بداية

رواية الذوق الاسباني -3

رواية الذوق الاسباني - غرام

رواية الذوق الاسباني -3

لوس انجلوس .. في وسطه (الجاكوزي ) الحوض الذي يسع خمسة أشخاص .. و دش في احد الزوايا و المغسلة العملاقة في الجانب المقابل للحوض و بالقرب من الباب وضع كرسيين و طاولة صغيرة .. و كأنها في حجرة منتجع (سبا) ذو سبعة نجوم يحمل طابعا تاريخيا لأوروبا القديمة ..
أخذت دشا دافئا و سريعا و بعدها ارتدت قميص النوم و فوقه ارتدت الروب ثم اتجهت إلى الصالة الصغيرة و فتحت التلفاز عندها دخلت وانيتا بعربة بيضاء تتحول إلى طاولة وضعتها أمام لورا .. بالضبط مثل الفنادق خاصة مع الأطباق البيضاء من الخزف الصيني المزينة أطرافة بالذهب .. و عندما رفعت وانيتا الغطاء الفضي عن الطبق وجدت تحته قطعة دجاج و خضراوات و في الطبق الثاني حساء الجزر .. ثم سكبت لها نبيذ العنب ..
- " هل تريدين شيئا آخر ..يا آنسة ؟! "
هزت رأسها نفيا لأنها لم تستطع التكلم و هي تتذوق الحساء .. و استطعمته فابتسمت
- " إنه لذيذ .. شكرا لك وانيتا "
- " على الرحب و السعة .. سأنصرف الآن "
- " انتظري .. "
توقفت عن فتح الباب لتخرج عندما سمعت صوت لورا عادت لتقف بالقرب منها مرة أخرى
- " هل ينام الدوق باكرا ؟! "
- " لا .. ليس له موعد محدد "
- " و هل هو الآن نائما ؟! "
- " لا أعرف ذلك يا آنسة .. إن أردت أستطيع أن أسأل لك "
عدلت عن هذه الفكرة .. ليست مستعدة لأن تراه الآن ..
- " لا .. لا داعي .. "
- " هل من شيء آخر ؟! "
- " ما اسمه ؟! "
- " دون باتريشيو لكننا نناديه بدون باتريك "
- " حسنا .. شكرا لك وانيتا لقد أزعجتك معي "
- " أبدا يا آنسة فهذا واجبي .. عمتي مساءا .. "
- " تستطيعين أن تأخذي العربة معك لقد انتهيت .. "
أنزلت وانيتا رأسها لتجد طبق الدجاج لم يلمس ..
- " لكنك لم تأكلي شيئا "
- " لقد أنهيت طبق الحساء و هذا يكفي .. إنه لذيذ .. "
- " بالهناء والشفاء.. عمتي مساءا.. "
- " و أنت كذلك "
بعد أن خرجت وانيتا أحست لورا بالنعاس فدخلت السرير المريح جدا و كأنها تنام فوق الغيوم و لأنها متعبة جدا إزاء الرحلة الطويلة نامت بسرعة و لم تستيقظ إلا في صباح اليوم الثاني ..
ارتدت ملابس عملية و واسعة لتكون مريحة و أنيقة في نفس الوقت و رفعت شعرها الأشقر بهيئة ذيل حصان و لم تضع أية مساحيق تجميل على بشرتها البيضاء الصافية .. و قبل أن تخرج تعطرت و همت بفتح الباب و إلا بها تصطدم بوانيتا .. فضحكتا و اعتذرت وانيتا على الفور ..
- " صباح الخير .. هل تحبين تناول الإفطار في حجرتك أم في الحديقة أو أي مكان تشائين؟!"
- " أين يتناول الدوق إفطاره ؟ّ ! "
- " دون باتريك أنهى إفطاره باكرا ثم خرج "
- " هل من عادته تناول الإفطار قبل أن يدعو ضيفته ؟! "
- " لم يشأ إيقاظك و إزعاجك خاصة بعد رحلتك الطويلة كما أنه يستيقظ بوقت مبكر جدا "
- " حسنا إذا سأتناول الإفطار هنا أمام التلفاز "
- " لك ما شئت .."
و بعد دقائق أتت واتينا بنفس العربة التي أحضرتها بالأمس لكنها مليئة بأطباق متعددة فاحتارت لورا بماذا تبدأ و هي التي ليس من عاداتها تناول وجبة إفطار دسمة فلاستعجالها كانت تأخذ كوب قهوة و تعتبره إفطارا لها ..قهقهت و هي تتذكر سام .. فكل مرة يراها تمسك كوب القهوة بيدها يأخذه منها و ينهرها و يستبدله بعصير أو بتفاحة .. قائلا لها هذا ما سينفعها عندما تكبر ..
تناولت العجة و استطابتها كثيرا و عندما انتهت قررت أن تنزل و تستكشف منزلها الجديد أو بالأصح قصرها الجديد ...
تمشت بين الحجرات في الطابق العلوي.. كانت معظمها غير مسكونة و الأثاث فيها غير مستخدم كثيرا .. و كان طراز القصر يعود للقرن السادس عشر و هذا ما جعله مهيبا و كأنها تشاهد فيلما تاريخيا لحقبة من الزمن .. فالأبواب الخشبية التي كأنها قطع من الرخام ضخمة و ترتفع للسقف الذي لا ينتهي و مزين بلوحات زيتية جميلة جدا و مطرزة بالذهبي .. كان السقف عبارة عن تحفة فنية بحد ذاته .. و كذلك ثريات الكريستال العملاقة ... و السجاد الأنيق الذي بدا لها بأنه مستورد أيضا آثري.. توقفت عند باب كبير في آخر الرواق كان مغلقا و أحست بأنه يجب أن لا تفتحه لعلها تكون حجرة الدوق ..
- " إياك "
استدارت بسرعة ناحية صوت المرأة التي نهرتها بنبرتها الخشنة .. و استغربت فحجم هذه المرأة العجوز صغير جدا لأن يكون لها صوت عال .. ابتعدت عن الباب الكبير و اقتربت من تلك العجوز التي كانت تنظر إليها بغضب من رأسها إلى أخمص قدميها و كأنها لم يعجبها منظر لورا بلابسها العملي و طريقة تصفيف شعرها .. بينما هي فترتدي فستان طويل جدا يضرب بالأرض و ذو أكمام طويلة من المخمل الأسود و له ياقة من الدانتيل الأبيض الذي ارتفع ليغطي رقبتها و رفعت شعرها كله بطريقة مرتبة جدا و ترتدي قرطان من اللؤلؤ .. و كأنها كانت تعيش في ذلك القرن أيضا.. و قد خرجت من قبرها لتوها .. هل كل شيء أثري هنا ؟ هل عادت بالزمن إلى الوراء ..
أرادت أن تستوضح الأمر لتلك العجوز المخيفة و تخبرها بأنها لم تكن تريد فتح الباب بل كانت تتمشى و توقفت عنده .. لكن تلك العجوز ذات النظرات الحادة سبقتها و قالت بعصبية بانجليزية ضعيفة تشوبها اللكنة الإسبانية ..
- " هل من عاداتك التجول في أرجاء بيوت مضيفيك و الدخول إلى حجرهم الخاصة يا آنسة؟! "
- " لا ..أبدا .. أنا لم أكن أقصد الدخول إلى تلك الحجرة ..آسفة إن كنت ظننتني ذلك "
- " حقا ؟!! و هل تعرفين لمن هذه الحجرة ؟! "
- " لا .. و لا يهمني أن أعرف "
و كأنها لا تصدقها فقالت باستهزاء..
- " إذا لم كنت تريدين فتحها ؟! "
لم لا تفهم هذه العجوز التي تحقق معها .. فأجابتها بنفاذ صبر
- " لم أكن أريد ذلك .. لقد توقفت عندها .. إنها قريبة من الدرج و كنت أهم بالنزول "
- " هذا واضح جدا .. "
انزعجت لورا من طريقة تلك المرأة في استجوابها و تكذيبها .. فقالت لها لورا بانزعاج
- " قلت لك بأني آسفة لأنك ظننتني بأني ادخل الحجرات المغلقة .. و لست هنا لأبرر لك ما أقول فإن أردت تصديقي سأكون شاكرة و إن لم تفعلي فهذا من شأنك .. و الآن اسمحي لي أريد النزول "
فتحت العجوز عينيها مستغربة طريقة رد تلك المرأة .. لم يرد عليها أحد هكذا من قبل لا الدوق و لا الكونتيسة و لا حتى باتريشيو ...
- " يا لوقاحتك .. هل هكذا يتصرف الضيوف ؟! "
توقفت لورا عن نزول الدرج عندما نطقت تلك العجوز
- " أرجوك يا سيدة لا داعي للتجريح.. أنت من تهجم علي .. كما إنني لست ضيفة فجزء من هذا القصر لي .."
ضغطت لورا على الوتر الحساس ..
- " أبدا لن يكون هذا القصر لك و لا حتى جزء منه "
علا صوت نانيرا مما جعل داني يصعد إلى حيث تقفان
- " ماذا يحدث هنا ؟! "
كان يسأل نانيرا و لم ينتبه لوجود لورا واقفة ثم استدار ليصعق أمام هذا الحسن و الجمال كله .. على الرغم من عبوسها إلا أنها بدت ساحرة و هي تنفخ بانزعاج ..
أجابته نانيرا بالاسبانية و كان واضح من طريقتها بأنها تشتكي له و تقص عليه الأكاذيب .. ما أن انتهت تلك العجوز من سرد قصتها حتى استدار داني لينظر إليها و فتح فمه ليتحدث لكن لورا سبقته قائلة
- " اسمع لا أعرف ماذا قالت لك السيدة .. لكنها هي من تهجم علي و أنا أهم بالنزول .. لقد اعتقدت بأني انتهك حرمة المنزل و أقسم لك بأني لم أكن أنوي فتح ذلك الباب .."
ابتسم لها داني و بدا متفهما جدا
- " لا بأس.. لم يحدث شيئا .. اعذريها "
ما أن قال داني ( اعذريها ) حتى بدأت تلك العجوز بتكلم بنبرة عالية موبخة بلغتها الاسبانية الغير مفهومة بالنسبة للورا فقررت أن تعود الأخرى إلى حجرتها و لا تخرج منها إلا أذا عاد الدوق ...
عندما استدار داني لم يجدها واقفة فشتم بصوت خافت .. و سمعته من بعيد يؤنب العجوز المدعوة بنانيرا ..
هل يعقل أن يكون ذاك الأشقر الوسيم هو الدوق !! لا لا أعتقد فكل الصور التي رأيتهم للدوقات و النساء ذوات الشعر الأسود الغجري .. فمن أين يكون للدوق شعرا أشقرا ؟؟
و من تلك العجوز التي تهجمت علي !! يا إلهي لا يمكن أن يكون الوضع أكثر تعقيدا ...
أمسى الليل و لم يدعوها الدوق إلى مقابلته و سأمت الانتظار و الجلوس في تلك الحجرة حيث لا أنيس لها إلا التلفاز .. كانت تأخذ الغرفة ذهابا و إيابا و هي تفكر بالذي أحضرها إلى هنا إلى هذه البلاد البعيدة وحدها .. هل حقا هي تهتم بهذا القصر الذي لا يعينها شيئا ؟!! هل من الصواب أن تأتي إلى هنا و تفكر أن تعيش بين هذه العائلة التي لا تنوي الترحيب بها حتى لم يتكفل كبيرها بدعوتها على العشاء أو لمقابلتها ؟!! هل تعود من حيث أتت و تترك كل شيء لذلك الدوق ؟! أم تنتظر؟!! لكن ما هو الشيء الذي ستنتظره ؟! و هل ستنتظره طويلا ؟؟؟
استفاقت على صوت هدير محرك سيارة في الخارج ففتحت عينيها لتنظر إلى ساعتها التي تشير إلى الثانية صباحا .. من يكون يا ترى ؟!! جرت نفسها من الفراش و اقتربت من النافذة لتلقي نظرة لكنها تأخرت فكل ما رأته هو ذلك الشاب اللطيف ذو الشعر الأصفر الذي تكلم معها صباح اليوم فقررت أن تعود إلى فراشها .. تقلبت في محاولة للنوم لكن بلا جدوى .. فأخذت الهاتف و قامت بالاتصال على صديقتها جاكلين .. أجابها صوت ناعس من الجهة الأخرى للهاتف
- " آلو ؟!"
- " جاكلين .. مرحبا ..هذه أنا لورا "
و كأنها صحصحت من نومها عندما سمعت صوت لورا .. و شعرت الأخرى بالحنين إلى الوطن على الرغم من أنها تغيب لأشهر و أسابيع على الدوام لكنها لا تشعر بنفس هذا الحنين الذي شعرت فيه بمجرد إقامتها هنا ليومين !!
- " لورا عزيزتي كيف حالك ؟! "
جاءها صوت لورا مخنوق ..
- " لست بخير يا جاكي .. أريد أن انفجر "
- " لم ؟ ما الذي حدث ؟!"
- " للأسف لم يحدث شيء .."
- " ماذا تعنين ؟!"
- " أعني بأني هنا وحيدة و لم أقابل الدوق حتى الآن ... لا اعرف إن كان يقصد أن يتجنبني"
- " هل هذا معقول ؟ لم تقابلينه حتى الآن ؟! "
- " لقد قابلت مستشاره و خادمته و مربيته الشرسة المدعوة بنانيرا.. تصوري بأنها هاجمتني اليوم لأنني كنت واقفة بالقرب من حجرة الدوق و افتعلت مشهدا حتى أتى شخصا ما ليهدئها و يعتذر نيابة عنها لكن غضبها زاد حتى اضطررت أن ألوذ بجلدي و أعود إلى حجرتي و لا أخرج منها "
- " يا عزيزتي .. و ماذا ستفعلين إذا ؟"
- " أريد مشورتك يا جاكي .. هل أبقى و انتظر أم أعود و أتنازل عن ورثي ؟! "
سكتت جاكلين لبرهة تفكر بأمرها و قالت بهدوء


- " بماذا يحثك قلبك ؟! "
- " أن أعود "
- " و عقلك ؟! "
فكرت قليلا ثم تنهدت قائلة
- " عقلي .. آه منه إنه فضولي لدرجة كبيرة و يحثني على الانتظار حتى أقابل ذلك الدوق الوحشي الذي كرهته قبل رؤيته "

ضحكت جاكلين فلقد أجابت لورا نفسها بنفسها ..

- " و ماذا تقولين الآن ؟! "
- " اعتقد ..سأبقى و أرى إلى ماذا ستؤول إليه الأمور ... آسفة لإزعاجك يا حبيبتي هيا عودي للنوم و شكرا لك "
- " لا تتأسفي أبدا من الجيد انك اتصلت و سعدت لسماع صوتك .. واعرفي دائما بأني أساندك في كل قراراتك .. حظا سعيدا "
- " شكرا لك "
- " على الرحب و السعة "
شعرت براحة تامة لأنها تحدثت مع صديقتها المقربة و استطاعت بعد تلك المكالمة أن تخلد للنوم ..
في الصباح دخلت وانيتا بعربة الإفطار إلى لورا و فتحتها أمامها و بدأت تسكب لها الطعام في طبقها .. سألتها لورا
- " أعرف بأني سألتك كثيرا هذا السؤال لكني سأكرره حتى أقابل الدوق .. هل تناول الدوق باتريك إفطاره ؟ ألم يدعوني لمقابلته ؟ هل يعرف بوجودي هنا أصلا ؟! "
- " آسفة يا آنسة ..لكني حقيقة لم أرى الدوق هذا الصباح "
تأففت لورا و نفخت بعصبية
- " حسنا شكرا لك يا وانيتا "
بعد أن أنهت إفطارها قررت أن تخرج من تلك الغرفة التي بدأت تكرهها ,فلورا ليست من النوع الذي يحب الجلوس في مكان واحد دون أن يقوم بعمل شيء ما فهي بطبيعتها حركية و مغامرة و تحب استكشاف الأشياء .. الآن ستغامر بالنزول إلى الطابق السفلي و مواجهة العجوز الشرسة إن هاجمتها مرة أخرى ...
تمشت في الطابق السفلي الذي كان واسع جدا و يخلو من الحجرات بل كان مفتوحا على بعضه من حيث الصالات و غرفة الطعام إلا من باب مغلق و قررت أن تبتعد عنه و لا تقترب منه أبدا .. كان طعام الإفطار لا يزال على المائدة الطويلة الضخمة و يبدو بأن الدوق لم يتناول شيئا منه .. ظلت واقفة لدقائق تنتظر أن يطل عليها لكن لا أحد غير الخدم الداخلين و الخارجين .. يبدو بان عدد الخدم أكثر من العائلة نفسها ..
خرجت إلى الحديقة و كانت بدورها واسعة جدا إلى ما لا نهاية و في وسطها وجدت نافورة عملاقة تصب في حوض للسباحة و هو كبير جدا أيضا و فوقه نصب جسرا للعبور .. كان المنظر رائعا و كأنها تتمشى في جنة خلابة تظللها الأشجار و الزروع و الورود الغريبة العجيبة بألوانها الرائعة بكل الأجناب ...
تمشت حتى أصبحت الحديقة و الحوض الكبير خلفها و بعيدا عنها .. و بينما هي تسير لمحت أمامها مبنى رخامي أبيض صغير يقع أسفل القصر في منحدر و ينبغي أن تمشى لمسافة قصيرة لتصل إليه و كلما كانت تقترب منه كان يتبين لها بأن ذلك المبنى الصغير ما هو إلا إسطبل كبير للخيل و أمامه حلقة كبيرة مسورة بسياج أبيض و كان يوجد شخص داخل هذه الحلقة يركض و يركض معه جواد يصهل في كل ثانية .. اقتربت أكثر و توقفت لتستند على السياج و تنظر إلى ذلك الرجل الأسمر الطويل ذو الجسم الرياضي الذي يركض مع الحصان و يحاول أن يضع عليه اللجام لكن ذلك الحصان يصهل و يركض مبتعدا رافضا أن يعلق عليه اللجام .. حاول ذلك الأسمر لأكثر من مرة و ركض أمامها و شعره الأسود الكثيف يتقافز معه و كأنها تنظر إلى إعلان في التلفاز عن شامبو أو مستحضر تجميلي ..
كان تركيزه على الحصان العنيد أمامه و بدا لها ذلك الأسمر الوسيم أنه أعند من ذاك الجواد الهائج ..
اندمجت مع حركات هذا الرجل الأسمر ذو اللون البرونزي الأنيق الذي يرتدي قميص أبيض فضفاض و أزراره مفتوحة كلها تقريبا حتى يدخل الهواء داخل قميصه مفتعلا إعصارا كلما لامس صدره المكشوف.. و بنطاله الأسود الذي ارتدى فوقه جزمه سوداء عالية .. كان فارسا بمعنى الكلمة ..
بعد عدة محاولات بدأ ذلك الحصان العنيد يرضخ لعناد سيده الذي لم يبد عليه التعب بل كان مصرا على ترويض ذلك الجواد الجميل.. شيئا فشيئا استطاع الرجل الأسمر أن يضع اللجام عليه ثم بقفزة واحدة امتطى ظهره..
لا شعوريا صفقت لورا صفقة واحدة ثم توقفت بسرعة بعد أن التفت ناحيتها و لمحها فاقترب منها بالحصان.. كان ظهره مستقيم و مشدود و ينظر إليها بعين ثاقبة و يقترب بكل رصانة.. تصلبت في مكانها .. و استطاعت أن ترى ثلاثة رجال في الجهة الأخرى من السياج يهرولون مقتربين أيضا.. يا إلهي هي في ورطة.. أخذ قلبها يدق بسرعة فجائية عندما توقف الرجل الوسيم أمامها بجواده الذي انقاد له .. و بقفزة واحدة كان يقف على الأرض يحدق فيها بطريقة مريبة .. و دون وعي منها رجعت خطوة للخلف .. و اعتقدت انه من المفروض أن تعرف نفسها فقالت بتوتر
- " مرحبا .. أنا لورا "
لم تتغير ملامح وجهه و لم يحمل نفسه عناء الرد عليها بل اكتفى بالتحديق فيها بكبرياء.. كأنه لا يفهم ما الانجليزية ..
اختلطت مشاعره في قلبه ... فمن تكون هذه الجميلة الساحرة ؟!! ذات الملامح المألوفة ؟!!
كانت ترتدي جينز أزرق و قميص أسود مرتب يلتصق بجسدها ليبرز نحافة خصريها .. و شعرها الأشقر مسترسل على كتفها .. كما و أنها لم تنس ارتداء قرطين صغيران .. يضفيان على شكلها العملي لمسة أنثوية طاغية .. بدت جذابة باختصار ..
عندها وصل ماريو الرجل الذي اصطحبها إلى هنا قبل يومين و لم تره بعدها .. كان يلهث و خلفه داني المتقطع الأنفاس الرجل الذي اعتذر لها صباح الأمس عن تصرف تلك العجوز ..
حينها تحدث ذلك الفارس بالاسبانية بطريقة مغرية جدا .. أضفت إلى هذه الصورة الرجولية صوتا رجوليا آخر .. لتكتمل الصورة .. تحدث إلى الرجلين و أجابه ماريو بنفس اللغة .. و ما استطاعت التقاطه من جملة ماريو هو كلمة (دي بابلو ) و هي عائلة والدها ..
لم يبعد عينيه عنها و كانت تحس بنظراته تخترق حاجز قلبها .. من هذا الرجل العجيب ؟!
سألها ماريو باحترام و ود
- " ماذا تفعلين هنا يا آنسة ؟! "
أجابت و هي تنظر إلى الرجل الأسمر و هو يوقف الجواد عن الحركة واحدة منه .. و كان يترقب جوابها..
- " كنت أتمشى .. و لم أعلم بوجود إسطبل هنا "
ابتسم لها ماريو بتوتر .. و قال
- " حسنا يا آنسة ينبغي لك أن تعودي إلى القصر "
- " لكني .. "
و بسرعة رفع نظره للرجل الذي لا يزال يحدق فيها .. و كان هناك مغناطيس يجذب عيناه للنظر إلى ملامحها الناعمة ..
قال لها ماريو
- " أرجوك يا آنسة .. عودي "
تضايقت من إصرار ماريو أن تعود للقصر .. فقالت بنبرة معاتبة
- " حسنا سأفعل لكني أريد أن أقابل الدوق .. إنه ثالث يوم لي هنا و لم أقابله بعد ..ألا يكلف نفسه للسؤال عن ضيوفه ؟! أو على الأقل أن يدعوني للعشاء ؟! فهل هكذا يتصرف الدوق في العادة .؟؟.. أرجوك أبلغه ذلك .. اعتقد بأنني يعلم باني وصلت منذ يومان .. "
انقبض قلب ماريو و تبادل النظرات مع ذلك الرجل الأسمر المريب و مع داني الذي احمر وجه و أراد أن ينفجر ضاحكا .. رأت شبح ابتسامة ترتسم على ملامح الرجل الأسمر الجدية الحادة ثم سرعان ما عادت مثلما كانت.. أشار لماريو الذي كان يتحرى إجابته برأسه ففهم و استدار ماريو ليقول ..
- " يا آنسة .. إنك في حضرة الدوق .. دون باتريك "
ماذا ؟!!! تمنت أن تنشق الأرض و تبتلعها في هذه اللحظة .. عضت على شفتيها و قد أحمر وجهها خجلا و لم تستطع أن تضع عينيها في وجه الرجل الأسمر الوسيم.. إذن هو الدوق باتريك !! لم تعتقد بأنه قد يكون شابا و مفعما بالنشاط و له وسامة طاغية .. فلقد تخيلته يشبه أحد الرجال المرعبين في اللوحات الزيتية الموضوعة عند مدخل القصر.. ارتاحت قليلا لأنه بدا لها لم يفهم ما قالته .. أو لعله فهم .. لكن لابد و أنه لا يعرف كيف يتحدث الانجليزية .. بهذا طمأنت نفسها و هي تعرف بغرارة نفسها بأن لا يعقل أن يكون دوقا و لا يعرف كيف يتحدث الانجليزية .. خاصة و أنه شاب .. لذلك تراجعت خطوتين للخلف و قررت الابتعاد عن هذا المكان لعلها بذلك تحفظ ماء وجهها
- " اعذروني .. سأعود إلى القصر "
و استدارت لتذهب بعيدا لكن صوتا هادئا و واثقا و رجوليا هز بدنها هزة عنيفة
- " انتظري "
تجمدت رجليها و هي تستدير و كان قد خطر السياج و أصبح خلفها مباشرة.. قال لها بلكنة أمريكية متقنة
- " كان ينبغي علي أن أقابلك منذ الأمس لكني انشغلت قليلا فاعذريني يا آنسة .. وكما إنني عدت مساءا إلى القصر ..و اليوم لم انوي ايقاضك في الصباح حتى لا أزعجك .. و كنت سأدعوك على العشاء أيضا .. فاعذريني مرة أخرى يا آنسة آغنر.. "
نظرت بين بحريتين من العسل تضللهما أشجار سوداء كثيفة فنسيت ما أرادت قوله .. و لم تتذكر إلا عندما أخفضت بصرها عن عينيه ..
- " أنا آسفة لوقاحتي .. كنت .. "
قاطعها بكل سهولة .. دون أن يرفع صوته حتى و ألزمها السكوت.. قائلا
- " لا بأس .. كان يفترض أن أعرفك على نفسي منذ البداية حتى نتجنب كلانا الإحراج "
أومأت برأسها و هي تشعر بجسدها يشتعل نارا أمام نظراته و طريقته اللبقة في التحدث إليها ..
تحدث إلى ماريو بالاسبانية حتى لا تفهمه.. و بدا لها أكثر جاذبية .. و تمنت لو انها تلقت دروس في الإسبانية ..
- " ماريو خذها إلى القصر بالعربة الصغيرة و أخبرها أن لا تغادر حجرتها إلا عندما ندعوها للعشاء عندها سأرى ماذا تريد مني تلك الجريئة و إلى متى سنتحمل بقاءها هنا"
- " لك ما شئت يا سيدي "
اقترب منها ماريو عندما خطر الدوق السياج مرة أخرى و ركب ظهر الجواد مبتعدا إلى الإسطبل ..
- " تفضلي معي يا آنسة .. آخذك إلى القصر بالعربة "
- " لكني أفضل السير على الأقدام "
- " ستشعرين بالتعب فالصعود إلى المنحدر أصعب من النزول منه "
- " لا بأس "
- " أرجوك يا آنسي أن تأتي معي "
أيقنت بأن الدوق هو وراء هذا الأمر يبدو بان الجميع هنا ينصاعون لأوامره بحركة واحدة من عينيه فقط .. لا تعرف لم لا يحبذ فكرة أنها كانت تتمشى وتتفقد الحديقة و الإسطبل .. و هل هو جاف هكذا على طبيعته أم معها فقط ؟!!

طرقت وانيتا باب حجرة لورا فدعتها للدخول ..

- " أهلا وانيتا .. كيف أبدو ؟! "
كانت ترتدي فستان أخضر ضيق عند الخصر ثم يأخذ بالاتساع حتى يصل إلى ركبتيها .. نفشت شعرها الأشقر الكثيف و تركته يسترسل على كتفها و ربطت شريطة سوداء في منتصفه .. كما ارتدت قرطين ناعمين و حذاء أسود ذو كعب عالي .. و رسمت عينيها بكحل أسود خفيف ليبرز لونهما الزمردي و لمعت شفتيها بلونهما الطبيعي .. كأنها ستذهب إلى موعد غرامي أول لها ..
- " خلابة .. "
- " شكرا لك وانيتا .. ماذا أردت ؟! "
- " دون باتريك ينتظرك على المائدة لتناول العشاء "
- " آه .. إن الوقت باكرا لتناول العشاء "
- " الدوق لا يتناول إلا وجبة الإفطار و وجبة العشاء فقط ..لذلك يشعر بالتعب خاصة و انه يقضي معظم الوقت بالخارج.. "
- " هذا واضح بأنه رياضي و صحي جدا .. ألا تعرفين كم يبلغ من العمر ؟! "
- " سيبلغ الثلاثين قريبا "
لا تعرف لم أسعدها ذلك .. هل لان تخمينها صائبا أم لأنه شاب فحسب ؟!!
قادتها وانيتا إلى غرفة الطعام الكبيرة حيث المائدة الضخمة الممتدة إلى ما لا نهاية و تنزل في وسطها ثريا عملاقة من الكريستال و الذهب .. سكت الجميع انبهارا ما إن دخلت لورا .. وقف لها الرجال .. الدوق و داني و ماريو .. باتريك على رأس الطاولة و على يمينه نانيرا إيزابيلا و ماريو و على يساره داني و ترك مقعد لها بالقرب من داني .. فتح لها داني الكرسي لتجلس.. و ظل باتريك يمعن النظر فيها و هي تجلس بخفة .. بدت له مألوفة جدا و كأنه رآها في مكان ما لكنه لا يذكر أين!! و لم يبعد نظره عنها إلا عندما أحست هي بمن يحدق فيها فالتفت لتصطدم نظراتهما , شعرت بالخجل فأنزلت عيناها .. لكنه لم يكترث بل ظل يحدق بكل جرأة يحاول أن يتذكر أين رآها من قبل ..
كانت العجوز ترسل لها نظرات نارية .. ما بها هذه العجوز ؟! و لم كل هذا العداء ؟؟ و من تكون ؟!
كانوا يتناولون طعامهم بهدوء ..والجو موترا بالنسبة لها فكل الأعين عليها وحدها لذلك لم تستطيع أن تتناول طعامها .. كان الدوق ينظر إليها بطرف عينيه بين حين و أخرى, يا إلهي كيف أستطيع أن أتناول طعامي و الكل يحدق بي بتلك الطريقة .. بالأخص هذا السيد المتأنق .. كان يرتدي قميصا أسودا و قد رفع أكمامه إلى الأعلى و بنطاله أسود أيضا .. بدا شكله نظيفا عن ما راته هذا الصباح .. خاصة بانه قام بحلق ذقنه و شعره الأسود القصير مرتبا و ممشوط للخلف و كأنه رجل من عامة الناس لو أنها رأته في مكان آخر غير هنا .. بل بدا ماريو ببذلة السوداء المتأنقة و كأنه هو الدوق ...
وقعت عيناه على طبقها.. فتوقف عن الأكل و سألها قاطعا جو السكون بإنجليزيته المتقنة
- " آنسة آغنر ؟! لم تلمسي طبقك .. ماذا ألا يعجبك الطعام ؟ "
لم تتوقع سؤاله هذا .. فارتبكت و أجابته بعفوية
- " لقد تذوقت القليل منه .. إنه لذيذ .. شكرا"
لم يعجبه ردها فسألها و في عينيه مكر
- " إذا لم وقفتي عن الأكل ؟! هل تتبعين نظاما للتخسيس ؟! "
لقد وضعها في موقف حساس حيث ترك الجميع ما بيدهم ليحدقون في وجهها الذي احمر خجلا .. و ربط لسانها و توقف عقلها عن التفكير في إجابة عقلانية .. كانوا ينتظرون ردها فتنحنحت قائلة
- " أنا آسفة .."
رفع ذقنه و كرر قولها باستغراب .. انه ينتظر جواب أكثر منطقي ..
- " آسفة؟! "
يا إلهي إنه لا ينفك عن التحقيق معها و كأنه يقصد إحراجها .. لن يسكته إلا قول الحقيقة ..
- " أنا آسفة لأنني لا أستطيع أن أتناول طعامي و الكل يحدق بي "
فتح باتريك عينيه على اتساعهما دهشة بردها الصريح و الصادق و تبادل النظرات مع داني الذي احتقن وجهه.. عندها انفجر ضاحكا عندما رأى باتريك مبتسما و أخذ الجميع يضحكون .. إلا نانيرا العابسة .. أنزلت لورا رأسها للإحراج و قررت أن تحفظ ماء وجهها و تغادر إلى حجرتها .. وقفت على طولها و استأذنت الرحيل لكن الدوق سرعان ما تغيرت ملامحه لتصبح جدية و توقف عن الضحك و قال لها بصوت آمر
- " عودي إلى مكانك يا آنسة "
جعلها صوته الآمر تحس و كأنها في عصر العبودية .. لذلك لم تتحمل هذا الصوت الآمر فتجرأت و رفعت بصرها تنظر بين عينيه بضيق من طريقته ..و كل ما رأته هو نظرة الحزم الحادة و الهدوء على ملامح وجهه الساكنة .. و عندما لم تجلس عنادا و كبرياء منها كرر أمره لكن بطريقة مختلفة و أكثر ودية مع طيف ابتسامة
- " على الأقل أنهي طبقك .. لن يقوم أحد عن هذه الطاولة إلا عندما ينتهي الجميع .. و لن يحدق بك أحدا .."
أضافت نانيرا موبخة
- " من الأصول يا آنسة أنا لا تقومي من الطاولة تاركة طعامك و الدوق لا يزال جالسا "
شعرت بالنار تسري في عروقها و تحرق أوصالها .. لابد أنه يعني إذلالها أمام الجميع إذ جعل تلك العجوز الشمطاء توبخها.. جلست بعد أن حدجته بنظرة غاضبة لم تؤثر فيه.. بل أكمل تناول طعامه و كذلك تحديقه بها .. شعرت برغبة بالبكاء لأول مرة منذ قدومها إلى هنا و لا تستطيع أن تمنع دمعة صغيرة فلتت منها فأسرعت بمسحها حتى لا يراها أحد مهزومة و ضعيفة ... تنصاع لأوامر دوق أسبانيا الذي لم تعرفه إلا منذ ساعات ..
بعد أن قام الدوق عن المائدة تبعه الجميع و كذلك فعلت هي .. جلس في الحديقة حتى يشعل سيجارته و أخذ ينفثها بالهواء و من ثم تبعه داني و أشعل سيجارته هو الآخر أيضا.. لكن ماريو استأذن الدوق و غادر.. و كذلك فعلت نانيرا قبلت رأس الدوق و تحدثت معه بالاسبانية و كانت منزعجة من وجود لورا اليوم على العشاء .. هذا ما أحست به لورا التي كانت واقفة تنظر إلى ظهر الدوق و رأسه من الخلف و وجه نانيرا المتهكم.. التي كانت تنظر إليها و في عينيها الحقد كله .. ما أن أنهت تلك العجوز حديثها حتى مرت بالقرب من لورا و دخلت القصر لتخلد إلى النوم ..
قال داني إلى الدوق شيئا في أذنه ما جعله يستدير ليجد لورا واقفة قرب النافذة المفتوحة على الحديقة ..
- " اقتربي يا آنسة.."
قالها بود هذه المرة .. لكن صوت الأمر لم يغب عنها ..اقتربت منه بانزعاج فهي لا تحب أن تخضع لأوامر أحد ..لكنها لا تريد أن تكون فضة و هي الضيفة عليهم.. خاصة و أنها قد عاشت حياتها مستقلة فمن الصعب أن تتقبل الآن شخصا غريب عنها يأمرها و يفرض رأيه و حكمه عليها حتى و أن كان دوقا ..
مد علبة السجائر إليها .. و قال
- " هل تدخنين ؟! "
نفت برأسها فأعاد علبة السجائر إلى جيب قميصه ..ثم سرح بوجه لورا الجميل تحت تلألأ أضواء حوض السباحة و فكر في نفسه إنه لا ضير من أن يتصبح كل يوم بهذا الوجه القمري و يمسي على تلألئه .. يا إلهي .. أين قابلتها ؟! إن وجهها مألوف جدا ..
قاطع داني حبل أفكاره عندما سأل لورا
- " ما رأيك بالقصر يا آنسة ؟! "
- " أرجوك نادني بلورا.. "
- " حسنا لورا .. لم تجيبيني؟ "
- " آسفة.. القصر.. إنه رائع جدا و قد أحببته كثيرا خاصة و أن طرازه يعود للقرن السادس عشر "
- " آه .. إذا أنت مهتمة بالآثار "
- " كثيرا.. كان تخصصي في الجامعة علم الآثار "
أردف الدوق سائلا باديا عدم اكتراثه بتخصصها أو أي شيء يخصها
- " و هل ترينه المكان المناسب لإقامتك ؟! "
لم يعجبها سؤاله الذي كان يلمح به إلى شيء آخر .. فأجابته بثقة و ذكاء رافعة رأسها حتى تكسر تكبره
- " لم أقرر ذلك بعد .."
تبادلا نظرات شائكة و حادة .. بعد ذلك وقف الدوق فوقف داني و ترددت لورا حتى تقف لكنها فعلت بالنهاية تجنب للمشاكل فهذه الأسرة الغريبة لها عادات تتنافى مع عادات لورا التي تربت على الديمقراطية ..
نظر إلى لورا مطولا .. ثم قال بصوت منزعج لداني بلغته ..
- " حسنا داني .. لا تطيل السهر فلدينا غدا مشوار طويل .. و لا تعقد صداقات مع الغرباء الذين قد يضروننا.. أنت فاهم قصدي "
أومأ داني .. ثم وجه باتريك الحديث للورا بالانجليزية و قال بجفاء و تعجرف
- " و أنت يا آنسة آغنر .. أو دي بابلو .. أيا يكن.. "
قاطعته .. و قالت مع ابتسامة حاولت إن تخفي بها انزعاجها
- " آغنر ... لو سمحت "
لم يعجبه طريقتها في مقاطعته و هو يتحدث .. فقال
- " حسنا آنسة آغنر .. لديك الكثير للتحدث عنه مع المحامي سانتياغو و ماريو .. و أرجو أن تتوصلا إلى حل يرضي الطرفين .. عمتي مساءا"
استدار ليغادر لكنها قالت بسرعة و بانزعاج
- " لكن كنت أريد التحدث معك أنت بهذا الأمر .. أنا و أنت ..و ليس ماريو و المحامي "
لف ليواجهها و قد بدا عليه الغضب و قال
- " آنسة آغنر .. أنا من يقرر مع من ستتحدثين.. "
قاطعته مرة أخرى و أراد أن يقترب منها و يلطمها لوقاحتها و جراتها في الحديث معه بتلك الطريقة التي لم يتجرا أحد من قبل على التحدث معه هكذا ..
- " لكن هذا شيء يخصني و يخصك يا سيد باتريك .."
صحح لها داني بصوت مرتجف و هو يرى صديقه يشتعل غضبا لجرأة هذه الآنسة الأمريكية التي ظهرت في حياته فجأة و بلا مقدمات.. و الآن تتشاجر معه بكل جرأة و هذه الجرأة يطلقون عليها "وقاحة "عندما ترفع امرأة و ضيفة غريبة صوتها على الدوق أو مضيفها..
- " دون باتريك "
لم تكترث للتصحيح .. فأضافت قائلة
- " أتمنى أن تعطيني من وقتك دقائق نتناقش فيها أنا و أنت وديا بخصوص القصر و الميراث "
اقترب منها كثيرا حتى كاد يلتصق بها .. أخذ قلبها يضرب بعنف ... و كلما اقترب كلما دخلت رائحة عطره القوي في رأسها .. لكنها نظرت إليه بحدة ..فقال لها ببرود و عينان تسعران نارا ..
- " عمتي مساءا "
ثم استدار و دخل القصر ..
ظلت تحدق في ظله حتى اختفى .. و عادت لها دقات قلبها .. استدارت لتنظر إلى داني الذي كان يرمقها , جلست في مكانها و هي تتأفف متضايقة من ذلك الدوق المزعج و تمنت أن يكون شيخا كبيرا أفضل بكثير من أن يكون شابا مغرورا و متكبرا
- " يا إلهي .. هل هو حازم و عنيد معكم أيضا ؟ "
- " أعذريه يا لورا إنه يعاني من ضغوطات كثيرة "
- " ليس هناك عذر لأن لا يتصرف بلطف معي .. لم يعاملني و كأني عدوة له ؟! "
- " هل هذا ما تعتقدين ؟! "
- " هذا ما أراه و أحسه "
- " لا يا لورا إن باتريك رجل نبيل و مهذب جدا و عندما تقتربين منه ستشعرين بلطفه و كرمه و سخاء نفسه "
- " و كيف أقترب منه و هو لا يترك لي المجال بل يغلق جميع الأبواب في وجهي ..اسمع يا ..؟؟"
تذكرت بأنها لم تتعرف على أسمه بل سمعت الدوق يناديه بداني .. لكنه قال لها مبتسما و بدا لطيفا جدا ..
- " دانيال .. لكن يفضل أن تناديني بداني "
- " داني .. بصراحة أنا لم اعتد هذه الحياة حيث القوانين و التعقيدات و الرسميات لقد ولدت في دنيا الاستقلالية لا أحد يفرض علي رأيه و الجميع من حولي أصدقاء لي .. لذلك من الصعب علي أن أقبل تصرفات الدوق معي "
اقترب منها قليلا و قال بصوت منخفض و كان يتلفت و كأنه خائف من أن أحد يراقبه من بعيد
- "ماذا تتصورين من رجل تزوجت والدته بلا رضاه لأنه لم يجد بان ذلك الزوج من مستواها كما و أنه سمع الكثير من الأمور المشيبة عنه .. و بعد ذلك عاندته و اختارت زوجها على ابنها ..فيغادرها ليعيش ست سنوات بعيدا عنها دون أن يتحدثا مع بعض .. ترك حياته هنا و مستقبله و واجبه الحقيقي لأرضه و أرض أسلافه ليعيش في لوس أنجلوس ثم يسمع بنبأ موت والدته فيعود بعد سنوات من الفراق ليودعها جثة هامدة و هو يشعر بالندم على ما حدث بينهما .. لقد تغير باتريك منذ تلك الحادثة و لم يعد مرح كما السابق حتى أنني لا أراه يبتسم أو يضحك إلا نادرا .. و الذي أحزنه أيضا أنه دفن في نفس ذلك اليوم والدته و زوجها الذي توفى قبل ساعات و قد أجرى له مراسيم دفن تليق به كزوج أب .. لكن الذي زاد الأمر سوءا هو عندما علم بأن هناك من يشاركه في ملكه و ملك أسلافه لقرون عديدة .. و هو أنت يا لورا فكيف تريدينه أن يتصرف معك و هو يشعر بأنه قد خسر كل شيء في حياته أولا والده و بعدها والدته و بعد ذلك يخسر جزء من أملاكه لفتاة غريبة .. لا و هي ابنة ألد أعداءه ؟!! "
لقد اختصر لها داني قصة حياة الدوق المأساوية في دقائق فجعلها بذلك محزونة و مشفقة عليه لذلك بقيت صامتة تفكر بينها و بين نفسها بما يجب فعله .. فأردف داني
- " اسمعي يا لورا أنا لا أدافع عن باتريك لأنه صديق الطفولة أو لأنه دوق ألبا .. بل أقول لك ذلك كي تضعي نفسك في مكانه ؟! أقسم لك لو كنت أنا من جرت معي كل تلك الأمور لطردتك من المنزل الآن أو لم أكن استقبلك و أدعك تقيمين في أفخم غرفة في القصر و أتركك تتناولين العشاء معي و بالقرب مني.. و لكني لا ألمك أنت أيضا.. فإن رؤيتك و تعرفك على ورثك هو من حقك.. "
أنزلت رأسها محزونة و تشعر بالإحراج فكلام داني جارح جدا و للأسف بان فيه شيء من الصواب ذلك ما جعلها تحتار بأمر الورث هل تقبله أم تتركه لسيده ...؟!!!
لكن داني لم يتوقف و أضاف قائلا ..
- " أعرف بأني أطلت الحديث معك لكن هناك نقطة واحدة و مغزى واحد من كلامي و هو أن تحاولي قدر الإمكان أن تعذري تصرفات باتريك و تسايرينه لعله يهدأ قليلا و يحسن التعامل ..و حاولي الاقتراب منه لعلك تكسبين وده و تجدينه رجلا نبيلا جديرا بالاحترام "
أومأت برأسها فهي لم تعد قادرة على الكلام لأنها أن فتحت فمها ستنفجر باكية .. استقامت واقفة و استأذنته بالذهاب إلى حجرتها..
ما أن فتحت الباب حتى تسارعت دموعها بالانهمار على خدها .. لم تكن متأكدة من سبب بكاءها .. هل هو غربتها أم وحدتها ؟! أم علمها بوجود أب لها و أن بيتر ليس أباها الحقيقي ؟ أم طريقة تعامل الدوق الجافة معها؟؟ .. أم مأساته التي ألقاها داني إلى مسامعها فتزيد من أوجاعها ؟..
لم تنم جيدا تلك الليلة فقد راودتها أحلام مزعجة لم تستطع تذكرها في الصباح عندما استيقظت و ارتدت ثيابها فستان زهري مريح و ارتدت فوقه سترة خفيفة بلون كريمي و رتبت شعرها تاركته مسدول ..
نزلت إلى غرفة الطعام حيث وجدت نانيرا جالسة تتناول إفطارها و الدوق يقرأ جريدته و لم ينتبه لدخولها إلا عندما ألقت التحية بصوت متعب جعله ينزل الجريدة عن وجهه حتى ينظر إليها .. كان وجهها الجميل متعب و السواد تحت عينيها الشبه مغمضتين فأدرك بأنها لم تنم جيدا في الأمس..
قال لها مع ابتسامة مشرقة أضافت إلى وجهه الوسيم سحرا آسرا ..
- " صباح الخير آنسة آغنر .. أرى بأنك استيقظت باكرا اليوم ..هل نمت جيدا؟!"
أجابته بلا نفس في التحدث و حاولت أن تتجنب النظر في عينيه و وجه حتى لا تتأثر بذلك السحر ..
- " لا لم أنم قط "
رفع الجريدة إلى عينيه حتى يبين لها بأنه غير مكترث بها .. لكنه سألها كنوع من التهذيب
- " هل كل شيء على ما يرام آنسة آغنر ؟! "
- " هل تسمح لي بدقيقتان من وقتك نتحدث فيهما على انفراد "

يتبع ,,,,

👇👇👇


تعليقات
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -