بداية

رواية عندما تنحني الجبال -10

رواية عندما تنحني الجبال - غرام

رواية عندما تنحني الجبال -10

ابتسم لخجلها النادر .. وقال :- لابد أنك جائعة .. أنا متأكد من وجود شيء في المايكرويف ينتظر أن يعاد تسخينه .. ما رأيك أن نلقي نظرة سويا
المطبخ كان صغيرا وحميما للغاية .. إلا أنه مجهز بكل وسائل الرفاهية .. كان محقا فيما يتعلق بالوجبة المعدة للتسخين فقالت بدهشة :- إنها وجبتي المفضلة
وضع الطبق في جهاز التسخين بينما قالت بحيرة :- كيف استطعت فعل كل هذا ؟ تجهيز الطعام .. تنظيف البيت .. المدفأة المشتعلة ..
قال وه وينظر إليها من خلف كتفه :- ليس الأمر صعبا .. أطلب دائما من الجيران العناية بالمكان في غيابي .. وطلبت منهما تجهيزه مساء الأمس .. أردت الأمر أن يكون مفاجأة جميلة لك .. وسعيد لأن المكان قد أعجبك
وضع الطعام على الطاولة وأشعل الشموع .. ثم أزاح لها الكرسي لتجلس أمامه وهو يقول مداعبا :- تفضلي يا سيدتي
جلست وهي ترتجف من فرط المشاعر التي فاضت داخلها .. وهي تنظر إلى محمود الذي جلس أمامها وقد بدا رائعا عندما انعكس عليه ضوء الشموع الأحمر فجعلت وسامته تبدو شيطانية ومثيرة بشكل جعل نبضات قلبها تتسارع بجنون .. قال لها ك- بماذا تفكرين ؟
تمتمت :- بكل شيء.. بك .. بنا معا .. وحياتنا القادمة
أمسك يدها عبر الطاولة وهو يقول :- لنتناول طعامنا الآن .. وسنتحدث بعدها كما تشاءين
ابتسمت له وهي تطيعه برضا .. وبعد تناول الوجبة اللذيذة تعاونا في تنظيف المائدة .. ثم وقفت نانسي أمام الحوض لتنظف الأطباق بينما نظر إليها محمود متأملا وهو يقول باسما :- يبدو لي مظهرك وأنت تنظفين غريبا .. لا أصدق بأن نانسي فتاة القصور المدللة تنظف الآن الأطباق وكأنها قد ولدت وهي تقوم بهذا العمل
قالت منه متظاهرة بالغضب :- أتسخر مني ؟ من يسمعك لا يصدق بأنك الرجل الذي ولد حقا وفي فمه ملعقة من ذهب .. الطلاب في الجامعة كانوا يحتارون كثيرا حول حياتك البعيدة عن الجامعة .. البعض كان يقول بأنك ثري جدا .. والآخر كان يقول بأنك فقير جدا خلف مظهر الدكتور الوقور .. حيث استمتعوا بتخمين الأعمال الجانبية التي كنت تقوم بها بعد دوامك في الجامعة لتزيد من مدخولك
قال مستمتعا :- وماذا عنك ؟ إلى أي فئة كنت تنتمين ؟
قالت بارتباك :- أنا ؟
:- لا .. لا تخبريني .. أظنني عرفت وفقا للطريقة التي اقتحمت بها مكتبي عارضة علي رشوتك تلك
احمر وجهها وهي تغلق صنبور الماء وتجفف يديها هامسة :- لا تذكرني بهذا .. فهو يخجلني
أدارها إليه ونظر إلى وجهها الجميل قائلا :- لا أستطيع أن أنسى .. فجمالك في تلك اللحظة التي انفجرت فيها غاضبة وأنت تهددينني وتتوعدينني لا ينسى
رغم كلامه فهي لم ترغب بتذكر تلك الأيام .. فتمتمت :- هل أعد بعض الشاي ؟ ..
لوى فمه بابتسامة عابثة وهو يقول :- سأعده أنا .. سأثبت لك ما يمكن لرجل ولد وفي فمه ملعقة من ذهب أن بفعل .. انتظريني أمام المدفأة وسألحق بك فورا
أطاعته على الفور وذهبت إلى غرفة الجلوس حيث جلست على السجادة الصغيرة وأخذت تتأمل النيران المشتعلة بشرود حتى جاء أخيرا حاملا كوبي الشاي وناولها أحدهما ثم جلس إلى جانبها يتأمل النار بدوره .. احتست الشاي بتلذذ ثم قالت مازحة :- لذيذ جدا بالنسبة لابن القصور المدلل
قال بمكر وهو يميل نحوها :- ألا يستحق ابن القصور قبلة شكر على الشاي اللذيذ ؟
مالت لتطبع قبلة خفيفة على وجنته إلا أنه أسرع يجذبها ويقبل فمها بقوة جعلتها تشهق ضاحكة وهي تحاول منع الشاي من الانسكاب :- محمود .. انتبه
لم يسمح لها بالابتعاد عنه .. بل أصر على أن تبقى ملتصقة به تنعم بدفء جسده فلم تمانع .. سألته فجأة بتردد :- محمود .. لقد أردت أن أسألك شيئا ..
:- اسألي ما شئت
تورد وجهها وهي تحارب ارتباكها وتقول :- عندما .. تلك الليلة .. عندما غبت لأيام عن البيت .. هل .. هل جئت إلى هنا ؟
نظر إليها وقد اختفت ابتسامته فجأة .. وأطل في عينيه ندم عميق وهو يقول :- نعم يا نانسي .. لقد جئت إلى هنا لأنني لم أستطع أن أعود و أواجهك بعد ما فعلت .. الطريقة التي عاملتك بها لم تكن إنسانية على الإطلاق .. لقد انجرفت خلف غضبي ورغبتي بك فلم أفكر حتى رأيت دموعك .. وأدركت إلى أي حد جرحت براءتك تلم الليلة
لم أستطع العودة وفرض وجودي عليك مجددا قبل أن تهدأي على الأقل .. أنا آسف للغاية على ما فعلت .. لن أستطيع ما حييت أن أعوضك عن الأذى الذي سببته لك
لمست ذقنه الذي بدأ ينمو وهي تهمس :- أنا من عليه الاعتذار لك يا محمود .. لقد كنت وقحة للغاية وتعمدت مرارا أن أثير غضبك . . وكأنني كنت أحثك على فعل ما فعلت دون أن أعرف .. أدرك بأنني تصرفت بطفولية في كثير من الأحيان ..وبتهور في أحيان أخرى .. كنت عنيدة وغبية ولم تكن أنت مضطرا لتحمل المزيد من فتاة سيئة الخلق مثلي
قبل جبينها قائلا برقة :- ما حدث قد حدث .. وسننساه معا إلى الأبد .. ما رأيك ؟
أومأت برأسها .. ثم وضعت كوبها الفارغ جانبا واندسا إلى جانبه أكثر وأغمضت عينيها وهي تصدر صوتا راضيا وكأنها قطة نعسانة فابتسم وهو يضمها إليه قائلا :- هل أنت سعيدة معي يا نانسي ؟
فتحت عينيها ونظرت إليه عندما أكمل :- لقد كان بإمكانك السفر مع خالك و ما كنت لأمنعك إن أصررت .. لا .. أظنني كنت لأمنعك بكل قوتي .. ولكنني لم أتخيل أن تبقي من تلقاء نفسك .. ظللت أقنع نفسي بأنك ربما رغم توتر علاقتنا تشعرين بالأمان معي .. وتحبين الإقامة في بيتي .. أما الآن وقد تحسنت علاقتنا فأنا أريد أن أعرف إن كنت سعيدة معي أم لا
تأملت وجهه الوسيم وقد أحست بحبه يطفو من كل حواسها .. قالت بدفء :- طبعا سعيدة يا محمود .. ربما لم نكن متفقين .. ولكنني دائما أحسست بالأمان معك .. منذ البداية ورغم إنكاري الشديد .. عندما لحقت بنا إلى منزل الشاطئ .. وجودك كان يطمئنني إلى وجود شخص يمكن الاعتماد عليه وقت الحاجة .. عندما توفيت أمي وقفت إلى جانبنا وكنت لنا سندا أنا ولينا وهو ما لن أنساه ابدا .. ربما كانت انهارت لينا لولا اهتمامك بها ورعايتك لها .. بعد زواجنا كنت صبورا للغاية معي بينما كنت أنا متحفزة دائما كالنمرة الشرسة .. وقفت إلى جانبي ودافعت عني في كل مناسبة وكأنني لست الزوجة التي تزوجتها كي تساعدها في محنتها بل ..
صمتت وهي تخفض عينيها فقال بهدوء :- هل تظنينني تزوجتك حقا لأنني أشفق عليك يا نانسي ؟ .. هل تصدقين بأن رجلا بالغا يربط نفسه بعد سنوات على الإضراب عن الزواج بامرأة فقط كي يساعدها في ظروفها الصعبة ؟ كان بإمكاني فعل أي شيء لمساعدتك .. كأن أجد لك وظيفة لدي أو أقرضك مبلغا من المال أو حتى أقدم لك النصح
قالت بحيرة وقلبها يخفق بقوة :- لماذا تزوجت بيس إذن ؟
نظر إلى عينيها المتسعتين بترقب وقال بهدوء ووضوح شديد :- لأنني أحبك يا نانسي .. تزوجت بك لأنني أحبك
دوت الكلمات في أذن نانسي وتردد صداها من حولها بينما أبت أن تصدقها وهي تحدق به مذهولة وتردد :- تحبني !
:- نعم .. أحبك .. ومنذ البداية .. منذ أول مرة رأيتك فيها .. أذكر أنك دخلت قاعة المحاضرات متأخرة وأنت ترتدين فستانا أزرقا بلون السماء .. شعرك كان منسدلا خلف ظهرك وقد انعكست أشعة الشمس على خصلاته الذهبية الناعمة .. أذكر جيدا بريق عينيك وأنت تطرقين الباب وتدخلين وكأنك تمتلكين المكان
قالت نانسي بارتباك :- لقد طردتني ذلك الصباح شر طردة من القاعة محذرا إياي من التأخر مجددا
ابتسم قائلا وهو يداعب شعرها الناعم :- ماذا كان علي أن أفعل عندما وجدت نفسي أسيرا لفتاة فاتنة .. نظرت إلي وكأنني قد ارتكبت جرما في الوقوف في وجهها .. كان علي مقاومة الاحساس الذي انتابني لأول مرة في حياتي .. إحساس بالانبهار والتوق إلى فتاة تبلغ نصف عمري تقريبا .. إلا أنها لا تقل قوة عن جبل شامخ
قالت مترددة :- لا بمكن أن تكون قد أحببتني في ذلك الوقت .. خاصة بعد الطريقة التي اقتحمت فيها مكتبك وكلامي الوقح معك
ابتسم قائلا :- لم يعجبني ما فعلته .. ولكنني أحببت قوتك وكبرياءك .. عشقت الطريقة التي واجهت بها الجميع بلا خوف بعد وفاة والدك .. لقد رغبت بأن أكون أنا من يساعدك في الحفاظ على شعلة الكرامة التي كانت لا تختفي أبدا من عينيك .. رغبت بأن أكون السند لك .. أن أحميك من أي أذى .. ذلك المساء عندما حاول جابر أذيتك كدت أجن لأن شخصا حقيرا كاد يدنس المرأة الأكثر سموا التي عرفتها في حياتي .. المرأة المحرمة كما كان جميع الطلاب ينادونك خلسة
احمر وجهها وهي تقول :- هل كنت تعرف هذا ؟
أطلق ضحكة قصيرة وهو يقول :- أعرف كل ما يتعلق بك .. لقد ظننت دائما بأن هذا اللقب يليق بك جدا .. فأنت كنت في نظري كالجوهرة بحاجة إلى عناية واهتمام .. أردت أن أكون أنا من يصونك ويحميك .. ويحافظ على بريقك الأخاذ النادر الوجود
تمتمت بذهول :- لم يكن لدي أي فكرة عن مشاعرك .. لماذا لم تخبرني بها من قبل ؟
:- وكيف لي أن أفعل وأنت تبدين دائما في وجودي كالقطة المتحفزة للقتال .. كنت متوترة وحذرة دائما .. كنت لا تخفين عني تذمرك وكراهيتك لي .. كيف سأصارحك بمشاعري في الوقت الذي أجبرتك فيه على الزواج مني بطرقي الملتوية وأنا أرى نفورك الواضح مني ..
