بداية

رواية عندما تنحني الجبال -11

رواية عندما تنحني الجبال - غرام

رواية عندما تنحني الجبال -11

ما أريده منك مقابل مساعدتي لك .. وأخرجتك من حياتي إلى الأبد
طعنتها كلماته في الصميم .. وجعلتها تنظر إليه قائلة بوحشية :- أتمنى لو انك فعلت .. لما كنت اضطررت للعيش معك وتحمل نزواتك ..
كلماتها الوقحة كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير .. قال بغضب عاصف :- احذري مما تتمنينه يا نانسي
انحرف فجأة بالسيارة مغيرا الطريق .. فنظرت عبر النافذة قائلة بتوتر :- إلى أين تأخذني ؟
وجهه الوسيم كان مكسوا بناع محكم من القسوة وهو يقول بصرامة :- إلى اين تظنين ؟ .. إلى الشقة التي تبجحت أمامي بمعرفتك عنها .. المكان الذي آخذ إليه أمثالك .. ما دامت معاملتي لك كزوجة لا تعجبك .. فستعرفين حالا كيف تعامل العشيقة .. أنت ستكونين منذ الآن عشيقتي الخاصة .. جاريتي المسؤولة عن فعل أي شيء لإسعادي
صاحت بانفعال :- هذا لن يحدث أبدا
ثال :- لقد طفح الكيل .. لأشهر وأنا أحرص على مشاعرك وأحاسيسك وأحتمل ما يفوق طاقتي من عجرفتك وكبريائك .. وغرورك الزائد .. وقاحتك وقلة احترامك فاقا الحد .. وقد حان الوقت لتدفعي الثمن .. ولتعرفي بالضبط مكانتك الحقيقية
أوقف السيارة امام مبنى جميل الشكل مكون من ثلاثة ادوار في أحد الأحياء الراقية ... خرج من السيارة وسحبها كم ذراعها ليخرجها مرغمة من مكانها .. قاومته بيأس وهو يجرها عبر البوابة المعدنية المزخرفة وهي تقول بعنف :- اتركني يا محمود .. أنا لا أريد ان أذهب معك
ولكنه كان غاضبا بشكا لم تره عليه إلا مرة واحدة .. عندما أخذها بالقوة لأول مرة .. اتسعت عيناها ذعرا عندما أدركت نواياه .. فتحولت مقاومتها إلى محاولات عنيفة للإفلات منه .. قبضته القاسية لم تتركها .. وفرق القوة بينهما جعل صعوده بها الدرج إلى الطابق الثاني مهمة سهلة للغاية .. فتح باب الشقة بمفتاح خاص .. ودفعها إلى الداخل .. نظرت حولها مرتجفة دون ان ترى إلى المساحة الواسعة للشقة المرفهة .. كانت حديثة الأثاث بديكور عصري جميل .. التفكير بالنساء اللاتي قصدن هذه الشقة مرارا برفقته جعلت دماؤها تفور .. وعقلها يكاد يجن .. وقف امامها كالجدار المنيع مانعا إياها من الوصول إلى الباب .. بالبريق الغاضب في عينيه .. والتصميم في ملامح وجهه .. قال بصرامة :- اذهبي إلى غرفة النوم .. وحضري نفسك لإرضائي صرخت وهي تنكمش مذعورة :- أنت مجنون .. للابد ان تكون مجنونا .. أخرجني من هنا فانا أريد العودة إلى البيت
خلع معطفه وسترته وهو يقول بحزم :- أنت لن تتحركي من هنا حتى تمنحينني ما أريد يا نانسي .. ستذهبين إلى غرفة النوم .. وتخلعين ملابسك .. وتنتظرينني كأي عشيقة محترفة .. وإلا اقسم بأنك ستندمين أشد الندم على عصيانك لي
تجمعن دموع الخوف في عينيها وهي تنظر حولها بعجز .. ثم تنظر إلى جسده الضخم الذي فاحت منه العدائية والتصميم .. وركضت نحو الباب دون تفكير في محاولة منها للفرار
إلا انه امسك بها بسهولة .. وحكلها بين ذراعيه نحو غرفة نوم واسعة بسرير عريض مغطى بمفرش أنيق أزرق اللون .. أنزلها أرضا فأسرعت تنزوي في نهاية الغرفة وقد تدفقت دموعها وهي تصيح بهستيريا :- إياك أن تلمسني .. أنا لا أحب أن تلمسني
عيناه الجائعتان مشطتا جسدها المغطى بالملابس البسيطة .. قال لها بجفاف :- سألمسك يا نانسي .. وأنت ستحبين لمستي . تمتنين لها أيضا .. اخلعي ملابسك
في تلك اللحظة .. انهار جدار القوة الذي كانت نانسي حريصة دائما على إحاطة نفسها به في وجه الازمات .. ووجدت نفسها تنهار هذه المرة بكل ما تشعر به داخلها من وحدة وألم وضعف شديد .. تعالى نشيجها وهي تقول بانهيار :- أرجوك لا تفعل هذا بي .. ليس بهذه الطريقة .. ليس مجددا
لم تؤثر به دموعها مثقال ذرة .. قال بصرامة :- أنا لن أرغمك يا نانسي .. فليس هناك من يغتصب عشيقته .. انت ستاتين إلي .. وستفعلين ما أريد.. وبالشكل الذي أريد .. كما تفعل أي جارية لسيدها
سرعان ما كانت ازرار قميصه قد حلت تماما .. فخلعه عنه وهو يكرر بصرامة :- اخلعي ملابسك يا نانسي
تراجعت إلى الخلف وهي تنظر إليه مصدومة .. غير قادرة على التفوه بحرف أمام قسوته التي لم تعهدها .. بصدره العاري ووحشية نظراته .. كان يبدو لها مخيفا جدا .. أشبه بالوحش الكاسر الجاهز للانقضاض على فريسته .. عندما لم تصدر عنها اي حركة .. قطع المسافة بينهما وأمسك بتلابيب قميصها ومزقه بحركة حادة مبعدا إياه عن كتفيها .. وقبل أن تتمكن من الابتعاد عنه جذبها إليه .. والتفت أصابعه حول شعرها بقسوة وهو ينظر إلى عينيها الدامعتين بخوف ..وفمها المرتجف ..وهو بقول بصوت خافت :- ستكونين لي هذه المرة يا نانسي .. ستكونين لي حتى لو اهتزت جبالك رفضا
أحنى رأسه يلتهم شفتيها بوحشية بينما جرت يداه فوق جسدها المرتعش بقسوة .. ثم دفعها بخشونة نحو السرير مجردا إياها مما تبقى من ملابسها
في النهاية .. حصل محمود على ما أراده بالضبط .. حصل على خضوع نانسي الكامل .. تحت تأثير الصدمة .. وبفعل قسوته عليها التي جرحت كيانها بلا رحمة .. تمكن محمود من إطفاء شعلة القوة التي حافظت عليها لفترة طويلة داخلها .. كانت له ما أراد .. وفعلت كل ما أمرها به .. بجسد لا روح فيه .. وقد خلا لقائهما هذه المرة من الكلمات الرقيقة واللمسات الحانية التي أغدقها عليها في الماضي .. محمود الذي احبت وعشقت اختفى وحل حله وحش ضاري لم تعرفه من قبل .. كل ما اراده هو إشباع حاجاته بلا عاطفة او حب .. تركها في النهاية شبه محطمة عندما ابتعد عنها أخيرا .. رقدت نانسي كالخرساء وهي تنظر إليه يرتدي ملابسه بكل هدوء وهو يقول ببرود :- ارتدي ملابسك .. سأوصلك إلى البيت فلدي موعد مهم يجب أن الحق به
وكأن هذه الكلمات كل كانت تحتاجه بالضبط لتفوق على الواقع .. وتدرك تماما ما حدث للتو .. تصاعدت محتويات معدتها فجاة إلى حلقها فتحركت بلا تفكير نحو باب جانبي مؤدي إلى الحمام .. شعرت وكأنها نفرغ جسدها من روحها وهي تفرغ معدتها الفارغة أساسا في الحوض .. قبل ان تنهار على الأرض باكية وهي تتمنى ان تختفي في هذه اللحظة في أي جحر بعيد وتموت .. سمعت محمود يقول :- هل انت بخير ؟
نظرت إليه عبر دموعها .. ولاحظت وجوك وجهه الشاحب .. والقلق يعصف في عينيه وهو ينظر إليها من حيث يقف عند باب الحمام .. إذن .. فحبيبها محمود ما زال موجودا هناك .. في مكان ما تحت قناع القسوة الذي يرتديه في هذه اللحظة .. وقفت بصعوبة دون ان ترد عليه .. وغسلت وجهها الذابل بالماء البارد .. ثم التفتت لتجده قد اختفى .. عادت إلى الغرفة وارتدت ملابسها بآلية .. ثم ضمت قميصها الممزق إلى صدرها وهي تفكر بالطريقة التي ستخرج فيها بهذا المظهر .. انتفضت فجأة مجفلة عندما أحست بمعطف محمود يحط فوق كتفيها .. وسمعت صوته الجامد يقول :- ضعي هذا عليك
لولا حاجتها لما يوفره لها معطفه من سترة لرمته بعيدا عنها هربا من رائحة عطره التي غمرتها .. ساد الصمت بينهما طوال الطريق إلى البيت .. وبمجرد ترجلها من السيارة .. انطلق هو بها مبتعدا وكأنه لا يحتمل قضاء لحظة أخرى برفقتها .. دخلت المنزل بخطوات متثاقلة .. وحمدت الله على أن احدا لم يكن موجودا ليشهد معالم ذلها وانحطاطها .. وقد شعرت بأن محمود قد وسمها بمعاملته القاسية مدى الحياة
عندما دخلت إلى غرفتها أخيرا .. تركت المعطف يقع أرضا حول قدميها .. ودخلت فورا إلى الحمام .. تخلصت من ملابسها .. ووقفت تحت سيل المياه الساخنة تاركة إياها تلسع جسدها بلا رحمة .. وكأنها تمحي عنها آثار قسوته وحبه الجاف .. أخذا تبكي بلا انقطاع تحت المياه الحارة .. تبكي حبها الضائع .. وكرامتها الضائعة .. وكبريائها الذي انتهى على يدي محمود .. تبكي والديها الذين رحلا وتركاها وحدها بلا قريب أو معين .. تبكي وحدتها وحاجتها الشديدة إلى صدر حنون يحتويها
ارتدت قميص نومها وتكومت فوق السرير ترتجف من الحمى .. لا .. لم تكن حمى جسدية .. بل حمى نفسية أحست بأنها لن تنتهي .. دخلت إليها حنان بضع مرات بالطعام وقد اخافها وضعها المزري .. وامتناعها عن الأكل .. ورفضها للتحدث عما حدث وتركها حطاما وبقايا لما كانته
أطل الليل .. وازداد ارتعاش نانسي .. سيعود محمود بين لحظة وأخرى .. سيعود لترى نظرة الاحتقار في عينيه .. ستستمع إلى كلماته المهينة مجددا .. التفكير به يلمسها ويهينها بنفس الطريقة كادت تصيبها بالهستيريا .. وعندما احست أخيرا بوصوله في ساعة متاخرة من الليل .. ادارات ظهرها وتظاهرت بالنوم .. بينما كان قلبها يخفق بقوة كادت تفضحها .. سمعت تحركانه العنيفة .. حفيف ملابسه وهي تلقى أرضا بإهمال .. كانت اعصابه متحفزة تماما كأعصابها .. دخل إلى الحمام وغاب لفترة سمعت خلالها صوت المياه فتخيلت جسده الكامل الرجولة تحت المياه الغزيرة مما جعل الشوق اليائس يجتاحها .. كيف لها ان تحب رجلا وتشتاق إليه وتكرهه في الوقت ذاته ؟
حبست انفاسها عندما غادر الحمام .. ودس نفسه في السرير إلى جوارها .. لوقت طويل لم تجرؤ نانسي على النظر إليه حتى تأكدت من انتظام انفاسه .. استدارت ببطء .. ونظرت إلى وجهه النائم المواجه لها .. كان وجهه شاحبا ومرهقا .. وقد ظهرت الخطوط بين حاجبيه وحول فمه .. هل يتعذب كما تتعذب بسييه ؟
تأملت ملامحه الوسيمة .. ووجدت نفسها تتذكر الأيام السعيدة التي قضياها معا .. والحب الصادق الذي غمرها به ..
ما الذي حدث لينتهي الحلم ويبدأ الكابوس البشع الذي تعيشه .. تدفقت دموعها وهي تهمس بألم .. لو تعرف كم أحبم .. لو تعرف كم أكرهك .. لو تعرف فقط ما تسببه لي من ألم يا حبيب القلب
كتمت فمها بيدها كي لا يعلو نشيجها .. وأغمضت عينيها في محاولة منها لإيقاف سيل الدموع اللانهائي .. لم تعرف كم من الوقت استمرت في البكاء .. إلا انها عندما فتحت عينيها اخيرا .. شهقت بخشونة عندما رأت محمود ينظر إليها عبر الظلام وقد كسا الوجوم وجهه وبرقت عيناه الداكنتان وهكا تتفحصان كل دمعة تقطر منها .. منذ متى كان مستيقظا ينظر إلى بكائها المهين ؟
قبل أن تفكر .. هتفت بصوت مختنق :- أكرهك
اهتزت عيناه وكأن تصريحها قد ضربه بقوة بين ضلوعه .. ثم قال بصوت أجش :- أنا أيضا أكرهك
بانكسار وثقل .. استدارت نانسي بعيدا عنه كي لا يرى فورة دموعها الجديدة .. إلا انه أمسك بكتفها فجأة .. وسحبها إليه دون أن يترك لها الفرصة للاعتراض .. وخلال لحظة كانت محاصرة بين ذراعيه .. ووجهها مدفون في صدره الدافئ .. إحساسها بحنانه الذي طال شوقها إليه جعل حذرها يطير مع الهواء ..ووجدت نفسها تجهش بالبكاء بلا تحفظ هذه المرة
مرر يده عبر شعرها الناعم وهو يهمس في أذنها بصوت معذب :- انا آسف يا حبيبتي .. أعدك بحمايتك ورعايتك .. ثم اعود لأؤذيك مجددا
ازداد نحيبها قوة .. وكأن همساته تخرج كل الضغط الذي عانت منه خلال الأشهر الأخيرة .. انهالت قبلاته على رأسها وشعرها .. ثم أبعد وجهها ليقبل عينيها الدامعتين ووجنتيها المبتلتين .. رغم كل ما تشعر به من تعب نفسي .. كانت لمساته الحانية وقبلاته كل ما احتاجت إليه كي تستسلم لحبها وشوقها إليه
إنه حبيبها محمود يعود إلى الحياة مجددا .. يمنحها ما تحتاج إليه من حب وحنان .. فهل تستطيع الاعتراض ؟
عندما تناول شفتيها بين شفتيه .. وقبلها بعنف يائس .. تشبثت به وبادلته قبلاته بالضراوة نفسها .. وقد ألغت صوت العقل تماما من حساباتها .. فما يهما الآن هو حاجتها الماسة لان تشعر وبو كذبا بأن الرجل الذي تحب هو لها .. لها وحدها


الفصل الخامس والعشرون

لا مزيد

كانت نانسي وحيدة عندما استيقظت صباحا ..هبت مجفلة فوق السرير .. ونظرت حولها بتوتر عبر الغرفة الفارغة .. ثم ضمت الملاءة إلى جسدها العاري وهي تستعيد بذل ذكرى ليلة الأمس .. لقد استسلمت له تماما .. منحته نفسها روحا وجسدا بكل ضعف وخضوع .. ما حدث بعد ظهر امس داخل شقته قد تكرر مجددا وهذه المرة برضاها التام .. وبدون أي ضغط منه .. صحيح ان الأمر كان مختلفا .. إذ غمرها محمود بمشاعره العاصفة والعنيفة وكأنه بفرغ كل يأسه وإحباطه اللذين استمرا طويلا .. لمساته المتلهفة كانت بعيدة تماما عن الحنان رغم كلمات الشوق الجارفة التي أمطرها بها
لقد فعلها مجددا .. أليس كذلك ؟ لقد أثبت لها من جديد الصورة التي يراها فيها .. ودون حتى أن تعترض هذه المرة
هل نجح محمود في ترويضها اخيرا؟ .. هل انتهت نانسي راشد التي عرفتها لعشرين عاما وبدأت أخرى بالكاد تبدو مثلها ؟
جرت نفسها من السرير جرا وقد استخرجت ما تبقى داخلها من قوة وكرامة .. ودخلت إلى الحمام بقرار ضعيف بالاستمرار في المقاومة .. أي شيء .. أفضل بالتأكيد من الحطام الذي بدأت ترى نفسها تتحول إليه
لا .. نانسي راشد لا تستسلم بسهولة .. أليس كذلك ؟
مشطت شعرها المبلل خلف رأسها .. وارتدت فستانا أزرق بسيط التصميم .. بالكاد تمكنت من وضع شيء من الزينة على وجهها بيديها المرتعشتين .. فمواجهة محمود ثانية تتطلب منها القوة والشجاعة .. خاصة بعد ما حدث بالأمس .. تمنت لو أن اليوم لم يكن عطلته الأسبوعية .. تمنت لو تنزل إلى الأسفل لتجد أنه قد ذهب إلى الشركة لسبب طارئ .. ولكنها ستواجهه عاجلا ام آجلا .. ولتكن المواجهة بين افراد العائلة حيث يمكنها التسلح بحرصها على مظهرها امامهم .. بدلا من محاصرته لها بين أربعة جدران فتفقد قوتها مجددا أمامه
نزلت الدرج ببطء وهي تنظر حولها بحذر .. لم تر أي شخص بعد وكأن أحدا لم يستيقظ رغم تأخر الوقت .. وجدت غرفة المكتب مفتوحة .. فسمعت صوت محمود يتحدث إلى شخص ما مما جعل قشعريرة قوية تسري في جسدها .. رغم رغبتها في الهرب بعيدا عن طريقه .. إلا انها لم تستطع مقاومة إلقاء نظرة سريعة نحوه دون ان يشعر .. وكأنها ترغب في النظر إليه وقراءة مشاعره قبل أن تواجهه
اقتربت بحذر وهي تدرك من كلامه بأنه ليس وحيدا .. ولم تعرف إلا متأخرة بان محدثه لم يكن إلا ريم .. تراجعت إلى الخلف وهي تكتم فمها بيدها كي لا تطلق صرخة ألم مدوية تهز أركان المنزل .. وبدون ان تفكر .. قفزت تعتلي الدرج نحو غرفتها مجددا .. حيث اخرجت حقيبة كبيرة من داخل الخزانة .. وبدأت تلقي فيها أغراضها كالمجنونة .. قبل أن يخذلها جسدها المرتعش .. وينهار أرضا في نوبة بكاء مريرة عجزت عن السيطرة عليها .. لقد راته بعينيها هذه المرة .. لم تكن إحدى أكاذيب ريم 00 أو إحدى شائعات الكلية .. لقد رأت ريم تجلس في حجره على مقعده الجلدي الكبير .. قبل أن يتبادلا تلك القبلة الساخنة غير مدركان لمراقبتها لهما
ما الذي تنتظره بعد أن رأت خيانته بأم العين ؟ ان يصارحها بها ؟ ما الذي تبقى لها في هذا المكان ويوقفها عن الرحيل ؟ حبها لمحمود ؟ فلتحل اللعنة على هذا الحب إن لم يكن يستحقه .. وإن كانت ستدفع ثمنه من كرامتها وكبرياءها
تمالكت نفسها .. ومسحت دموعها وقد اشتدت عزيمتها .. ونهضت تتابع بإصرار جمع حوائجها الضرورية في الحقيبة .. حتى انها لم تشعر بمحمود يدخل إلى الغرفة وينظر مذهولا إلى ما تفعله .. انتفض جسدها عندما دوى صوت انصفاق الباب العنيف .. ودوى صوت محمود يصرخ بحدة :- ما الذي تفعلينه ؟
نظرت إلى غضبه الشديد واستنكاره .. فلم تستطع إلا ان ترى ريم بين أحضانه تقبله بشغف .. فتماسكت وهي تقول بعنف :- كما ترى يا محمود .. أنا راحلة .. لن ابقى في هذا المكان دقيقة واحدة .. سأتركك وأطلب الطلاق لأنني لن أستطيع العيش معك اكثر
قطع المسافة بينهما ليمسك بذراعيها ويمنعها من إكمال ما تقوم به ..وهزها بقسوة صائحا بغضب :- انت لم تذهبي إلى أي مكان .. وأنا لن اطلقك أو أسمح لك بالرحيل .. انت ستبقين هنا ما دمت انا اقول هذا
حاولت التملص منه وهي تصيح :- بل ستطلقني يا محمود .. وأنا سأغادر هذا المكان وبلا رجعة هذه المرة
شدها إليه وهو يقول من بين أسنانه :- إلى أين ستذهبين ؟ فأنت لا تملكين مكانا تلجئين إليه سوى هذا المنزل .. أنا هو وسيلتك للعيش بكرامة يا نانسي أم انك نسيت
تذكيره لها بطريقة زواجهما جعلها تفقد أعصابها وتصيح بجنون :- كرامة ..رامة بقيت لي في العيش تحت سقف منزلك الكريه يا محمود ؟ ..أفضل الف مرة ان أجوب الشوارع متسولة اللقمة على ان أعيش معك لحظة أخرى .. لقد سئمت .. سئمت من كل شيء .. من عجرفتك وغرورك وخيانتك الصريحة لي .. من نظرتك الدونية التي لن تتوقف أبدا نحوي .. من عائلتك التي أكلها الغل والحقد.. عمتك التي كرهتني لظنها بانني سأحتل مكانها كسيدة للمنزل .. ريم المتربصة بك في الزوايا تنتظر دورها كأي ساقطة رخيصة كي تنال نصيبها منك .. عمك الغامض الذي لا يكف عن منحي ذلك الإحساس بانه يكيد لي .. لقد سئمت .. سئمت ولن احتمل هذا الوضع أكثر
لم تعرف بانها استغرقت في احتقاره وعائلته حتى هوت كفه على وجنتها تصفعها بقوة كادت ترميها أرضا لو لم يكن ممسكا بها .. اتسعت عيناها رعبا عندما كادت نيران الغضب الملتهبة في عينيه تحرقها .. راقبت كلماته القاسية وهي تنساب من فمه :- أنت لا تتعلمين يا نانسي .. مهما حدث تظلين تلك الفتاة المغرورة والمتكبرة السليطة اللسان التي تحتقر جميع الناس وتمعن في إذلالهم ناسية بأنها ابنة لص حقير مات في السجن .. وأنها لولا إحساني لسلكت طريق والدها نفسه بحثا عن الرفاهية ورغد العيش اللذين اعتادت عليهما .. إياك أن تهيني عائلتي مجددا يا نانسي لأن ظفر أصغرهم يساوي لدي كل ما تملكين
أحست نانسي بثقل كبير يطبق على أنفاسها .. وبطنين يدوي في أذنيها .. وغثيان قاومته حتى اللحظة الأخيرة وهي تضربه بقبضتيها على صدره بكل ما تبقى لديها من قوة وهي تهتف بانهيار :- إياك أن تتحدث عن أبي ..أنا أكرهك .. أكرهك
لم تسمع ما قاله محمود ردا على تصريحها .. فقد لفها الظلام خلال لحظة .. ووجدت نفسها تغرق بدون مقدمات في عالم اللاوعي

فتحت نانسي عينيها دفعة واحدة وهي تشهق مذعورة .. للحظة .. ظنت بأن كل ما حدث كان كابوس مريع .. تصريحات ريم الفظيعة .. إذلال محمود لها وقسوته عليها .. المشهد الغرامي الذي جمع بين ريم ومحمود .. خاصة عندما وجدت نفسها نائمة على سريرها ترتدي أحد قمصان نومها الدافئة .. بدون أي أثر حولها للحقيبة التي بدأت بتوضيبها .. إلا أن وخزة الألم في خدها أفاقتها على الواقع .. ما حدث لم يكن حلما .. كل لحظة مذلة عاشتها على يدي محمود كانت حقيقة .. الشعور بالألم القاتل عاد ينهشها مجددا وهي تتذكر كل ما حدث .. انتهاءا بصفعة محمود القوية .. كلامه المهين .. مهما فعلت .. فهي لن تضاهي قيمة عائلته لديه .. وريم ستبقى دائما بينهما مهما حاولت إبعادها
نهضت بسرعة .. وبدلت ملابسها بيدين مرتجفتين .. ارتدت أول ما وجدته أمامها .. سروالا من الجينز .. وكنزة زرقاء .. نزلت الدرج بحذر دون أن تصدر أي صوت .. سمعت صوت محمود فتجمدت مكانها .. ارتجفت أوصالها وتزايدت سرعة أنفاسها وهي تسمعه يتحدث من غرفة الجلوس بشيء من الانفعال .. تجاوزت الباب بسرعة نحو باب المنزل .. وخرجت لتجد حنان برفقة مأمون .. يتبادلان الحديث أمام السيارة .. التفت الاثنان نحوها متفاجئين من وجودها .. قالت حنان بقلق رغم اللون الوردي الذي كسا وجنتيها :- ما الذي تفعلينه هنا يا نانسي ؟ لقد قال الطبيب ....
أسرعت نانسي تقاطعها بحدة :- ما الذي تفعلينه أنت هنا ؟ تثرثرين مع السائق وكأن لا عمل لديك تأخذين عليه أجرا
فتحت حنان فمها مذهولة من الهجوم المفاجئ . . في حين التفتت نانسي نحو مأمون قائلة :- أنت .. جهز السيارة
قال بارتباك :- آه .. نعم .. سأبلغ الدكتور محمود ثم ...
قاطعته صارخة بجنون :- هل تجرؤ على معارضتي ؟ أقسم بأنني إن لم تتحرك في هذه اللحظة وتنفذ ما أقول سأصرخ كالمجنونة متهمة إياك بالتحرش بي
نقل نظرات الذهول بين نانسي وحنان التي أومأت له بعينيها مؤكدة بان مخدومتها لا تمزح ... فأسرع يجلس خلف المقود مستسلما وهو يدعو الله ألا يخسر وظيفته .. بينما جلست هي في المقعد الخلفي وهي تتذكر المرة السابقة التي غادرت فيها البيت على إثر صفعة محمود .. هل كان عليها أن تعرف منذ ذلك اليوم الاتجاه الذي ستسير عليه علاقتهما ؟ هل كان عليها ان تغادر البيت بلا رجعة منذ عرفت الشكل الذي يراها فيه محمود .. والسهولة التي فضل فيها ريم وعائلته عليها ؟
كانت ترتجف وهي تخفي وجهها بيدها .. دون ان تدرك كم كانت تبدو شاحبة وضعيفة لمأمون الذي أخذ ينظر إليها عبر المرآة بقلق دون أن يجرؤ على قول كلمة .. طلبت منه التوقف فور دخوله المدينة .. وترجلت من السيارة غير مبالية بصراخه ومحاولته اللحاق بها ليعرف وجهتها .. أو وقت عودتها .. استقلت اول سيارة أجرة وانطلقت بها بعيدا عن الرجل الذي حاول العودة إلى سيارته ليتقفى أثرها بعد فوات الأوان .. إذ كانت نانسي قد اختفت تماما من أمام عينيه .. فلم يجد امامه غير الاتصال عبر هاتفه بمحمود ليبلغه بالأخبار السيئة
وقفت نانسي شاردة الذهن على أحد الأرصفة تراقب السيارات الرائحة والغادية .. والناس تسير من حولها دون ان تشعر بهم . حتى سمعت صوتا مألوفا يقول :- نانسي !
التفتت نحو ماهر الذي نظر إليها بقلق وهو يقول :- لقد أتيت بأسرع ما استطعت .. ما الأمر ؟
رؤيتها لماهر الحبيب .. بالعقدة الدائمة بين حاجبيه ..في عينيه .. جعلت ألمها يتجدد مرة أخرى .. ارتجفت شفتها السفلى .. وتدفقت الدموع من عينيها .. ووجدت نفسها تندفع نحوه رامية نفسها بين ذراعيه وهي تبكي بمرارة أجفلته وأثارت ذعر وهو يمسك بها ويقول :- نانسي ما الذي حدث ؟
لاحقا .. وداخل أحد المقاهي المتواضعة .. طلب لها ماهر شرابا دافئا عل ارتجاف جسدها يتوقف .. ثم نظر إليها منتظرا بصمت أن تفضي ما لديها .. بينما أمسكت هي بالكوب الساخن يديها تنظر إلى السائل الذي تصاعد منه البخار وكأنها تبحث عن طريقة تبدأ بها حديثها .. فلم تجد إلا أن تدخل مباشرة في صلب الموضوع :- لقد تركت منزل محمود يا ماهر.. ولن اعود إليه مجددا
صمت ماهر لدقيقة كاملة لم تجرؤ خلالها على النظر إليه .. حتى قال بهدوء :- أهو من سبب لك هذه الكدمة ؟
امتدت يدها تلقائيا نحو موضع الصفعة وقد احمر وجهها إذلالا للذكرى .. عادت الدموع تتجمع في عينيها فمنعتها بعزيمة من الانهيار .. وتمتمت :- وهل يشكل هذا فارقا ؟ حياتي مع محمود قد انتهت .. أي تفاهم بيننا مستحيل تماما .. وأنا أفضل أن أموت أولا قبل أن أعود إلى ذلك المنزل
قال بلطف :- ألا تستطيعين إخباري بأي شيء ؟ سيريحك هذا قليلا .. وأنت تعلمين بأنني مستمع جيد .. كما أنني لن أستطيع مساعدتك إن لم أفهم الموضوع
هزت رأسها وهي تغمغم :- مشاكلي مع محمود أكبر من أن تشرح بالكلمات .. كما أنني لا أبحث عمن يفهم مشاكلي ويحاول حلها لي .. ما أريده هو ان أنسى محمود تماما وكانه لم يدخل إلى حياتي يوما
تأمل وجهها الشاحب بإمعان .. وقارن نانسي الجالسة أمامه بتلك التي عرفها لسنوات .. نانسي الجميلة الفخورة والقوية .. الفتاة الجالسة أمامه لم تكن إلا نسخة باهتة عنها .. ما الذي فعله محمود فاضل ليدمر نانسي راشد وقد فشلك كل ظروفها في تحقيق هذا ؟
تمتم :- ما الذي تنوين فعله الآن ؟
وضعت الكوب من يدها قائلة بتوتر :- لا أعرف .. لم أفكر بالأمر عندما خرجت من هناك .. كان همي الأكبر هو الرحيل قبل أن يتمكن محمود من منعي .. كل ما أردته هو ترك ذلك المنزل حتى وأنا اعرف بانني لا أمتلك مكانا يأويني .. حاجتي إليه هي ما أبقاني معه كل هذا الوقت .. حتى انه ...
احتبست الكلمات في حلقها إذ لم تستطع أن تواصل الكذب .. فما أبقاها لم يكن حاجتها إليه .. بل حبها له .. حبها الذي لم يستحقه أبدا
كتمت فمها بيدا كي لا يخرج النشيج منه .. بينما انهمرت الدموع بلا توقف مما جعل ماهر الذي لم ير نانسي باكية حتى عندما توفي والدها .. يرتبك ويعجز عن قول أي شيء لمواساتها .. تركها تفرغ مافي داخلها للحظات قبل أن يقول :-
هيا بنا يا نانسي .. لنذهب من هنا
مسحت دموعها وهي تهمس :- إلى أين ؟
:- أنت لست مضطرة لإخباري بمشاكلك مع الدكتور محمود يا نانسي .. ولكن إياك أن تفترضي عدم وجود من تلجئين إليه في الأزمات .. أنا معك دائما .. وبيتي مفتوح لك في اي وقت تريدين ... أنت ستأتين معي .. وتمكثين مع والدتي وشقيقتي حتى ترتبي أمورك كلها
نظرت إليه بارتباك إذ كان اللجوء إلى أي أحد لطلب المساعدة أمر جديد عليها .. ولكنه لم يترك لها مجالا للتفكير والتردد .. وقف راميا حفنة من الأوراق المالية على الطاولة .. وقال لها بحزم :- هيا يا نانسي .. أنت متعبة وبحاجة لنيل قسك من الراحة
لم تجادله أكثر .. فقد كانت بحاجة شديدة لإيجاد صدر حنون يحتويها ويحميها حتى من الرجل الذي تحبه بجنون . وقد وجدت هذا الصدر لدى ماهر كالعادة ..
مجددا يثبت لها ماهر بأنه الشخص الوحيد الجدير بصداقتها واحترامها .. شعرت بالراحة والاطمئنان وهي تقف .. وتسمح له بالتربيت على كتفها برفق أثناء خروجهما من المقهى في اتجاه سيارته الحمراء الصغيرة .. في اتجاه المجهول


الفصل السادس والعشرون



أين أنت ؟


مضى أسبوع تقريبا منذ مغادرة نانسي منزل محمود بلا رجعة .. ثمانية أيام مرت على اختباءها في شقة ماهر الصغيرة .. بين أمه الطيبة وشقيقتيه اللطيفتين
كانت مفاجأة السيدة رجاء كبيرة عندما عاد ماهر ذلك المساء إلى البيت برفقة نانسي .. استغرابها لم يطل كثيرا .. فهي تعرف مسبقا بانها إحدى اقرب أصدقاء ماهر .. أما عندما عرفت ظروفها ولاحظت دموعها الجافة وشحوبها .. سرعان ما أخذتها بين ذراعيها واحتوتها تحت جناحها وكأنها أحد أولادها .. وعلى الفور بدأت حملة تغذية مكثفة على الفتاة الشديدة النحول .. اهتمامها الشديد جعل نانسي تبكي أكثر من مرة وقد نسيت كيف تكون الحياة مع حنان أم كالسيدة رجاء .. شقيقتي ماهر .. لبنة وهي في التاسعة عشرة .. ولمياء وهي في الخامسة عشرة .. استقبلتاها في البداية بتحفظ وفضول .. سرعان ما اختفيا مع طبيعتهما المندفعة والصادقة .. احتلت نانسي سرير لمياء التي انضمت إلى لبنة في سريرها الضيق بلا تذمر .. ثم صارحتها الأختان لاحقا بانهما لطالما تشوقتا للقاءها بسبب حديث ماهر الدائم عنها .. حتى انهما ظنا لفترة طويلة بأن ما يربطه بها يزيد عن الصداقة مما فاجأهما عندما سمعتا بنبأ زواجها
لأول مرة منذ أشهر طويلة تحس نانسي بانها وسط عائلتها .. وسط أشخاص يحبونها ويحترمونها بغض النظر عن تاريخ وخزي والدها .. حتى أن أحدهم لم يسألها عن سبب شجارها مع محمود .. وهي لم تتحدث عنه لأنها لم ترغب في الإساءة إليه رغم كل ما فعله بها .. ولأن حديثها عنه لن يسبب لها سوى الألم والاذلال
السيدة رجاء سألتها أكثر من مرة إن كان هناك أي طريقة لتسوية الأمر مع زوجها .. فهي كسيدة تقليدية الطراز تؤمن بأن مكان المرأة يجب أن يكون مع زوجها .. ولكنها احترمت رغبة صديقة ابنها المقربة
لم يتوقف محمود عن الاتصال بها لحظة واحدة منذ تركها المنزل .. مرة بعد مرة طوال الليل والنهار .. دون أن تتعب نفسها بالرد عليه ولو لمرة .. منعت ماهر من البوح بمكانها لأي أحد خشية وصول محمود إليها .. لأنه إن فعل فهو قادر بسلطته عليها ان يعيدها مجددا مستغلا ضعفها اتجاهه وحبها له .. وماهر رغم اعتراضه وإصراره على انها يجب أن تراه وتتفاهم معه.. أو تطلب الطلاق منه صراحة على الأقل .. إلا انه احترك قرارها ورفضها للذهاب إلى الجامعة .. وحرص على تزويدها بكل ما تحتاج إليه من كتب للدراسة بدلا من شغل عقلها بالتفكير الذي ظهرت آثاره عليها واضحة .. ورغم تقديرها لجهوده فإن نانسي بالكاد كانت قادرة على فهم حرف واحد مما كانت تقرأه .. بينما عقلها مشغول تماما بالرجل الذي تركته خلفها هاربة .. يقاطع تفكيرها بين لحظة وأخرى رنين هاتفها باتصال آخر منه يستجدي منها الرد بلا فائدة .. أو رسالة نصية منه تستفهم عن مكانها
كانت ما تزال صاحية في وقت متاخر من الليل عندما أصدر هاتفها أزيزا معلنا عن وصول رسالة جديدة .. على ضوء الأباجورة الوحيدة المضاءة في الغرفة الصغيرة على المنضدة الفاصلة بين سريرها والسرير الذي ضم كل من لمياء ولبنة
رفعت الهاتف وقرات الكلمات المختصرة ( أين أنت ؟ أخبريني فقط بأنك بخير )
أغمضت عينيها بقوة مانعة نفسها من البكاء وهي تعيد الهاتف إلى مكانه دون ان ترسل أي رد كالعادة .. فسمعت صوت لمياء يقول :- أهي رسالة جديدة منه ؟
نظرت نانسي إلى الفتاة التي اعتدلت جالسة وقد ظهر عليها القلق فاومأت برأسها قائلة :- آسفة لأنني أيقظتك
:- لم أكن نائمة منذ البداية .. ألن تردي عليه هذا المرة أيضا ؟
نظرت نانسي إلى الهاتف وهي تتساءل .. ماذا ستقول له ؟ أي اتصال به كفيل بان يسبب لها الانهيار .. وقد بذلت جهدا كبيرا لتتماسك مجددا وتحاول استعادة قوتها .. تمتمت :- ليس هناك ما أقوله له
قالت لمياء بفضول :- هل تكرهينه إلى هذا الحد ؟
نظرت نانسي إلى الفتاة الصغيرة . كانت في مثل عمر لينا .. أصغر حجما ومختلفة بشعرها البني الداكن وعينيها الشبيهتين بعيني ماهر.. إلا أنها كانت أكثر نضوجا بكثير من عمرها .. وجدت نانسي نفسها تقول :- لا .. لا أكرهه على الإطلاق ... بل أحبه كما لن أحب أي انسان آخر في حياتي
قالت لمياء بحيرة وعدم فهم :- لماذا تركته إذن ما دمت تحبينه ؟
تنهدت نانسي وهي تتساءل عن الطريقة التي تستطيع فيها الإجابة عن هذا السؤال .. ثم تذكرت كلمات حنان التي ما زالت تدوي في أذنيها وكأنها قد سمعتها البارحة وقالت :- لأنني أحبه بجنون تركته .. لو أن حبي له لم يكن بهذه القوة .. لوجدت طريقة أبقى فيها معه
وكانت احتملت بطريقة ما مشاركة الأخريات لها به .. أهذا ما احسته حنان عندما تركت حب حياتها ورحلت دون اعتبار لآلام قلبها ؟
هزت لمياء رأسها دون فهم قائلة :- لن أطلب منك تفسيرا .. أظنها إحدى تعقيدات الكبار كما تقول لبنة .. مع انني أصر على أنك يجب أن تحاربي لأجل الفوز بالشخص الذي تحبين
قالت نانسي برقة :- هل تظنين هذا حقا ؟
:- ما أسهل السيطرة على الرجل باستعمال بعض الدهاء .. لقد قرأت هذا في مجلة ما وأطبقه دائما مع ماهر .. لهذا فهو لا يستطيع رفض أي طلب لي .. بعكس لبنة التي لا تتوقف عن الشجار معه
ضحكت نانسي وقد أدهشتها طريقة تفكير الفتاة الصغيرة فقالت :- أنت أكبر بكثير من عمرك
قالت لمياء بزهو :- هذا ما تقوله أمي .. كما أنها وماهر يظنان بأنني أتحدث دائما قبل أن أفكر .. هل تظنينهما محقين ؟
ارتفع رنين الهاتف مجددا فنظرت الفتاتان إليه وهو يتراقص مكانه وقد تصدر اسم محمود الشاشة الصغيرة المضاءة .. قالت لمياء بتعاطف :- أظنه قلق عليك
قلق .. كان بإمكان هذا ان يثير تعاطف نانسي عليه .. إلا أن ذكرى معاملته السيئة لها .. ورؤية ريم بين أحضانه جعلت قلبها يقسو مجددا .. خمد الهاتف أخيرا مما جعلها تعود لتتنفس مجددا .. كانت تعرف بانها مسالة وقت فقط قبل أنه يجدها محمود .. وبالفعل .. بعد يومين .. دخل ماهر عليها بعد أن طرق الباب أثناء انشغالها بشرح درس للمياء في الفرنسية .. التقطت توتره على الفور وسألته بقلق وهي تنتصب جالسة :- ما الأمر ؟
قال بجمود :- الدكتور محمود هنا
شحب وجهها وظهر الهلع في عينيها وهي تقول :- هنا ؟ كيف ؟ هل اخبرته بانني موجودة ؟
قال بتوتر :- لم أستطع الكذب عليه يا نانسي .. افهميني .. إنه حتى لم يسألني إن كنت موجودة أم لا عندما وجدته واقفا خلف الباب .. لقد طلب رؤيتك مباشرة وكأنه واثق من وجودك .. إنه ينتظر الآن في غرفة الضيوف مصرا على مقابلتك
الانفعال جعل نانسي ترتجف .. وكل ما دفعها للهرب منه يعود ليهاجم ذاكرتها .. لم تستطع تحمل رؤيته مجددا .. مواجهته والنظر إلى وجهه والتحدث إليه.. قالت بانفعال :- لا أسنطيع ان أراه .. أرجوك يا ماهر ... قل له أي شيء .. أي شيء
أسرعت لبنة تجلس إلى جوارها وتحيطها بذراعها محاولة تهدئتها ..ثم نظرت إلى ماهر قائلة بحزم :- لقد سمعت ما قالته .. نانسي لا تريد رؤيته
هز كتفيه دون ان بجد ما يقوله .. ثم غادر الغرفة بينما قالت لبنة برقة :- اهدئي يا عزيزتي .. لست مجبرة على لقاءه
قالت لمياء بقلق :- ماذا إن رفض الرحيل قبل لقاءها ؟
فكرت نانسي بأنه على الأرجح سيفعل هذا بالضبط .. وماهر مهما بلغت صلابته إلا ان محمود يظل في النهاية أستاذه وصاحب سلطة عليه .. تسللت خارجا ووقفت خلف باب غرفة الضيوف الموارب وأخذت تستمع إلى صوت محمود يقول بصرامة :- ماذا تعني بأنها لن تراني .. أخبرها بانني لم أذهب إلى أي مكان قبل التحدث إليها
قال ماهر بصلابة :- أنا آسف يا دكتور محمود .. نانسي امرأة حرة .. وإن رفضت رؤيتك فلا أحدج يستطيع إرغامها
سماعها صوت محمود بعد كل هذا الوقت جعل رجفة شوق تجتاحها بقوة .. لم تنسى للحظة عمق صوته الرجولي الجذاب وتأثيره عليها .. كادت ترى بعين الخيال الغضب الذي رسمته كلمات ماهر على وجهه وهو يقول بخشونة :- نانسي ليست حرة .. هي زوجتي وتنتمي إلي .. وإن لم أرها حالا وفي هذه اللحظة فستجد نفسك متورطا في تهمة اختطاف
قال ماهر بشجاعة فاجأتها :- نانسي هنا بكامل إرادتها.. وهي لن تبقى زوجتك لفترة طويلة .. سرعان ما ستحصل على الطلاق لتعود حرة مجددا
أسرعت نانسي التي قدرت بغريزتها كيف ستكون ردة فعل محمود على كلمات ماهر الاستفزازية تقتحم الغرفة لتجد محمود ممسكا بالفعل بتلابيب قميص ماهر وقد ظهر عليه الإجرام التام .. بينما ثبت أمامه ماهر بشجاعة مستعدا للعراك .. التفت الاثنان نحوها فور دخولها .. فارتخت قبضة محمود الممسكة بماهر عند رؤيته لها .. حبست أنفاسها وهي تحس بمشاعرها تفيض لرؤيته مجددا .. أهذا هو محمود حقا ؟ .. كان يبدو مختلفا وقد كسا الشحوب وجهه المرهق .. ونمت ذقنه مما أظهر تأثير قلقه الشديد عليها .. كان يبدو أكثر نحولا مما تذكر .. إلا أنه كان ما يزال محمود .. الرجل القوي الجذاب صاحب التأثير العنيف فيها حتى وهو يبدو في أسوأ حالاته كهذه اللحظة .. لا .. لن تضعف مجددا .. حتى وعيناه تلتهمانها بشوق ولهفة .. وكأنه لا يصدق وقوفها أمامه بدمها ولحمها قطعة واحدة بلا أي سوء .. رفعت ذقنها نحوه بصلابة وهي تقول بجفاف :- ها انا ذا امامك .. لست مضطرا لإيذاء ماهر كي تراني .. مع أنني أشك بوجود أي شيء يقوله احدنا للآخر
انسحب ماهر بهدوء تاركا الزوجين ليتحدثا معا مغلقا الباب وراءه دون ان يشعر به أحدهما .. تواجها طويلا .. كل منهما نظر إلى الآخر .. درست عيناه كل جزء من وجهها الشاحب الخالي من الزينة .. عينيها الواسعتين الحزينتين وشعرها الناعم المنسدل حول وجهها .. جسدها الذي غطاه سروال قديم من الجينز وقميص أبيض فضفاض استعارته من لبنة أظهر نحولها الشديد .. كانت تبدو أكثر ضعفا وهشاشة .. ولعينيه .. لم تبدو يوما أكثر جمالا .. قال بهدوء وكأن ثورة غضبه منذ دقائق لم تحدث قط :- كيف حالك يا نانسي ؟
تشنجت وهي تقول :- اعفني من تظاهرك بالاهتمام نحوي وأخبرني بما تريده مني يا محمود
برقت عيناه الداكنتان .. وأطلت منهما مشاعر عاصفة .. بينما توتر فمه وهو يقول :- أتلومينني على قلقي بعد غيابك واختفاؤك لعشرة أيام كاملة ؟.. ألديك فكرة عن شعوري وأنا ابحث عنك في كل مكان كالمجنون خلال الأيام السايقة .. لم أترك مكانا إلا وبحثت فيه .. مستشفى .. أو مخفر .. أو حتى مشرحة .. قلقا من إصابتك بمكروه .. توقفت عن الذهاب إلى الجامعة .. ولم تتركي أي خبر منذ مغادرتك البيت فجأة .. هل تتخيلين مدى قلقي وأنا أعرف بأنك لا تملكين مكانا تلجأين إليه .. وأنك قد تكونين في أي مكان .. وتعانين من أي شيء دون ان أكون قادرا على مساعدتك ؟ عشرة أيام لم أنم خلالها لحظة واحدة وأنا أنتظر أن تتصلي بي يوما أو ان تردي على رسائلي الكثيرة فقط كي أطمئن عليك .. حتى تذكرت ماهر فجأة .. كيف لم أدرك بانك قد تلجئين إليه وهو شديد القرب منك .. كيف لم أفكر بانك دونا عن جميع الناس ستختارين اللجوء إليه هو
صدقت نانسي قلقه الشديد عليها .. فهي اكثر من يعرف احساسه الشديد بالمسؤولية اتجاهها .. كما كانت معالم إرهاقه وقلقه واضحة تماما في هيئته البعيدة تماما عن مظهره المتماسك المعتاد .. بدا محمود لأول مرة فاقدا وقاره وقوته وهو يجد نفسه عاجزا أخيرا عن تحقيق ما يريد .. وفي هذه اللحظة .. كان غضبه عاصفا للجوئها إلى ماهر دون غيره .. وتعرف تماما بانه لن يخاطر بإظهار غضبه بينما هو في موقف ضعف يواجهه للمرة الأولى
قست نفسها ومنعتها من التعاطف معه .. وقالت بتحدي :- وهاقد وجدتني أخيرا .. وعرفت بانني بخير ولا أحتاج إليك أبدا .. فلم لا تقول ما لديك وتوفر الوقت على كلينا
توتر فمه بغضب حاول تمالكه وهو يقول :- تعرفين جيدا ما أريد قوله .. أريد أن تعودي معي إلى البيت .. بيتنا
تراجعت خطوة إلى الوراء وقد ارتسم الرفض التام على وجهها وهي تقول :- لا .. ذلك المكان لم يكن بيتي يوما .. وأنا لن اعود إليه أبدا .. بل انا لن أذهب إلى اي مكان معك
قال بصوت أجش :- أعرف بانك غاضبة .. وأنني قد أسات معاملتك مؤخرا .. أعذر كل رفض لك مني .. وأتفهم مشاعرك .. ولكن إياك أن تشيري ولو من بعيد إلى تركك لي
اليأس في صوته كاد يمزق قلبها .. وجعلها تكبت كل ذرة ضعف لديها وهي تقول متماسكة :- ما دمت تتفهم مشاعري وغضبي .. فستعرف بان لا حل لمشاكلنا إلا الفراق .. لا يمكن لزواجنا ان يستمر أكثر .. فأحدنا لا يسبب للآخر إلا التعاسة والألم .. انا لن أعود إليك يا محمود .. فانا ارغب في الطلاق
تجاوز المسافة الفاصلة بينهما وأمسك بذراعيها بقوة وهو يقول بخشونة :- أنا لن أطلقك يا نانسي .. أتفهمين ؟ وانت ستعودين معي إلى البيت والآن .. ولن أسمح لك بالغياب عن عيني مجددا
حاولت التملص منه بلا فائدة .. فرفعت رأسها نحوه تقول بعنف :- أظنك ستشير مجددا إلى شراءك لي .. وأنك لم تحصل على ما يكفي كتعويض عن كل ما قدمته لعائلتي
شحب وجهه وهو يقول بتوتر :- قد اكون أشرت إلى هذا عدة مرات في لحظات غضب عابرة .. ولكنني لم أشعر قط بانني قد اشتريتك .. أريدك أن تعودي معي لأنني أحتاجك .. وأريدك في حياتي .. الأيام السابقة التي قضيتها بدونك كانت كالجحيم .. لن أستطيع الصمود بعيدا عنك لحظة واحدة
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تسمع الكلمات التي تتمنى كل امرأة سماعها من الرجل الذي تحب .. إلا أن ذكرى معاملته السيئة لها وخيانته لها منحتها القوة لتقول بألم :- إياك ان تكذب علي يا محمود .. أنا لم أكن بالنسبة إليك أكثر من شيء اشتريته .. أنت لم تحترمني أو تقدرني يوما .. حتى عندما كنت تعاملني بلطف .. كنت تؤمن في قرارة نفسك بانني امرأة رخيصة وتافهة دون ان تنسيها للحظة ماضي والدها القذر .. ما كنت أبدا لتعاملني بالطريقة نفسها لو انني كنت فتاة مختلفة .. لو انني ريم او نسرين.. او أي فتاة تمتلك خلفية محترمة ووالدا ذا سمعة عطرة .. لن استطيع البقاء معك وأنا احس بانك تحتقرني وتقدم الآخرين علي .. انا لن أكون سعيدة .. وأنت لن تكون سعيدا لانني لن أصبح أبدا كما تريد .. ليس هناك حل سوى ان نفترق .. وأن يحاول كل منا البحث عن سعادته في مكان آخر ومع شخص آخر
التهب الغضب في عينيه وهو يغرز أصابعه في ذراعيها قائلا بشراسة :- هذا ما تتمنينه أنت وصديقك الخانع ذاك .. أن يخلو لكما الطريق لتكونا معا من جديد .. لن تكوني له إلا على جثتي
فقدت اعصابها فجأة ودفعته عنها وهي تصيح بثورة :- أنا لن أكون له .. أو لك أو لأي رجل آخر .. لقد اكتفيت بسببك من كل جنس الرجال إلى الأبد .. لقد قتلت داخلي كل قدرة لي على العطاء او حتى الأخذ .. لقد ذبحتني يا محمود ... نجحت انت في ما فشلت كل المصاعب التي واجهتها في فعله .. لقد فقدت والدي .. تشردت وأهنت .. وحتى هوجمت .. إلا أنني كنت دائما قادرة على الوقوف صامدة على قدمي والاحتفاظ بكبريائي .. لقد ظننت حقا بانني قوية بما فيه الكفاية كي أصمد في وجه العواصف والرياح .. ظننت بانني لن انحني حتى تنحني الجبال .. إلا أنني لم أنحني فقط على يديك .. لقد انهرت تماما ولم يتبق مني إلا أشلاء من تلك الفتاة التي كنتها يوما .. ما الذي بقي لدي لأمنحه لك أو لأي رجل آخر من بعدك .. لقد خسرت كل شيء .. كل شيء
ابتعدت عنه وهي تجهش في البكاء مخفية وجهها بين يديها بينما تسربت الدموع الغزيرة من بين أصابعها لتذيب قلبه وهو يمد يده نحوها في محاولة يائسة لمواساتها .. إلا انها انتفضت فور أن لمسها وتراجعت عنه هاتفة بعنف :- لا تلمسني .. إياك ان تلمسني
قال بصوت أجش :- لم تخسري كل شيء يا نانسي .. ما زلت تملكين قلبي .. أنا أحبك .. ولن اتوقف لحظة واحدة عن حبك
استدارت نحوه صائحة بشراسة :- إياك أن تتكلم عن الحب يا محمود .. أنت لا تعرف ما هو الحب .. وان تعرف أبدا ما يعني ان يضحي الانسان لأجل من يحب وان يتقبله كما هو بعيوبه وزلاته لأنه يحبه
أغمض عينيه وهو يأخذ نفسا عميقا .. ثم قال بإصرار :- مهما رفضتني سأظل اكررها لك حتى تصدقيها وتؤمني بحقيقتها .. انا احبك يا نانسي .. احبك ومستعد لفعل أي شيء لتعويضك عن كل ما سببته لك من ألم .. اطلبي أي شيء .. أي شيء وسأنفذه لك فورا .. فقط امنحيني الفرصة .. فرصة واحدة لأثبت لك أهميتك لدي ومدى حبي لك


يتبع ,,,,

👇👇👇


تعليقات
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -