي هنا لاقنعك بتوديعه.. فانا
اعرف ان قلبك من حجر.. ولكن جئت لأسلمك أمانة تخصك.. كان ينوي ان يعطيك اياها في لقائكما الاخير..
" ورميت السلسلة المضرجة بالدماء في وجهها وانصرفت.
عرس في الجنة
امسكت عبير السلسلة المضرجة بالدماء وتذكرت منظر الدم يسيل من يدي اسامة فايقنت انه كان يشد على
هذه السلسلة ولا ريب وانه كان يود ان يعطيها اياها. واثارت هذه السلسلة فضول عبير.. لم يصر ان يعطيها
اياها وهو على فراش الموت؟؟ ومسحت عبير السلسلة من الدماء فبدت لها ناصعة لماعة كيوم اشتراها لها
والدها اول مرة.. نعم لقد كانت سلسلتها التي انتزعها منها قطاع الطرق على الحاجز الطيار في اليوم الذي
كانت تنقل فيها والدها الى المستشفى في العاصمة. وبدأت الذكريات تنتعش من جديد في رأس عبير.. كيف
وصلت هذه السلسلة الى يد اسامة؟؟ هل كان موجودا حينما قتل قطاع الطرق؟؟ ثم تذكرت كيف سقطوا
صرعى فجأة وكأنهم اصيبوا برصاص قناص ماهر.. لا بد انه اسامة اذن.. اسامة الذي كان يتبعها كظلها..
والاموال التي كانت تجدها في البريد.. كانت من اسامة ايضا.. كان يتبعها الى أي مكان وكأنه ملاكها
الحارس..
تجمدت اوصال عبير حينما بدأت الخيوط تنكشف لها شيئا فشيئا.. وتذكرت زوجها الشهيد ومحبته لاسامة..
وتذكرت رسالة زوجها التي تلقتها بعد وفاته فاخرجتها بعناية من الخزانة وشرعت في قراءتها الى ان وصلت
الى المقطع الذي فسر لها الحقيقة كاملة.
" انظري با عبير.. اسامة ليس الشخص الذي تظنينه، لقد احبك بصمت وشرف.. ولما لم يجد في نفسه القدرة
على اسعادك شجعني انا على التقدم لك و طلب يدك وضحى بحبه لاجل سعادتك. يومها وافقت بسرعة على
طلبه لاني كنت احبك كثيرا انا ايضا ولكني اكتشف الآن اني اخطأت فهو ضحى لاجلي بأشياء كثيرة وانا
كنت انانيا معه فهو احبك قبلي. لماذا اكتب لك هذا الآن؟؟ اتعرفين يا عبير ان اسامة انقذني من الموت اثناء
المواجهة الاخيرة مع العدو.. لقد احاط بي الاعداء من كل جانب وكادوا يجهزون علي لكنهم تساقطوا الواحد
تلو الآخر كاوراق الشجر.. اسامة قتلهم. انا اعرف انه دائما ما اعتبرني اخيه الصغير المكلف بحمايته
ولكني شعرت في تلك المرة انه كان يحميني لأجلك وليس لأجلي. اسمعي يا عبير ساقول لك كلاما لم يقله
زوج من قبل لزوجته.. على الاقل زوج عاشق لزوجته مثلما اعشقك.. مهمتي التالية خطيرة جدا.. والقائد
قدر نسبة نجاحي بالخروج منها على قيد الحياة بنسبة عشرة في المائة.. فان مت فانا لن اجد من يحفظك اكثر
من اسامة.. انا اقولها والدم يغلي في عروقي من الغيرة. ولكن يا عبير، هذا الرجل ضحى من اجلي بالكثير..
وكتم حبه وداس على قلبه ليسعدك ويسعدني.. أنا الآن على ابواب الشهادة.. فكما اضع روحي على كفي علي
ان اضع قلبي على كفي ايضا.. وان شاء الله نجتمع نحن الثلاثة في الجنة وتختاري الانسب بيننا.. حينها لن
يكون هناك غيرة ولا تحاسد.. وسيعوض الله من خسرك منا بنعيم ما بعده نعيم."
ولم تصل عبير الى هذا السطر الا وكانت عيناها قد اغرورقتا بالدموع واختلط حبر الرسالة بدموعها وبدم
اسامة الذي لم يجف بعد عن السلسلة. واستجمعت عبير ما بقي منها في قوة لتأتي الى منزلي. فتحت لها الباب
فلم تكلمني بل اندفعت داخلة بقوة دون ان تنتظر اذني باحثة عن اسامة الى ان وجدته اخيرا في غرفتي..
فجثت على ركبتيها وانهارت بالبكاء وهي تردد "سامحني.. لقد اخطأت بحقك كثيرا.."
فابتسم اسامة متعاليا عن جراحه وقال وهو يغالب المه "اسامحك؟؟ ومتى غضبت عليك حتى اسامحك.. لطالما
كنت محقة فيما تقوليه عني.. انا فعلا كما تصفيني.. انا خاطىء ومذنب ولكني ارجو من الله ان يقبل توبتي
عن كل ذنب اقترفته.."
فتقدمت عبير وقالت بجرأة فيها الكثير من الحياء "اسامة، هذا موقف غريب على المراة.. خاصة على امرأة
ملتزمة مثلي.. لكن.. هل تقبل ان تكون زوجا لي؟"
فبهت اسامة لطلبها المفاجىء وقال "عبير.. انت تعرفين ان هذا حلمي منذ اول يوم وقع بصري فيه عليك..
لكن.. الآن؟؟ لم يعد في العمر بقية.."
فذرفت عبير دمعة سخية وهمست "اريدك معي في الجنة.."
فقال اسامة " لا استطيع .. انت زوجة حسام.. اعز اصدقائي"
قالت عبير " هذه وصيته.. " وقرأت عليه سطورا من وصيته فاجهشا بالبكاء معا.. ثم تابعت "اسامة شهيد
سيبدله الله خيرا مني وسيهبه سبعين من الحور العين .. انا لا يمكن ان اكون الا لك.. "
واستدعت عبير ثلاثا من اصدقاء اسامة وحسام المقربين فعقد احدهم زواجها عليه وشهد الاثنان على صحة
العقد. ولم تمر الا بضعة ساعات على العقد حتى بدأ اسامة يلفظ انفاسه الاخيرة فطلب من عبير ان تقترب
منه وقال "عبير.. هناك مشهد لطالما حلمت ان اشاهده معك.. ارفعيني قليلا ارجوك الى النافذة"
وتعاونت انا وعبير على رفعه قليلا ثم جلست عبير خلفه وضمته الى صدرها ليراقبا معا غياب قرص الشمس
في اعماق البحر.. وقالت: "تخيل هذا معي... تخيل عرسنا في الجنة ...زفافنا الأبدي... زفاف لم تره عين
ولم تسمع به أذن من قبل... وكيلنا وولي أمرنا الرسول الكريم سيدنا وحبيبنا وقرة أعيننا صلى الله عليه
وعلى أصحابه وأزواجه وذريته وأحبابه أجمعين وسلم وبارك... وأن يكون الشهود هم الملائكة الكرام
البررة... وأن يكون المدعوين هم أهل الجنة... ومن يأمر بعقد هذا القران القدسي هو الله جل جلاله... تخيل
الحور العين يحفون من حولنا كالنجوم التي تنير طريق الشمس والقمر في يوم لا ليل فيه ولا نهار. تخيل...
"لا لن اتخيل..." قالها اسامة بصوت متحشرج وصمت برهة ثم شخصت عيناه في السقف وكأنه يرى
مخلوقات غير مرئية وتابع: "لأني اراه..." ومع آخر شعاع من اشعة الشمس اختفى في الافق كان آخر قبس
من روح اسامة الطاهرة قد غادر جسده.
وجلست عبير تندب عريسها وتبكيه بحرارة فيما جلست قربها بصمت .. لم يكن اسامة العاشق الصامت
الوحيد في القصة.. بل كان هناك من احبه بصمت ايضا .. لدرجة انه لم يستطع حتى ان يبكيه امام الناس..
نعم لقد احببته ولم اجد الا هذه القصة التي تخلد ذكراه كوسيلة مني للتعبير عن حبي له.
تمت

تعليقات
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -