بارت من

رواية ملاك الحب -6

رواية ملاك الحب - غرام

رواية ملاك الحب -6

هنا زمت نور شفتيها .. كي لا تفلت السيطرة على أعصابها .. فلقد بدأت تشعر بمدى سخافة هذا الموقف الذي وضعت فيه .. ولكنها استمعت إلى مشكلته والتي لا تستطيع عدها كمشكله .. فيبدو أنها مجرد عذر .. بدليل هذا الوقت الذي استغرقه في تأليف تلك المشكلة .. ولكنها أجابته بكل تهذيب .. ولكن بكلمات مقتضبه أيضا ثم سحبت نفسها بسرعة دون أن تنتظر رد أحدهما عليها .
دخلت غرفتها وهي تشعر بأن الدماء تغلي في عروقها .. إنها ليست غبية لكي يخفى عليها مقصد الخال نبيل من كل هذة التمثيلية الهوجاء .. خلعت عبائتها وحجابها ورمتهما على الكرسي .. وكأنها تصفعه وتلقي عليه باللوم لما حدث معها .. كم تود لو واجهت الملام الحقيقي .. لم يطل إنتظارها وسرعان ما سمعت صوت الخال نبيل يودع ذلك الشاب .. فخرجت عند ذلك لتواجهه .. إبتسم لها والفرحه تكلل وجهه .. وأخذها من يدها نحو حجرة والدتها .. ثم أجلسها قائلا :
- مبروك .
أجابته الأم بفتور :
- على ماذا ؟.
- لقد تقدم لنور عريس .
قبل أن تردف والدتها بشيء .. قاطعتها هي بحدة محاولة تصنع الفرح :
- آه .. حقا .. يبدو أنني نلت إعجابه ؟.
أجابها بحماس بالغ :
- جدا .
- وهل سيدفع الكثير ؟.
إتسعت عينيه بسعادة .. وتحدث بفخر :
- نعم .. وهل تعتقدين بأنك رخيصة بالنسبة لي .
هنا تدخلت الأم وهي تحس أن بينهما شيء لا تفهمه :
- ما الذي تتحدثان عنه .
إلتفت إليها الخال نبيل .. وبداء يشرح لها بإهتمام :
- صديقي هذا شاب في مقتبل العمر .. وهو يعمل مع والده في التجارة .. كما أنه الوريث الوحيد لكل الأملاك .. ولقد جاء اليوم لخطبة إبنتنا نور .
وقفت نور بشكل مباغث .. وهي تقول بصوت قاسي :
- أولا أنا لست ابنتك ولن أكون ابدا .. ثانيا لن أوافق على هذة الزيجة .
تسائلت الأم بقلق :
- أوليس شابا خلوقا يا نبيل ؟.
أجابها بسرعة .. ودون تفكير :
- نعم .. نعم .
هنا حولت الأم نظرها لابنتها التي تبشر ملامحها بنوبة بكاء :
- إذا لماذا ترفضينه يا نور ؟.
- لأنني .. لأنني ..
- لأنك ماذا .
كانت نور تجاهد نفسها حتى تتغلب على تلك المشاعر التي تتصارع بداخلها والتي تحس بأنها أكبر من قدرتها على الإحتمال .. فيكفيها ما تعانيه من تشوش احاسيسها .. كانت تقف بعصبية وهي تضغط على أناملها وكأنها تحاول إعتصار مبرر مقبول لرفضها .. ثم نطقت أخيرا :
- لأنني لست سلعة أباع لمن يدفع اكثر .
رد عليها الخال بلطف .. وكأنه يغري طفلة صغيرة :
- إنه سيجعلك تعيشين مثل الأمراء .. وستستطيعين أن تقيمي عرسك في افخم الفنادق يا نور .. ولن تحتاجي معه لأي شيء .. حتى يمكنك أن تتركي الدراسة فما حاجتك للعمل .. وأنت زوجة شاب غني مثله .
كانت نور تشعر بأن معدتها تكاد تنقلب .. فهي تكرة مثل هذا التفكير المريض :
- وهل تعتقد أن هذا كفيل بإقناعي ؟.
- وماذا تريدين إذا ؟.
- ومن قال بأنني طلبت منك شيء ؟
تحدثت الأم وهي تمسك بيدها .. وتحاول تهدئتها و اجلاسها :
- نور .. حبيبتي .. لما لا تدعينا نناقش الموضوع بهدوء .. فنحن ايضا لن نرميك يا ابنتي .. ومؤكد اننا سنتأكد من حسن أخلاقه .
قاطعها الخال نبيل :
- ليس هنالك داعي .. فلقد قمت أنا بذلك مسبقا ..
نظرت له نور بحدة :
- أنت لن تستطيع إجباري على شيء .
هنا إرتفع صوت الخال نبيل :
- بل أستطيع .. إن كنت لا تدركين مصلحتك .
- إن مصلحتي ليست مع شاب غني يشعرني بأنني قطعة اشتراها بنقوده .. لا تملك حتى حق إمتلاكها لنفسها .
زفر ساخرا .. وقد عاوده أسلوبه المستفز بالحديث معها :
- وأين هي مصلحتك ؟.. مع موظف بسيط مثل والدك ؟.
أغمضت عينيا محاولة تمالك نفسها ثم فتحتهما .. وهي ترفع حاجبها بتحدي ظاهر :
- نعم .. ما دمت سأعيش بكرامة معه .. وسيظل يشعرني بكياني مثلما كان يفعل والدي ..
ألقت نور بتلك الكلمات عليه وخرجت قبل أن تفقد أعصابها أكثر من ذلك .. ورمت بنفسها على سريرها .. ثم أفلتت تلك الدموع الساخنة لتبلل وسادتها .. بعد أن ناضلت طويلا للتسيطر عليهم ..
هل يستطيع الخال نبيل إجبارها على ذلك ..
هل يملك من خبث النفس ما يمكنه من تدمير مستقبلها ..
بدأت تتخيل نفسها بتلك الحياة التي رسمتها كلماته ..
فتاة شابة لم تكمل تعليمها الجامعي .. لا تُعرف إلا باسم زوجها الغني .. الذي تعيش معه حياة مترفة خالية من الأحاسيس .. تملاء أيامهما أعمال روتينية تافهة .. ولا تبربطهما إلا حجرة المعيشة الزوجية .. والأطفال ..
ضغطت نور على الوسادة التي كانت تحضنها بقبضة يديها .. وهي تحس بأن قلبها يحترق من شدة الألم ..
رن هاتفها .. وكانت لا تشعر برغبة في الرد .. لولا أن رأت اسم صديقتها الحنونة رهف .. فسارعت بالإجابة بصوتها المهزوز من أثار البكاء .. روع رهف حالها وتساءلت بقلق :
- حبيبتي نور .. ما بك .. هل حدث لكم مكروه ؟.
- رهف أنقذيني .
لم تستطع نور أن تنطق بأكثر من ذلك .. وانفجرت باكية .. حاولت رهف تهدئتها وتهدئة نفسها أيضا .. وطردت تلك الأفكار المتشائمة التي تغزوا تفكيرها فهي لم تستطع إستنتاج ما يضايق صدقتها المرهفة المشاعر :
- نور هل لك أن تهدئي لتطمئنينني ؟.
حاولت نور أن تجعل صوتها مفهوما وحدثت رهف بكل شي .. فعادت الصديقة تتسائل بعطف :
- لماذا ترفضينه يا نور ؟.
- حتى أنت يا رهف ؟.
أجابتها مربررة كمن ينفي تهمة عنه :
- أنا لا أثق بالخال نبيل .. ولكن ربما هذا الشاب مناسبا لك بالفعل ..
- أنا لا أود أن أرتبط به ؟.
سكتت رهف .. ولم تود أن تزيد من توتر صديقتها :
- حسنا .. سنتحدث فيما بعد .. لا تتعبي نفسك الآن .. وحاولي أن ترتاحي .
نفذت نور أوامر رهف فلقد كانت تشعر بالإجهاد الشديد .. وفي المساء جاءت والدتها متسلله إلى حجرتها .. تنهدت نور بعد أن فهمت نيتها .
جلست حياه بجانبها واحتضنتها بحب بالغ .. ثم قبلتها على رأسها وهي لا تزال تحتضنها وتهزها كالأطفال :
- حبيبتي .. لماذا انفعلت بذلك الشكل ؟.
- ألا تدركين ما قام به الخال نبيل يا أمي ؟.
- وما الذي قام به ؟.

إبتعدت نور عن والدتها وهي ترفع حاجبيها بدهشة :

- لقد احضر الشاب حتى يتفرج علي .. حتى يرى إن كنت سأنال إعجابه أم لا ..
تنهدت الأم .. ثم أجابت محاولة تبرر عمل زوجها الغير مبرر :
- ولكنه أعجب بك ؟.
- وهل هذا جواب مقنع بالنسبة لك ؟.
- لماذا تحاولين قطع نصيبك يا حبيبتي ؟..
ردت عليها بعناد :
- أنا لا أزال صغيرة .. كما أود أن أكمل دراستي .
- تستطيعين أن تشترطي عليه ذلك .. حتى يدعك تكملين الدراسة بعد الزواج .
- أنا لا أريده يا أمي ؟.
كانت حياه ستهم بالحديث .. عندما وقفت نور مقاطعة لها :
- قولي أنني أصبحت حملا ثقيلا عليكما .. وأنكما تودان التخلص مني ..
عقدت الدهشة لسان والدتها .. وسارعت نور بإرتداء عباءتها وحجابها .. فتساءلت الأم بقلق :
- إلى أين يا نور .. أنا لم أقل كلاما يزعجك يا حبيبتي .
أفلتت نور دموعها وهي لا تقوى على مواجهة نظرات والدتها القلقة .. فهي لم تتعود أن تكون سببا في حزنها :
- بل أنا من يزعجك بكلامي .
أجابتها الأم برقة واللوعة بادية في نبرتها :
- لا تقولي مثل هذا الكلام يا نور .. أنت ابنتي .. أنت قطعة مني .. بل أنت الشيء الوحيد الذي يسيرني في هذة الحياة ..
تدفقت دموع أخرى على خدي نور .. وهي تتوسل لوالدتها :
- سامحيني يا أمي .. ولكنني يجب أن أخرج فأنا أشعر بأنني سأختنق .
- ألى أين ستذهبين ؟.
فكرت نور ثم قالت مطمئنة وهي تمسح دموعها :
- إلى حسام .
أشاع اسم حسام السكينة في قلب والدتها .. وكانت هي تدرك ذلك عندما نطقت باسمه .. كما أنها لم تكذب .. فهي حقا بحاجة لمنقذها الوحيد ..
خرجت من البيت بعد أن جففت دموعها .. ولم تشعر بالوقت ولا بالطريق الذي يبعد بيتها عن عيادة حسام .. ففكرها كان مشغولا ولم يسمح لها بتتمييز ما يمر حولها ..
لاحظت الخاله نظرة توترها .. فسارعت في إجلاسها على إحدى المقاعد بإهتمام صادق .. وحدثتها مطمئنة :
- لن تنتظري كثيرا .. فلم يعد يوجد سوى مريض واحد لدى الدكتور حسام غير الذي بالداخل ..
هزت نور رأسها بإستسلام .. مما جعل الخالة نظرة تشفق عليها وتردف قائلة :
- أتودين أن أخبره بحضورك ؟.
سارعت تجيبها وهي تحاول أن ترسم إبتسامة مطمئنة على شفتيها .. ولكن يبدوا بأنها زادت من قلق الخالة نظرة عليها :
- لا .. لاداعي لذلك .. سأكتفي بالإنتظار .
- حسنا يا حبيبتي .
كانت نور تجلس شاردة وعندما فتح باب حجرة حسام .. وخرج منها ذلك الطفل اللطيف .. وهو ينط أمام والدته بفرح .. لم تستطع منع إبتسامة داهمة شفتيها المطبقتين .. وظلت تتابع حركاته الشقية بفرحة صادقة وكأنها تتمنى بداخلها أن تعود إلى هذة المرحلة التي يعيشها .. مرحلة النقاء واللامبالة .. مرحله اللاهموم .. كم تحن إلى تلك الأيام .. أيام أن كان والدها موجودا .. يغمرها بكل الحنان والحب الذي تحتاجه .. تلك الأيام التي كان حضن والدتها لا يفرقها أبدا .. وكانت وسادتها الوحيدة عند النوم هما ذراعيها النعمين .. لم تشعر نور بتلك الدموع التي إنسابت منها إلى عندما جائها ذلك الصوت الدافئ الذي لطالما إنتشلها من أحزانها .. كان مرتاعا بعض الشيء :
- نور .. ما بك يا صغيرتي ؟.
رفعت عينيها دون وعي منها .. ثم هزت رأسها بسرعة متداركه الموقف .. وهي تمسح دموعها وتبتسم بسخرية من نفسها .. ثم أردفت بعد أن وقفت أمامه :
- كم أنا سخيفة ؟.
لم تفلح كلمتها ببث الإطمئنان إلى قلبه المحب لها .. وعاد يحدثها بحنانه المعهود :
- هل أنت بخير صغيرتي ؟.
أومأت بعينيها وقد أشفقت عليه :
- نعم يا حسام .. لا تقلق .
أدخلها إلى حجرته وهو يستحثها قائلا :
- إذا ما الذي يبكيك ؟.
- مجرد مشكلة بسيطة .. كالمعتاد .
صمت حسام وهو يرهف السمع لها .. فعاودها الإكتئاب وهي تخبره .. كمن ينقل خبر نعي عزيز :
- لقد تقدم لي عريس .
- ماذا ؟.
أطلق حسام سؤاله بنبرة قريبة للصراخ .. ولكنه تمالك نفسه .. وتساءل بإهتمام بعد أن رأى ملامح الإستغراب من تصرفه تكلل ملامحها الطفولية :
- هل هذا ما يزعجك إذا ؟.
- نعم .
عاود أسئلته .. بإحساس من ينتظر حكما بالإعدام :
- وهل وافقت ؟.
- بالطبع لا .
اخذ حسام نفسا عميقا .. ولكنه ظل يتفحصها بعينيه .. وأدركت هي أن هنالك شيء غريب في نظراته شيء لم تستطيع فهمه بعد :
- وما هو سبب رفضك ؟.
أجابت ببساطة محاولة اقناعه بإجابتها :
- لأنني لا أعرفه .
عادت تقول بعد أن أحست بأن إجابتها ليست كافية :
- كما أنني لا أحبه ؟.
تسائل بإستغراب :
- وهل شرط أن ترتبطي بشخص تحبينه ؟.
- لا .. ولكن على الأقل .. أكون مطمئنه له .. ولمشاعره نحوي .
ظل حسام يرمقها بتلك النظرة الغريبة .. والتي لمحت فيها نفس الغذاب الذي تعانيه :
- صغيرتي .. أنا على إستعداد من أن أسال عنه حتى تطمئني .. وصدقيني أنا لن ارضى أن ترغمي على شيء أنت لا تودينه .
- ولكن لماذا ستتعب نفسك وأنا سأرفض في النهاية .
احست نور أن جملتها الأخيرة زادت من عذاب حسام الذي تسائل بصوت خفيض متوجس :
- لماذا ؟
هنا وقفت نور بعصبية :
- كفى .. لقد مللت من سماع هذة الكلمة .
- يجب أن تجيبي عليها يا نور .. يجب أن تكوني صادقة مع نفسك .. ما الذي يمنعك من الإرتباط بأي شخص ؟.
ظلت نور صامته وهي تحاول مغالبة دموعها .. فعاد هو يسألها بلطف أكبر .. والألم يعتصر ملامحة .. لابد أنها تسبب لحسام الكثير من المضايقات فهي دائما ما تشركه في معاناتها :
- لما لا تجيبيني يا نور ؟.
تحجر الدمع في عينيها وهي تنظر له بتحدي بعد أن تذكرت شيئا فجأة :
- لما لا تجيبني أنت ؟.
على الإستغراب ملامحه .. فعادت تشرح له وهي تشير بعينيها لذلك الملف الكائن على طاولته :
- أنا على يقين أنك أعلم بالإجابة .. وبسبب رفضي للإرتباط بأي شخص .
إرتبك قليلا .. ولكنه سرعان ما تصنع عدم الفهم وهو يتحدث معها بشكل أكثر هدوئا :
- وما هي الإجابة التي تنتظرينها مني ؟.
- ما هو المرض الذي أعاني منه يا حسام ؟.
تقدم حسام منها وحاول أن يجلسها وهو يطل عليها بعينيه الجذابتين واللتان تلمعان بصفاء روحه :
- لما لا تودين تصديقي .. صغيرتي ؟.
صحيح لما لا تستطيع تصديقه ..
لماذا تشعر في قرارة نفسها بالخوف كلما سألته هذا السؤال ..
وإلى متى ستظل توهم نفسها بصدق كلماته ..
ابتعدت نور منه ولم تستجب لتهدئته .. ثم توجهت نحو باب الخروج بصمت .. فسارع هو يستوقفها :
- إلى أاين .. صغيرتي ؟.
كانت تدرك مدى الخوف الذي يتملكه من أجلها .. فحاولت ما استطاعت حتى تجيبه بشكل طبيعي :
- لا تقلق يا حسام .. سأعود إلى البيت .. وسأحاول مؤقتا أن أنسى كل ما حدث معي اليوم ..
- وهل تعتقدين بأنني أقوى على تركك هكذا ؟.
ابتسمت له وهي تمسح دموعها .. ولكنه يدرك بأنها مجرد إبتسامة مخادعة .. ظل يطوف بعينيه على صفحة وجهها .. ولكنه لم يملك في الأخير سوى الإستسلام لرغبتها .. فراح يبتسم لها هو الآخر .. تلك الإبتسامة الدافئة المفعمة بالحنان والتي تملك القدرة على تبديد سمائها الملبدة بالأحزان :
- حسنا صغيرتي .. لا تجعليني أقلق عليك .. ولتتصلي بي غدا فور استيقاضك .
هزت راسها بالموافقة .. ثم خرجت من العيادة وهي تشعر بأنها تائهه وسط أفكارها ومشاعرها .. هل كانت صادقة مع نفسها في كل تلك الإجابات التي تفسر ذلك السؤال الوحيد ( لماذا ؟؟) .. إنها تدرك في أعماقها أن المانع أبعد من كل تلك الإجابات .. تعلم أن ذلك المانع يتجسد في شخص ما .. إنه نفس الشخص الذي تشعر بمدى حاجتها له الآن .. بشدة إشتياقها إليه .. بدأت الدموع تخنقها وهي تفكر بذلك الحبيب الغائب والذي لا يعلم عنها شيء .. ياترى ماذا سيكون رد فعل سامح عند معرفته لخبر زواجها .. زفرت نور بسخرية بعد أن أفلتت دمعة من عينيها .. كم هي موهومة .. ما الذي يدعوها للتسائل عن مشاعره .. مؤكد لن يؤثر الخبر عليه .. ألم ينصحها هو بالنسيان .. مسحت دمعتها لتعود وتسقط دمعة أخرى .. ولكن متى ستستطيع هي العمل بنصيحته ..
لم تكن نور تدرك شيئا حولها لذلك لم تشعر بذلك الشاب الذي يسير بسيارته بشكل بطيء بجانبها .. كما أنه كان يطلق بوق السيارة محاولا استرعاء انتباهها .. تسلل الخوف إلى قلبها .. وهي تعود وتتفقد دموعها التي جفت تلقائيا جراء التوتر الذي أصابها .. ولكن الشاب ظل صامدا وعاود إطلاق البوق وكان صبره بداء بالنفاذ .. ولكنها توقفت متصلبة عندما سمعته يهتف بإسمها بإلحاح :
- نور .. نور .. هل أصبتي بالصمم ؟.
إلتفت إليه بإستغراب بعد أن ميزت فيه نبرة سامح الساخرة .. فتح لها باب السيارة وهو يدعوها للركوب :
- هيا اركبي .
لم تعرف سبب تغير صلابة الأرض تحتها .. فلقد شعرت بأنها تقف على أرض رخوة .. كما أن إرتعاشة جسدها زادت من عدم توازنها .. فوجدت أن ذلك الكرسي الثابت والكائن بجانب سامح .. أقرب ملجاء لها .. حتى لا يغشى عليها في الطريق العام ..فدخلت الى السياره بإستسلام ..
لم ينطلق سامح بالسيارة مباشرة وعندما حولت نظرها إليه وجدت أنه كان يتفحص ملامحها بإستغراب يتخلله بعض القلق .. أو أنها هكذا توهمت .. أشاحت بوجهها سريعا وهي تحاول تفقد خديها من مدى جفافاهما .. وزاد وجودها بجانبه من سرعة نبض قلبها المتمرد .. حتى بدأ يراودها احساس بأنه يصل مسامع سامح بوضوح .. فاسترقت نظرة إليه محاولة التأكد من ذلك .. فجأة تحدثت عندما وجدته ينحرف بالسيارة إلى طريق مدينة التواهي :
- إلى أين تذهب ؟.
- ما بك خائفة ؟.. سوف أذهب لأحضر كتابا من صديقي .. بعد ذلك ساوصلك إلى البيت عند طريق عودتي .
عادت تحول نظرها نحو النافذة .. ولكن إحساسها بوجوده .. طغى على كل شعور لديها .. بل زاد في هيجان مشاعرها .. إسترعاها هو من شرودها :
- أين كنتي ؟.

أجابت باقتضاب .. ودون أن تنظر إليه :

- في عيادة حسام .
- هل كنت تبكين ؟.
داهمها بسؤاله ذلك .. ولكنها أجابته بنفس الطريقة المقتضبه حتى لا يكشف كذبها :
- لا .
- لا اصدقك .
ظلت صامتة فهي لا تشعر بقابلية لخوض معركة جديدة في حديث سامح الذي يتعمد به إستفزازها .. لم يضف هو شيئا .. وشعرت به يوقف السيارة ويخرج منها .. غاب قليلا ثم عاد وهو يمسك كتابا في يده ..
أخذت نفسا عميا وحاولت أن تطلق معه كل الشحنات السلبية التي يعج صدرها بها .. ولكن دون جدوى .. ولم تستطع سوى أن تدعوا الله أن ينقذها من هذا الموقف .. فهي تدرك أن سامح لن يدعها وشأنها .. بعد أن رآها في مثل هذة الحالة .. فهي لن تخبره بشيء ..
في طريق العودة .. لم تلحظ بأنها كانت تلعب بالإسوارة الملفوفة حول معصمها بتوتر .. محاولة التخفيف من حدة مشاعرها .. ولكنها أدركت ذلك مع نظرة سامح إليها .. وتلك الإبتسامة المغرورة التي اجتاحت وجهه الوسيم .. أسرعت هي بإخفاء الإسوارة تحت كم عبائتها .. وعقدت أناملها فوق حجرها .. وكأنها أعلنت سجنهما على فعلتهما .. لقد كانت تشعر فعلا بأنها سجينة ..
سجينة لقرارات الخال نبيل وتحكمه بمستقبلها .. وضعفها المتوقع أمامه ..
سجينة لمرضها المجهول والذي يصر حسام على إخفاءه عنها ..
سجينة حبها لهذا الشاب الذي يجلس بجابنها بهدوء ..
كم أصبحت شديدة الحساسية هذا اليوم .. فهي تشعر بأنها تفقد كل الخيوط التي تسيطر بها على إنفعالاتها .. فما الداعي الآن لهذا الدمع الذي ينساب من عينيا بصمت ..
- نور .. لماذا تبكين يا حبيب.....
قطع سامح كلمته الأخيرة بسرعة .. ولكنه لم يدرك أنه بذلك يعتصر قلبها الرقيق .. وكأنه يقطع آخر أمل لها في رجوعه إليها ..
للحظة شعرت بأنها لا تستطيع سماع صوته .. ولا تشعر بوجوده .. وكأن المسافة الصغيرة التي تفصل بينهما إتسعت بشكل مفاجئ لتفصل بينهما .. نعم إنهما لا يملكان الحق بحب بعضهما .. فإن لم يكن حبهما قد مات .. فهو يحتضر الآن بين يدي الخال نبيل ..
عاود سامح تساؤله القلق .. وهو يمد يده ويمسح بأنامله دموع عينيها :
- أرجوك يا نور توقفي عن البكاء .. واخبريني عما يزعجك ؟.
أشاحت هي بوجهها عنه بطريقة عصبية .. وتحدثت بصعوبة من خلال نشيجها المفاجئ :
- أوقف السيارة .. يا سامح .
- هل جننت يا نور ؟.. لقد قلت بأنني سأوصلك .
- وأنا لا أريد منك شيئا ..
- أنت تتهربين من سؤالي ؟.
- أنت تعلم بأنني لن أجيبك ؟.
- لماذا ؟.
نظرت إليه بتوسل والدموع تغشى عينيها فتشوش عليها الرؤيه .. والألم يعتصر قلبها الصغير :
- إنك حقا تمعن في تعذيبي .. أنا لا أفهم ما الذي تريده مني .. هل يرضيك أن تتلاعب بمشاعري .. أن أظل سجينة هواك .
نظر إليها بصدق .. وهو يشفق عليها :
- ألم تفهمي بعد يا نور ؟.
لم تكن تجد سببا لبكائها .. ولكنها ظلت تجيبه بكلماتها المهزوزة :
- متى ستفهم أنت بأنك خسرتني .. حتى كمجرد أخت .. متى ستدرك بأنني أستطيع أن أحيا من غيرك .. وأن قلبي مؤكد سيعشق سواك .
صمتت لبرهة وهي تنظر إلى الأسفل بحزن شديد .. ثم عادت تقول له بعد أن أوقف السيارة محاولا استيعاب كلامها الجارح :
- حتى وإن كان ما اقوله كاذبا .. فالقرار لم يعد بيدي الآن ..
لم يكن بيتها يبعد كثيرا .. ففتحت السيارة وكأنها تحاول الهرب منه .. من نظراته الحزينة التي تزيد وجيعة قلبها .. مما سيقرر قوله ردا على حديثها .. لقد تركته يغرق في ذهول .. أصابها هي أيضا جراء ذلك الكلام الذي لم تكن لتفكر يوما بقولها له .. (7)
عرض
عندما عادت نور إلى منزلها .. توجهت مباشرة إلى الحمام لتستحم وتجعل المياه الباردة تخفف من سخونة جسدها جراء حرارة الصيف .. وحرارة مشاعرها المتضاربة .. من ثم لجأت لسريرها الناعم هربا من كل مشاكلها .. حاولت أن تطرد كل الأفكار من رأسها .. وأن تنام بذهن خالي من الهموم ..
كانت نور تشعر بإرهاق شديد بعد كل ذلك التوتر الذي عانت منه خلال يومها .. فلم يستعصي النعاس عليها .. وسرعان ما غرقت في نوم عميق يشوبه الكثير من الأحلام الغير مفهومة ..
لقد رأت نفسها وكأنها عروس في حفل من دون عريس .. وكانت بالحلم تبحث عن عريسها بقلق بين ذلك الكم الهائل من المدعوين .. وبين الجموع لمحت سامح يبتسم لها بحب ثم يدير ظهره .. ويختفي .. ظلت تركض ورائه والدموع تغرق عينيها .. كانت تصرخ به :
- أنا هنا يا سامح .. لا تتركيني وحيدة .. لما لا تراني ؟..
إلى أن وقعت على الأرض بيأس .. أحست بيد تطوق خصرها.. وتوقفها على قدميها .. أمعنت النظر في ذلك الشخص لتجد أنه والدها الحبيب .. كم سعدت برؤيته في حلمها واحتضنته بشوق شديد .. ظل والدها يربت عليها بحنان بالغ دون أن يحدثها بشيء .. من ثم أخذها من يدها إلى حجرة منعزلة .. لتجد أن حسام يقف هناك بانتظارها والحزن يرتسم على ملامحه بوضوح .. تقدمت منه بخوف .. ولا تدري كيف اختفى والدها .. ولكنها كانت مشغولة بذلك السر الذي يخفيه حسام عنها .. أخذ يديها بعطف وكأنه يخشى على أناملها الرقيقة أن تتكسر بين يديه .. ثم قال لها :
- نور .. صغيرتي .. لقد أخفيت عنك هذا طويلا وحان الوقت لكي أخبرك بحقيقة مرضك ..
في تلك اللحظة بالذات .. نسيت نور كل شيء .. نسيت العرس الذي يفتقر للعريس .. المدعوين .. ذلك الحبيب الهارب .. وأباها العائد .. كانت لا تسمع إلا وقع نبض قلبها .. أخبرها حسام وهو ينظر بألم إلى عينيها السوداويين الجميلتين .. وكأنه يشفق عليها قسوة هذه الحياة ولكنه نطق أخيرا :
- نور أنت مصابة بـ .......
كانت نور ترى شفتيه تتحركان لكن دون أن تسمع كلمة واحدة .. كان صوت قلبها يتعالى ويطغى على كل صوت سواه .. وكلما تزايد النبض أصبح أقرب إلى لحن ثم إلى أغنية ..
كانت تلك الأغنية صادرة من هاتفها المحمول .. والذي كان سببا باستيقاظها قبل أن يفصح لها حسام عن حقيقة مرضها بالحلم .. زفرت نور بضيق .. لقد كانت تأمل نسيان كل أحداث أمسها ولكن يبدو أن الأحلام .. لم توافقها الرأي .. أخذت الهاتف بكسل .. وأجابت بصوت ناعس وعينين مغمضتين :
- مرحبا .
- نور .. حبيبتي .. كيف حالك اليوم ؟.
- أنا بخير يا رهف لا تقلقي عليّ .
- هل جد شيء منذ الأمس ؟.
- لا .. ولكني قررت تجاهل الأمر مؤقتا ..
كانت نور تجيبها بخمول .. فقالت لها رهف بهدوء :
- نور هل استيقظت أم أنك تهلوسين ؟.
ابتسمت نور .. وأجابتها بصوت خامل :
- لا أنا مستيقظة ما بك ؟. هل حدث شيء ما معك ؟.
- نعم .. لقد علمت أن النتائج قد ظهرت في الكلية .. وفكرت بأن أخبرك حتى تذهبي لتريها .
هنا قفزت نور من على السرير .. وهي تصرخ :
- حقا .. لما لم تتصلي بي قبل هذا الوقت ؟.
- اهدئي أنا لم أعلم سوى الآن ..
- حسنا .. أنا سأذهب لأراها وسأطمئنك فور وصولي .
أغلقت الصديقتان هاتفيهما والهواجس تتسلل إلى قلبيهما .. أسرعت نور في تحضير نفسها .. ثم خرجت مسرعة تسابق الدرج .. وهي تخبر والدتها بأن النتائج قد ظهرت .. شيعتها حياة بدعوات صادقة بالتوفيق .. وبأن يطمئن الله قلبها ..
ما هي إلا لحظات حتى كانت نور بين مجاميع الطلبة الذين يحاولون تفقد علامتهم .. سرعان ما اندست بينهم .. وبدأت تنقب عن اسمها واسم رهف .. لقد نجت الاثنتان بتقييمات متفاوتة بين الامتياز والجيد جدا والجيد وحتى المقبول .. ففي كليتها كان الطلبة يخافون الفشل ولا ينشدون الامتياز إلا نادرا .. فكل هذا يعتمد على أساتذة الكلية وأساليبهم المتعددة ومزاجيتهم في التصحيح ..
كانت نور فرحة كثيرا .. وحين همت بالاتصال برهف وجدت أن هاتفها يرن :
- مرحبا .. يا رهف ألم تستطيعي الانتظار حتى أتصل بك ؟.
- مؤكد لا .. هيا .. أخبريني ؟.
أجابتها نور باستهتار :
- بماذا ؟.
صرخت رهف مازحة :
- نور .. لا تجعليني أغضب منك .
ضحكت نور بفرح وهي تجيبها .. لقد كانت سعادتها كبيرة جدا لدرجة أنها للحظة نسيت كل همومها :
- حسنا .. حسنا .. لقد نجح كلانا وبتقديرات جيدة جدا .
أطلقت رهف تنهيدة حارة .. وردت عليها وهي تشاركها فرحتها :
- آه .. حمدا لله .. مبروك يا نور .
- مبروك يا رهف ..

يتبع ,,,

👇👇👇


تعليقات