همست بخفوت :- أنا آسفة يا محمود .. لقد سببت لك الكثير من الإزعاج والألم بتصرفاتي الحمقاء وعنادي
ضمت نفسها إليه فاحتواها بين ذراعيه بقوة سامحا لها بأن تقبله على شفتيه برقة ثم تسند رأسها على كتفه وتتأمل النار دون أن تصحو من ذهولها .. محمود يحبها .. محمود يحبها هي .. لا تستطيع أن تصدق .. إلا أنها تفعل .. فرجل كمحمود لن يقول شيئا لا يعنيه .. هو ليس كاذبا أو تافها ليفعل .. وقد سبق وحصل على ما يريده منها .. هل هي تحلم أم أنها حقا قد حصلت أخيرا على حبه الخالص
هل يمكن أن تجد السعادة الكاملة أخيرا ؟ .. لاحظت شروده وهو يتأمل النيران المتوهجة في الموقد فقالت بقلق :- ما الذي تفكر به يا محمود ؟
نظر إليها وابتسم على الفور قائلا :- أفكر بك .. وبأنك بين ذراعي أخيرا دون مقاومة يا نمرتي المتوحشة .. ترويضك كان صعبا .. إلا أنه يستحق العناء
قالت بغيظ مصطنع :- لا تكن متأكدا بأنك أنت من روضني .. قد أكون أنا من روضك يا أستاذ الجامعة البارد المتعالي
أطلق ضحكة عالية وهو يقترب منها هامسا أمام فمها :- ما رأيك بجولة ترويض ساخنة يا نمرتي خضراء العينين
دون أن ينتظر جوابها قبلها بحرارة أذابت عظامها .. ضمها إليه حتى أحست بصدره الصلب يضغط على صدرها بقوة .. تخللت أصابعه خصلات شعرها الكثة وتحركت شفتاه فوق فمها وكأنه يفرغ مشاعر قوية لم يعرف كيف يخرجها إلا بهذه الطريقة .. بدا لها لوهلة كالرجل العاجز المتمسك بقشة وهو يستجدي منها التجاوب بلمساته الحارة ابتعد عنها أخيرا وهو يقول لاهثا :- من الآن فصاعدا .. لن ترتدي قميصا مقفلا عندما نكون معا
حاولت السيطرة على نبضات قلبها وأنفاسها العنيفة بسبب هجومه السابق وهتفت :- ستفاجأ بالأشياء الصغيرة التي دستها حنان في الحقيبة وهي تظنني لا أراها .. أظنها ستعجبك
لوى فمه الجميل بابتسامة كثيرة وهو يقول :- وأنا أظن الحقيبة وما تحويه ستبقى كما هي خلال الأيام القادمة
أطلقت شهقة ضاحكة عندما حملها بين ذراعيه متجها بها نحو غرفة النوم .. فتح الباب دون أن ينزلها .. ودخل بها ليراقب بتلذذ ردة فعلها وهي تحدق حولها مذهولة في الغرفة التي أضاءتها عشرات الشموع العطرة الرائحة .. و السرير الضخم الذي فرش بوريقات الورود القانية الحمرة .. نظرت إلى زوجها الذي همس وهو يقفل الباب بقدمه ويقودها إلى السرير :- أهلا بك في الجنة يا حبيبتي


الفصل الثالث والعشرون

إلى الأرض
انتهت الأيام الثلاث وكأنها حلم .. وعادت نانسي مع محمود إلى البيت في مساء اليوم الرابع وهي تشعر بالحزن لانتهاء شهر العسل الرائع الذي قضته مع محمود .. لقد ظنت بأنها لا يمكن أن تحب محمود أكثر مما فعلت ولكنها كانت مخطئة .. الأيام التي قضياها معا أثبتت لها بأنها لا تحبه فحسب .. بل تعشقه بجنون .. كانت سعيدة جدا وهي تنام فوق صدره بعد أن عادا إلى البيت .. وأكثر سعادة عندما قال لها :- أنا أكثر منك أسفا لانتهاء عطلتنا يا عزيزتي .. أعدك برحلة أطول قريبا ..
صباح اليوم التالي احست بقبلته في وقت مبكر للغاية .. نظرت إليه بعينين ناعستين فرأته قد ارتدى ملابسه استعدادا للذهاب إلى العمل .. همست متذمرة :- هل أنت مضطر للذهاب ؟
ابتسم قائلا :- بقائي في البيت لن يطعمنا خبزا .. سأحاول ألا أتأخر .. وأنت عديني بأنك ستدرسين في غيابي
أومأت برأسها موافقة .. فقبل جبينها ثم غادر الغرفة .. فتقلبت برضا وهي تفكر ..أدرس !.. لا أعدك يا زوجي العزيز فأنا من سيطهو لك العشاء هذا المساء
استيقظت متأخرة .. وكان أول ما فعلته هو الذهاب إلى المطبخ لتناول إفطار سريع والتحدث ‘إلى الطاهية حول العشاء.. اتفقت معها على كل شيء ووضعت معها قائمة بما تحتاجه فرحبت تلك بمساهمة سيدة البيت في المطبخ وتشوقت لمساعدتها .
صعدت لرؤية الجدة وقد استبد بها الشوق للحديث معها والتماس بعض الحنان منها .. فرأتها تحت رحمة الممرضة التي انهمكت في حقنها بإبرة ما في ذراعها .. إلا أنها أحست على الفور بوجودها فقالت وهي تنزل أكمامها بصوت مشرق :- صباح الخير يا نانسي .. كم أنا سعيدة لسماع صوتك .. أرجو أن تكوني قد استمتعت برحلتك مع محمود
قالت نانسي بخجل :- هل أخبرك ؟
:- بالتأكيد .. يزورني محمود كل صباح مهما كان مستعجلا .. تعالي واجلسي إلى جانبي وأخبريني .. هل أعجبك منزل محمود الجبلي .. لم أذهب إليه قط رغم محاولاته الكثيرة لإقناعي .. فأنا لا أحتمل ساعات السفر بالسيارة
قالت نانسي باسمة :- خسارة .. لكنت أحببته كثيرا ..
اطل الدفء من عيني المرأة العجوز وهي تقول :- أنا سعيدة لأنكما قد تمكنتما من حل مشاكلكما أخيرا .. لا تسأليني عن الطريقة التي عرفت فيها .. فصوت محمود بدا مختلفا منذ أيام .. إنه سعيد ومرتاح البال وأنا لم أره بهذا الشكل منذ سنوات طويلة .. وأنت أيضا تبدين أكثر استرخاءا .. الحمدلله أنني قد عشت لأرى حفيدي سعيدا أخيرا
سالت دمعة ساخنة من عيني الجدة فأسرعت نانسي تقول بصوت أجش :- لا تبكي يا جدتي .. أعدك بأننا لن نتشاجر مجددا .. ومحمود سيظل سعيدا إلى الأبد
مسحت الجدة دمعتها قائلة :- أهذا يعني أنني سأحظى بأحفاد جدد قريبا
احمر وجه نانسي حرجا إذ أنها لم تفكر بأمر الأطفال مطلقا .. ولكنها تمتمت :- بالتأكيد
لم تعرف نانسي إلى أي حد تسرعت في إطلاق الوعود للجدة حتى ذهبت إلى غرفة المكتب حيث جلست خلف مكتب محمود الكبير في محاولة للدراسة إرضاءا لزوجها .. مر بها الوقت دون أن تدري وهي تتصفح الأوراق وتكتب الملاحظات .. وتحاول استيعاب الدروس المتراكمة .. حتى أنها لم تشعر بأنها لم تعد وحيدة إلا متأخرة
رفعت رأسها إلى ريم التي وقفت عند الباب تنظر إلى نانسي بكراهية شديدة أجفلت نانسي التي تماسكت وقالت بهدوء :- أهلا بك يا ريم .. لا يبدو مزاجك جيدا اليوم .. هل طار منك عريس جديد ؟
برق الحقد في عيني الفتاة وهي تتقدم إلى داخل ا لغرفة وتصفق الباب خلفها مما جعل نانسي تقفز من مقعدها متحفزة .. قالت ريم بغضب :- تظنين نفسك ذكية للغاية بانتصارك الباهت هذا .. ما أسهل أن تجعلي رجلا مجنونا بك فور ان تمنحيه ما يريد وتكونين له الساقطة التي يحتاجها .. إلا أن العبرة في احتفاظك بتعلقه يا عزيزتي
قالت نانسي متأففة :- ألا تملين من محاولاتك الفاشلة هذه في التفريق بيني وبين محمود .. انسي أمر الرجل .. فهو لا يريدك .. ل ا ي ر ي د ك .. كم من الصعب استيعاب هذه الكلمة
قالت ريم بغل متجاهلة كلام نانسي :- إلى أين أخذك هذه المرة ؟ هه .. إلى منزله الجبلي الصغير الحميم .. هل أعد لك وجبتك المفضلة .. وأشعل المدفأة ناشرا في المكان جوا رومانسيا كاذبا .. هل أشعل لك الشموع ونثر الورود فوق سرير الزوجية
تجمدت نانسي وهي تنظر إلى الحقد المطل من كل خلجات الفتاة .. فقالت بغضب :- هل تتجسسين علينا يا ريم ؟ كم دفعت للعائلة المسؤولة عن الاهتمام بالمنزل كي تعرفي بعقلك المريض ما حدث بالضبط بيني وبين محمود
ابتسمت ريم أخيرا بتشفي وهي تقول :- عن أي عائلة تتحدثين يا عزيزتي .. أنا لم أسأل أي أحد .. لقد عرفت بنفسي ما حدث بالضبط .. أتعرفين كيف ؟ لأنه تماما ما كان يفعله محمود لأجلي قديما عندما كان يأخذني إلى الكوخ دون علم عائلتي .. نعم يا عزيزتي .. لا ألومك على ذهولك .. فعلاقتي بمحمود كانت بهذا العمق .. لقد كنا حبيبين منذ الصغر .. وبعد نضوجنا لم يستطع إبعاد يديه عني كعادته كلما تواجدت أمامه امرأة جميلة .. لقد كنا نتقابل خارجا كلما أتيحت الفرصة لنا دون أن نشعر أحدا ممن حولنا .. التقينا في شقته في المدينة .. وفي المنزل الجبلي .. وفي مكتبه بالجامعة .. في أي مكان لا تصل إليه العيون ..
شحب وجه نانسي وكادت ساقاها تخوناها وهي تستند إلى طرف المكتب وتصيح بثورة :- أنت تكذبين .. تكذبين وبوقاحة أيضا .. لابد أنك مريضة نفسيا لتختلقي قصصا شائنة حول نفسك وحول ابن عمك .. محمود ما كان ليفعل هذا أبدا
ارتسمت ابتسامة مرارة على فم ريم وهي تقول :0 وهل أنت متأكدة ؟ هل تعرفين زوجك جيدا كما تتوهمين ؟ .. ألم تلاحظي بنفسك مدى شراهته الجنسية ورغبته التي لا تنتهي .. محمود لا يستطيع العيش بلا امرأة إلى جانبه .. لقد فطر على أن يحصل على ما يريد وقد كنت أنا لفترة طويلة ما أراد وسعى إليه .. هل تصدقين بأن رجل مثله قد يمنع عن نفسه فتاة جميلة تعيش تحت سقفه حتى لو كانت ابنة عمه .. حتى خلال زواجكما وتمنعك الواضح عنه .. وجد بي بديلا ومنفسا عن حاجاته .. أم أنك تظنينه ذهب إلى المنزل الجبلي أثناء غيابه وحيدا ؟؟؟؟ لقد كنت معه يا عزيزتي .. لقد لحقت به يوم رحيله ومكثت معه ليلة كاملة ..
تذكرت نانسي مذعورة .. هذا صحيح .. في اليوم التالي لرحيله رحلت ريم أيضا .. لقد قالت العمة منار بأنها ستمكث عند أقاربها لليلة واحدة .. هل كانت مع محمود ؟ لا .. مستحيل
قالت نانسي ب عنف :- أنت تكذبين .. إن كان كلامك صحيحا فلماذا تركك وتخلى عنك وتزوج بي .. لو كان يحبك ومازال يريدك لما تزوج بغيرك
قالت ريم وفي عينيها ألم كبير :- أنا لا أتحدث عن الحب يا عزيزتي .. محمود لا يعرف أبدا كيف يحب .. إنه يرغب فقط .. وقد تخلى عني حقا كما تقولين .. أتعلمين لماذا ؟ لأنني منحته ما يريد .. لأنني لم أمنع نفسي عنه كما كان علي أن أفعل .. لقد منحته كل شيء .. كل شيء .. ولهذا فقط تجدينني أجلس مثل الأرض البور في انتظار من يأخذها .. لأنني لم أعد متاحة لأي رجل آخر .. لقد أخذ محمود ما يريده ثم انسل من بين يدي خارجا عندما مل مني .. بكل بساطة وبكل هدوء .. توقف عن الخروج معي .. بالكاد صار يتحدث إلي .. وانتقل لمعاشرة فتاة أخرى تشكل له شيئا من التحدي .. هذا هو أسلوبه يا نانسي .. لقد انتقل من فتاة إلى أخرى أمام عيني بنفس الطريقة حتى سقط في شرك نسرين .. نسرين هي المرأة المناسبة له .. وهو ما أسكتني وجعلني أتوقف عن انتظاره .. فهي أكثر من أثار جنونه بجمالها وقوتها وأصلها العريق .. لقد كانت ندا له في كل شيء حتى أنه كاد يتزوجها .. الكل كان يعرف بأنه سيتزوجها في النهاية حتى جئت أنت
عاد الحقد يطل من عينيها ويشبع كلماتها التي سقطت فوق رأس نانسي المذهولة :- لقد جاء بك من لا مكان وجعلك زوجته .. هكذا بدون مقدمات .. كعادته لم يمنح نسرين أي توضيح .. لم يقطع علاقته بها حتى بشكل لائق .. لقد سمعت بنبأ زواجه من الآخرين كما كنت أراه بنفسي وهو يتنقل بين أذرع الأخريات .. أنت دون غيرك تمكنت من الحصول على لقب زوجة .. ما الذي فعلته حتى استحققت هذا اللقب .. هل تمنعت كثيرا .. هل وجدك من النوع الصعب التنازل ووجد بأن الزواج بك أسهل طريقة للحصول عليك .. هل كنت قطة شرسة كثيرة الخدش وأدخلت إلى حياته الحماسة والإثارة التي كان ينشدها ؟ ولكن إلى متى ؟ فها هو قد حصل على ما أراد .. وأصبحت طوع بنانه .. وانضممت شئت أم أبيت إلى قائمة فتوحاته .. لا تتوقعي أن يمنحك أي إشارة قبل أن يبدأ بغزوة جديدة يا عزيزتي .. ستسمعين بهذا بنفسك من مصادر أخرى كما فعلت العشرات
تراجعت نانسي وقد تجمعت دموع الصدمة في عينيها وهي غير قادرة على استيعاب ما تقوله ريم .. همست بذهول :- لماذا تخبرينني بهذا ؟ لماذا تقولين لي هذا الكلام البشع ؟
ارتجفت شفتا ريم وهي تقول :- لماذا ؟ .. لأنها الحقيقة .. لأنك ستعيشينها عاجلا أم آجلا .. أردت أن تعرفي ما ينتظرك مستقبلا .. أن تفهمي ما أحسه لأنه ستحسينه بنفسك في وقت قريب .. ستعرفين شعور المرأة العاشقة المنبوذة وهي ترى رجل حياتها يسعى خلف نساء أخريات بينما هي تخفي عارها عن أقرب الناس إليها غير قادرة على تفسير رفضها للزواج .. ستعرفين ما معنى أن تصبح المرأة كالكرسي القديم عديم الفائدة عندما يرميها رجلها في القبو كالنفاية عندما تنتفي حاجته إليها
كانت صوت ريم يتهدج أثناء كلامها ويزداد انفعالا .. حتى أجهشت في البكاء منهارة بعد انتهاء كلماتها فلم تستطع نانسي الصمود أكثر .. أسرعت تخرج من الغرفة كالمجنونة وتصعد إلى غرفتها مغلقة الباب ورائها وتستند إليه لاهثة .. لا .. ريم كاذبة .. إنها كاذبة كبيرة .. محمود يحبها هي .. ولن يفعل بها هذا أبدا
تذكرت دموع ريم وانهيارها .. لا يمكن أن يكون هذا تمثيلا .. تذكرت اللوم في نظرات نسرين وهي تحدثه في الحفلة .. تذكرت استنكار هديل عندما عرفت بزواجه وكأنه كان محجوزا لأخرى .. تذكرت نظراته التي افترست نسرين رغم وجودها على بعد أمتار عنه وكأنه لا يعترف بحرمة وجود زوجة له تقف إلى جانبه .. وكأن زواجه لا يعني أن يمنع نفسه عن المتع الأخرى المتاحة .. تذكرت الطريقة التي صبر بها عليها حتى نال ما أراد .. وما قاله لها عندما نفذ صبره .. إنه يعرف جيدا كيف يجعل فريسته أكثر شهية باللعب بها ومنحها كل الوقت قبل أن يأكلها .. وقد أكلها في لقمة واحدة .. كم كانت سعادته كبيرة عندما وجدها في انتظاره تفتح له ذراعيها مرحبة ومستسلمة أخيرا ..
كم سيمر من الوقت قبل أن يمل منها ومن استسلامها ويسعى خلف أخرى
استبد بها الذعر حتى كادت تصاب بالهستيريا .. لا .. محمود لها .. لها وحدها .. ستموت لو تخلى عنها أو خانها .. لن تحتمل الألم والعذاب وهي تسمع بغزواته بعيدا عن البيت
لم تعرف كم ظلت تقف ذاهلة مكانها حتى طرقت حنان الباب وهي تقول :- نانسي .. هل أنت هنا ؟ لقد أحضرت لك غداءا
فتحت الباب فذهلت حنان لشحوب وجهها .. وضعت الصينية على الطاولة واستدارت قائلة بقلق :- ما الأمر يا نانسي ؟ هل أنت مريضة ؟
نظرت نانسي إلى وجه حنان الطيب .. هل تخبرها بما عرفته من ريم ؟ هل تخيب أملها بعد أن أحست بالراحة أخيرا لسعادة الفتاة التي تربت إلى جانبها والتي تشعر بمسؤوليتها اتجاهها .. ابتلعت ريقها قائلة :- لا .. متعبة قليلا فحسب .. كما أنني لست جائعة .. سأنتظر حتى العشاء
قالت حنان بابتسامة ماكرة :- العشاء الذي تنوين إعداده لحبيب القلب ... هل يعرف الدكتور محمود أي حظ يناله بتنازل نانسي راشد شخصيا ودخولها إلى المطبخ خصيصا للطهي له
منحتها نانسي ابتسامة مرتعشة وهي تقول :- .. سيعرف قريبا
عندما بقيت وحدها ظلت تحوم في الغرفة كالمجنونة .. ماذا تفعل ؟ هل تواجهه ؟ هل ترمي في وجهه ما عرفته من ريم عنه ؟ .. وهل ستحتمل الحقيقة إن رماها في وجهها ؟ تذكرت اعترافه بتأثره بنسرين .. محمود لا يكذب .. ولن يتردد في تأكيد أقوال ريم .. لا .. لن تحتمل الحقيقة .. ولن تحتمل أيضا أن تمثل دور البلهاء فتمنحه ما يريد حتى يتركها أخيرا .. أمسكت رأسها وقد شعرت بالدوار من فرط التفكير .. ثم انتهى بها الأمر إلى البكاء كما فعلت ريم بالضبط ألما وحيرة
وفت بوعدها رغم ما تحس به من تشوش .. وأعدت وجبة لذيذة مع الطاهية حاولت أن تنسى خلال عملها فيها كل الواقع .. ولكنها تذكرته كله حين عاد محمود في المساء .. ودخل إلى المطبخ بحثا عنها ليجدها منهمكة في إعداد اللمسات الأخيرة للوجبة .. فوجئت العاملات من دخوله النادر الحدوث إلى المطبخ .. وراقبنه بجذل وهو يقبل رأس نانسي التي لم تشعر به إلا في تلك اللحظة .. قال برقة وهو ينظر إلى وجهها الذي لطخته بقعة من الصلصة :- الشائعات صحيحة إذن .. وزوجتي تطهو لي العشاء .. ألست محظوظا ؟
أحست بالغضب يطفو ليغطي على الألم .. ألن يحب أن يرى القطة المتوحشة وهي تتحول إلى دجاجة تجري وراءه كالمعاقة بحثا عن رضاه .. كبتت توترها وقالت :- من الأفضل أن تخرج كي لا تفسد المفاجأة
رغم محاولتها لإخفاء مشاعرها إلا أنه كان حساسا للغاية بالنسبة لمزاجها .. فعرف فورا بأن ثمة ما يشغلها فابتسم على الفور وقال :- حاضر يا سيدتي .. سأخرج وأنتظر بفارغ الصبر تذوق ما صنعته يداك
عندما خرج .. اسندت نانسي نفسها إلى طاولة المطبخ بتعاسة .. لكم يؤلمها قربه منها .. مجرد لمسه لها كفيل بجعل ساقيها تتحولان إلى هلام .. فكيف ستصمد إن لمسها مجددا
قدمت نجوى العشاء بينما اجتمعت العائلة كلها حول المائدة باستثناء ريم .. بررت العمة منار قائلة :- إنها متعبة اليوم .. الصداع لا يفارقها
قال محمود بقلق :- هل تحتاج إلى طبيب ؟
:- لا أظن .. بعد ليلة من النوم الجيد ستشفى تماما
نظرت نانسي إلى وجه زوجها الجالس إلى جانبها وهي تتساءل بتوتر عن سبب قلقه الشديد ... أهو قلق ا بن عم طبيعي .. أم قلق رجل على حبيبته السابقة
لاحظ نظراتها فمنحها ابتسامة دافئة لم تستطع الرد عليها .. بل غاصت في طبقها وأخذت تأكل وكأن حياتها متوقفة على الطبق الموجود أمامها .. قال العم طلال باسما :- أهنئك يا محمود .. زوجتك ليست جميلة فحسب .. بل طباخة ماهرة
قال محمود وهي يأكل دون أن تفارقها نظراته :- لا أحتاج إلى من يذكرني بـأنني محظوظ
لم تستجب نانسي هذه المرة أيضا إلى مداعبته .. بل لم تنظر إليه على الإطلاق .. وبعد العشاء صعدت إلى غرفتها متعللة بالتعب .. فلحق بها محمود بعد دقائق وقد كانت قد بدلت ملابسها واستعدت للنوم
قال بقلق وهو يلمس جبينها وهي ممددة فوق السرير :- هل أنت بخير ؟ ما الذي يؤلمك بالضبط ؟
أشاحت برأسها بعيدا عن يده قائلة بجفاف :- أحتاج فقط إلى أن أنام
تأملها بهدوء ثم قال متفحصا :- ما الأمر يا نانسي ؟ الأمر يتعدى التعب .. هناك ما يزعجك
قالت بنزق :- ما دمت تعرف هذا .. فلم لا تتركني أنام بسلام ..دون أن ترهقني بأسئلتك
أمسك بذقنها الدقيق وأجبرها على النظر إليه .. وقال بقسوة :- راقبي كلماتك جيدا يا نانسي عندما تخاطبينني
لمسته كادت تفقدها صوابها .. خلال لحظة تذكرت كل اللحظات الحلوة التي جمعت بينهما .. ثم تذكرت كل ما قالته لها ريم فشعرت بفؤادها يتمزق .. كيف يستطيع أي انسان أن يظهر كل هذا الحب لشخص دون أن يعنيه حقا .. كيف له أن يكون رقيقا معه بذلك الشكل ثم يقدم بكل قسوة على خيانته
فاضت دموعها رغما عنها .. وظهر حزنها الشديد وهي تهمس بصوت مرتجف :- أرجوك يا محمود .. أرجوك .. أريد فقط أن أنام
اختفت قسوته بنفس السرعة التي ظهرت بها .. وظهر التعاطف في عينيه الدافئتين وهو يربت على وجنتها قائلا :- سأتركك تنامين الليلة دون أن أزعجك إذن ..
راقبته وهو يخرج من الغرفة مغلقا الباب خلفه بهدوء .. فانزوت نانسي حول نفسها تبكي بصمت وهي تهمس بألم :- ماذا أفعل يا إلهي .. ماذا أفعل ؟
استمرت نانسي في تجاهل محمود ومنعه من لمسها لعدة أيام بعد ذلك .. في كل مرة كانت تمنحه أعذارا مختلفة حتى طفح الكيل به ذات ليلة فانفجر بها قائلا :- إياك أن تستعملي إحدى حججك الواهية يا نانسي .. أعرف بأن هناك ما يشغلك ويجعلك تتمردين وسوف تخبرينني به الآن
قالت بوقاحة وهي تتملص منه كالعادة وتتراجع بعيدا عنه وتقف أمامه متحدية :- كم أنت مغرور .. لماذا لا تقول بأنني وبكل بساطة لم أعد أطيق لمستك .. وأنني أنفر في كل مرة تقترب فيها مني ؟
قال محاولا كبت غضبه :- لأنني أعرف بأن هذا غير صحيح .. منذ أيام كنت تذوبين بين ذراعي عندما كنا وحيدين في المنزل الجبلي .. هل أنت غاضبة لأنك كنت راغبة في بقائنا هناك أكثر ؟ لقد سبق ووعدتك بأنني سأعوض عليك لاحقا
قالت بانزعاج واضح :- بالله عليك .. لا أحتمل حتى مجرد التفكير ببقائي معك في مكان واحد .. فكيف سأفكر بالعودة إلى هناك بصحبتك
لم يعد قادرا على احتمال غضبه فسحبها إليه متجاهلا مقاومتها الشرسة وقال وهو يكبل حركتها :- ستتكلمين الآن وتخبرينني بالضبط عما يزعجك .. لقد أوضحت لي سابقا بأن المنزل الجبلي قد أعجبك وبدوت سعيدة جدا عندما كنا هناك .. ولن أتركك حتى تخبرينني بما غيرك
حاولت ضربه بقدمها فمنعها بسحبها نحوه أكثر .. وعندما أحست بحرارة صدره وصلابته أحست بنفسها تكاد تجن من مجرد التفكير بريم في الوضع ذاته فصرخت فجأة بغضب :- بكل بساطة أنا لن أعود إلى مكان يكاد ينفجر من حرارة ذكريات نساء أخريات
عبس قائلا بغضب :- هل أنت مجنونة ؟ من أين أتيت بهذه الترهات ؟ عن أي نساء تتحدثين
سمح لها فجأة بالابتعاد فأصلحت قميص نومها المحتشم وهي تنظر إليه تكاد تنفجر غيظا من كذبه الصريح .. فصاحت به كالمجنونة :- هل تنكر بأن امرأة غيري قد ذهبت إلى ذلك المكان معك يا محمود ؟ دعني أطرح السؤال بطريقة أخرى .. عندما تركت البيت وذهبت إلى هناك ل3 أيام كاملة .. هل تستطيع القول بصدق بأنك كنت وحيدا طيلة هذه الأيام الثلاثة ؟
لاحظت تلك النظرة التي تجمدت في عينيه .. والشحوب الذي علا وجهه وهو يقول :- ما الذي قالته لك ريم بالضبط؟
أحست نانسي وكأن صفعة قاسية قد سقطت على وجهها .. وطعنة نجلاء اخترقت صدرها بلا رحمة .. لقد كان معها .. لقد اعترف الآن بشكل غير مباشر بأنه قد كان معها ..
تراجعت وهي تهز رأسها وتحاول جاهدة منع الدموع التي تجمعت داخل عينيها من الهرب .. قالت كالمذهولة :- يا إلهي .. أنا حتى لا أستطيع النظر إليك .. لا أستطيع حتى البقاء في مكان واحد معك
اندفعت نحو الباب فأسرع يعترض طريقها قائلا بتوتر :- إلى أين تذهبين ؟
انكمشت رافضة أن يلمسها بأي طريقة فلاحظ جيدا ردة فعلها وهي تقول :- سأنام في غرفة لينا .. لا أريد النوم معك تحت سقف واحد
زمجر قائلا من بين أسنانه :- أنت لن تتحركي من هنا حتى نتحدث يا نانسي
حاولت تجاوزه فأمسك بها .. قاومته وهي تصرخ كالمجنونة بينما حملها هو إلى السرير ورماها فوقه بقسوة .. وعندما حاولت القفز عنه مجددا عاد يمسك بها ويكبل يديها تحت ثقله فنظرت إلى وجهه الغاضب وصاحت بثورة حاقدة :- أنا أكرهك يا محمود فاضل .. أكرهك وأتمنى لو أنني لم أعرفك يوما .. ولن أنام معك في غرفة واحدة ولو كلفني هذا حياتي
قال بلهجة مخيفة :- احذري ما تقولينه يا نانسي لأنني قد أدفعك لتمني الموت حقا إن استمريت بالتصرف كالمجنونة .. أنت لن تغادري هذه الغرفة .. ولن تنامي في سرير آخر .. وأنا لن أجري وراءك مجددا كما أعتدت أن أفعل منذ قابلتك .. إن رفضت الاستماع إلي فإنني لن أرغمك .. ولكنني أقسم بأنني لن أكتفي بضربك إن قللت يوما من احترامي أو أسأت إلي أمام الآخرين .. أتفهمين ما أقول ؟
التقت عيناهما في نظرات تحدي قوية كادت تفجر الغرفة بما فيها .. نظر إلى وجهها المحمر من الغضب .. والنيران الخضرا في عينيها الجميلتين التين نطقتا بالكراهية الخالصة .. فأخذ نفسا عنيفا وهو يقول :- يا إلهي .. أظنني أنا لن أستطيع البقاء معك في مكان واحد
تركها فجأة .. وغادر الغرفة كالعاصفة دون أن يقول أي كلمة إضافية ..
أما نانسي .. وكأنه صار جزءا من روتين ما قبل النوم بالنسبة إليها .. دست رأسها في وسادتها الوثيرة .. وأجهشت في البكاء


الفصل الرابع والعشرون

نظرت نانسي بشرود عبر نافذة السيارة في طريقها إلى الجامعة .. وهي تشعر بنفسها مستنزفة تماما هذه الأيام .. منذ مواجهة ريم لها بالحقائق عن محمود .. وشجارها معه .. وهي تعيش ولا تعيش في ذلك المنزل الكئيب .. حتى مكالمات لينا الفرحة لم تساهم في منحها البهجة والسرور
وكيف لها أن تفرح .. بتعامل محمود البارد معها وكأنها هي المذنبة .. كان يخرج صباحا قبل استيقاظها ولا يعود حتى وقت متأخر .. بالكاد كان يتكلم معها أو حتى ينظر إليها .. وهي كانت تشعر به كل ليلة عندما يعود إلى البيت .. ويندس إلى جوارها في السرير حاسبا إياها نائمة .. بينما هي على وعي كامل بكل تحركاته وحتى بأنفاسه وهو يتقلب إلى جوارها قبل أن يستغرق في النوم .. لم تعد تحب الخروج من غرفتها .. وبالكاد كانت تتناول الطعام الذي تحضره لها حنان .. كانت غاضبة .. وحزينة .. ومتألمة من الشكوك التي زرعتها فيها ريم بكلامها .. ريم التي توقفت فجأة عن التحدث مع نانسي ومحاولاتها الحثيثة في إفساد حياتها .. وكأنها قد أدت رسالتها ولم تعد بحاجة لفعل المزيد .. قد تكون كاذبة .. وقد يكون كل ما قالته مجرد تلفيق لا أساس له من الصحة دافعه الحقد والحسد .. وقد يكون واقعا
كيف ستعرف نانسي الحقيقة بعد أن تخلت عن فرصة الاستماع إلى محمود .. محمود الذي تخلى تماما عن محاولاته لإرضائها
وكأن شهر العسل القصير الذي قضياه معا لم يحدث قط .. وكأنه لم يعترف لها بحبه يوما .. هل خسرت محمود نهائيا هذه المرة ؟ .. نزلت من السيارة أمام بوابة الجامعة .. وراقبت مأمون وهو يبتعد مانعة نفسها من اللحاق به وأخذها معه .. فمن المفترض بها أن تعود برفقة محمود اليوم .. كيف ستراه .. وترافقه .. وتشاركه السيارة .. كيف ستنظر إلى وجهه وهي ترى بعين الخيال ريم بين ذراعيه .. تنعم بما نعمت به هي من العاطفة ؟
لم تستطع حضور محاضرته .. لم تستطع النظر إليه أو تلقي نظراته الباردة كلما التفت نحوها .. لم تستطع رؤية زميلاتها المهووسات به يلتهمنه بأنظارهن متجاهلات كونه متزوج .. وكأن زواجه يشكل فارقا بالنسبة إليه
جلست في الكافيتيريا باكتئاب تنتظر مرور الوقت .. ولم تشعر إلا بماهر يطل عليها برفقة ندى قائلا بقلق :- نانسي .. لقد انتظرناك طويلا .. لماذا لم تحضري المحاضرة ؟
رفعت نظرها الذابل إليه وهي تتمتم :- أشعر بصداع شديد .. ففضلت البقاء هنا
جلس كما جلست ندى التي قالت :- هل تحتاجين إلى أي شيء ؟ ربما من الأفضل أن تعودي إلى البيت
قال ماهر بحزم :- سأوصلك .. هيا بنا
هزت رأسها بأسف قائلة :- لا أستطيع .. سأقابل محمود بعد قليل لنعود معا
وقفت قائلة وهي تحاول أن تطمئنهما بابتسامتها :- سأكون بخير .. لا تقلقا
لم تفتها نظرة ماهر المتشككة .. فهو يشعر منذ فترة بأنها تعاني بصمت رافضة مشاركة أحد في معاناتها .. كالعادة كان ماهر أفضل من يفهما في العالم .. أما كان وضعها أسهل لو أنها وقعت في حبه هو ؟
.. جرت قدميها جرا إلى الخارج حيث رأتها مجموعة من زميلاتها .. ألقين عليها التحية وبدأن بسؤالها عن حياتها بفضول .. قالت إحدى صديقاتها :- من المثير أن تكون الفتاة زوجة لرجل كالدكتور محمود .. أخبريني يا نانسي .. هل تقيمين كما يقول البعض في قصر منيف يعود لعائلته ؟.. كم أنت محظوظة
أسرعت أخرى تقول بخبث :- ومن يبالي بالمنزل بحق الله .. أراهن على أنه عاشق من الطراز الأول .. أليس كذلك يا نانسي ؟ هيا .. لا تخفي الأمر علينا
آخر ما تريد نانسي استعادته هو ذكرى حب محمود العاصف .. فتمتمت معتذرة منهن بهدوء .. وتركتهن متجهة نحو مكتب زوجها .. صعدت الدرج ببطء .. وذبول كالشاة المساقة إلى الذبح .. سمعت صدى الأصوات الصادر من مكتبه قبل حتى أن تصل إليه .. كان محمود هناك .. يجلس خلف مكتبه بوقار وقد أحاطت به ثلاث من زميلاتها تطرحن عليه الأسئلة المختلفة .. بينما يجيب هو عنها بهدوء .. وقفت نانسي بعيدا وهي تراقب نظرات الفتيات الولهى المعلقة به .. بينما بدا هو غافلا تماما عن هوس طالباته به .. وحدها نانسي أحست باحمرار وجوه الفتيات تأثرا عندما ضحك لتعليق إحداهن .. عندها .. لم تستطع التحمل أكثر .. وقد تغلب غضبها وغيرتها على حزنها .. فدخلت إلى المكان بغطرسة تليق بنانسي راشد .. ووقفت تنظر إلى المشهد الدائر أمامها ببرود شديد .. فور أن رأينها الفتيات .. ارتسمت نظرات الحسد والحقد على وجوههن وهن يعتذرن من محمود ويغادرن المكتب .. بينما وقف هو متناولا معطفه قائلا ببرود يماثل نظراتها :- جاهزة ؟
أومأت برأسها بتوتر وهي تراقبه يحمل حقيبته ويقفل باب المكتب فور خروجهما .. سارت إلى جانبه بصمت عبر أروقة الكلية أمام أنظار الجميع .. رغم كل شيء .. لم تستطع منع إحساسها بالفخر لكونه زوجها هي .. كما لم تستطع منع نفسها من الاعتراف بالأمان الذي تحسه معه .. إلى جواره هي آمنة .. ولن يصلها أحد على الإطلاق .. ولن يجرؤ أحد على أذيتها .. تكره هذا الإحساس بحاجتها الماسة إليه .. وكأنها لن تستطيع العيش بدونه لحظة واحدة .. هل هي ضعيفة إلى هذا الحد ؟ إلى حد الصمت على إذلال زوجها وخيانته لها بسبب حبها الشديد له ؟
في سيارته الفارهة .. قال ما إن انطلق بالسيارة ببرود :- لماذا لم تحضري المحاضرة اليوم ؟ أين كنت تتسكعين بدلا من الاستماع إلى نقاط مهمة قد تنفعك في الامتحان ؟
تمتمت بجفاف :- لقد شعرت بصداع مفاجئ
قال بجفاف :- صداع .. أم أنك كنت تلهين مع زملاءك
قالت بنزق :- لقد رأيت ماهر في المحاضرة اليوم .. وهذا يعني أنني لم أكن أتسكع مع أحد
انقبضت أصابعه حول المقود وقد أغضبته إشارتها إلى مدى عمق علاقتها مع ماهر .. قال بصرامة :- لا تتوقعي مني المساعدة عندما تجدين نفسم في مأزق مع قرب الامتحانات وأنت عاجزة عن دراسة ما فاتك
قالت بغل وصورة الفتيات الهائمات المحيطات به لا تفارق خيالها :- اطمئن .. لن أطلب منك المساعدة .. فقد رأيت بنفسي في مكتبك ما تقوم به من أعمال خيرية
نظر إليها بطرف عينه وهو يقول بصرامة :- شعورك بالغيرة ليست مبرر أبدا لوقاحتك يا نانسي .. احذري
أغضبها تخمينه الصحيح لشعورها القاتل بالغيرة .. فمطت شفتيها قائلة بازدراء :- أنا اغار ؟ وممن ؟ لا يا دكتور محمود .. يمكنك أن تحظى بتالكم الذي تريده من المعجبات الحمقاوات والعشيقات الذائبات في هواك .. انا لا أهتم لو عاشرت نصف نساء المدينة .. النساء اللاتي يكتفين بانتظار إشارتك عن بعد استعدادا لتلبية رغباتك .. يتمنين أن ينظرن ولو من بعيد إلى منزلك المقدس المحرم عليهن .. ذلك المنزل الكئيب الغارق في الكراهية والحقد .. والذي أكره كل زاوية فيه .. يحسدنني على نيل شرف اختيارك لي كزوجة غير عارفات للحقيقة المرة وراء استاذ الجامعة المحترم
أطبق فمه بقوة كابتا ردا غاضبا على استفزازها .. اكتفى بأن قال من بين أسنانه :- إياك ان تتكلمي عن منزلي بتلك الطريقة يا نانسي.. فأنت لا تساوين قيمة أصغر حجر فيه .. وما كنت تستحقين أبدا ان أدخلك إليه كزوجة لي على الإطلاق
قالت بحدة :- أرجوك .. وكأنك حقا تعاملني كزوجة .. أنت تعاملني كما تعامل عشيقاتك الكثيرات المستميتات في حبك ناسيا شيئا واحدا .. وهو أنني لم أرغب يوما بأن أكون زوجتك .. وأنني أكره ذلك اليوم الذي اقترنت فيه بك .. وربما كنت أحسد تلك الفتيات اللاتي حرمن من معرفة أي انسان أناني وانتهازي انت .. الفتيات اللاتي كنت تكتفي بلقائهن العابر في شقتك تلك التي تأبى ذكرها .. شقة العزوبية التي ما زالت تقوم بمهامها رغم زواجك مني
بالكاد تمكن محمود من تفادي سيارة اعترضت طريقه قادمة من شارع جانبي .. تأكدت نانسي من إحكام حزام الامان حولها وثد تذكرت بان محمود يتجنب دائما الجدال اثناء القيادة .. وقد عرفت الآن السبب .. فغضبه الشديد في هذه اللحظة يكاد يدمر ما تبقى من سيطرة لديه على نفسه .. حتى على سيارته .. قال من بين أسنانه وهو ينظر أمامه :- ألا أعاملك كزوجة يا نانسي ؟ ربما كنت حقا مخطئا منذ البداية عندما جعلت منك زوجة لي دون غيرك من النساء.. كان من الأفضل ان أختار الطريق الأسهل واحصل على ما أريده منك مقابل مساعدتي لك .. وأخرجتك من حياتي إلى الأبد
طعنتها كلماته في الصميم .. وجعلتها تنظر إليه قائلة بوحشية :- أتمنى لو انك فعلت .. لما كنت اضطررت للعيش معك وتحمل نزواتك ..
كلماتها الوقحة كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير .. قال بغضب عاصف :- احذري مما تتمنينه يا نانسي

يتبع ,,,,

👇👇👇
تعليقات
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -