بارت من

رواية ملاك الحب -11

رواية ملاك الحب - غرام

رواية ملاك الحب -11

كانت رحلتهما طويلة جدا .. وقاموا بإجراءات كثيرة في مطار بلدها وكذلك في لندن .. وكانت الفوارق تتجلى بوضوح أمام نور .. فمؤكد أن التعامل كان أسرع وأسهل في لندن .. ولكن رغم كل شيء يظل وطنها غالي على قلبها بكل ما فيه من تناقضات .. فهي منذ الآن تشتاق إليه .. وإلى ذراه الرمال التي تتناثر على أراضيه الطيبة ..
كانت البرودة هي أول أحساس شعرت به في تلك المدينة الكبيرة .. لذلك حسام يحتضن كفيها بين يديه منذ أن كانا في الطائرة حتى يشعرها بالدفء .. وفي طريقهم نحو الفندق بهرتها كل تلك المناظر الجميلة التي تمر أمامها .. كانت مدينة في غاية الرقي والجمال ..
عندما استقر بهما المقام في غرفه الفندق .. أخذ حسام حماما ساخنا .. واتجه مسرعا نحو السرير لينام بعد أن قبلها على جبينها وتمنى لها ليله سعيدة .. أشفقت عليه نور .. فالإرهاق كان بادٍ عليه .. لم تكن تشعر هي بالنعاس بعد .. ففضلت ترتيب بعض الملابس في الدولاب .. بدأت بحقيبة حسام لتفرغها .. وعندما بدأت بنقل أول كميه من ملابسه .. جذبتها تلك الرائحة اللطيفة المنبعثة منهم .. فقربتها من انفها .. لطالما كانت رائحته ذات عبق مميز ..
بعد أن انتهت من إفراغ الأشياء المهمة من الحقائب .. أخذت هي أيضا حماما ساخنا .. وأخرجت تلك الرواية التي كانت تقرأ فيها منذ بدء سفرهما .. لكاتبها المفضل يوسف السباعي .. والتي تحمل اسم ((ابتسامه على شفتيه)) .. شعرت بالبرودة تسري في أوصالها .. بالرغم من تشغيل التدفئة ..
فأخذت نور بطانية وهي تتجه نحو السرير .. تنظر لحسام الغارق في النوم باستغراب .. فلقد كان يستلقي باسترخاء تام بصدره العاري .. وذلك البنطلون القصير .. غطته نور بالبطانية .. واستلقت بجانبه .. وبدأت تقرأ الفصل الأخير من روايتها .. في تلك اللحظة غير حسام من وضعيه نومه .. فاحتضن خصرها بذراعه .. واستقر رأسه فوق صدرها .. شعرت نور بسريان ذلك الدفء اللطيف من جسده .. حبست أنفاسها .. وبدأت نبضاتها بالتسارع .. كانت تدرك استغراق حسام في النوم من ملامحه المسترخية .. وجاهدت للسيطرة على قلبها المجنون .. كي لا يزعجه ذلك الهيجان الذي يقوم به .. بعد فتره ليست بالقصيرة استطاعة تمالك أعصابها .. ولكنها لم تتجرأ على سحب نفسها حتى لا توقظه .. وتابعة قراءه روايتها بهدوء تام ..
بعد دقائق استيقظ حسام مفزوعا .. بسبب نشيجها المكتوم .. كان وجهها غارقا بالدموع .. وتطبق بإحدى يديها على فمها .. كي لا تفلت مزيدا من نشيجها .. بينما كان صدرها يتحرك بعنف ليتناغم مع بكاءها الحاد ..
مسح حسام تلك العبرات الساخنة بكلتا يديه .. وسألها والقلق ينطق في عيونه :
- نور .. ما بك ؟.
هزت نور رأسها بالنفي .. ثم حاولت أن تحدثه .. كان خوفها يزداد .. وهي ترى اللوعة تتزايد بداخله .. وشعرت بالخجل يكتنفها .. بماذا ستخبره الآن .. لكنها رغم ذلك نطقت بما تحس به :
- لقد مات عمار يا حسام .
تعقدت حاجبي حسام بتوتر بالغ .. وكأنه يحاول عصر دماغه ليتذكر عمار .. فتساءل بخوف بعد أن فشل في إنعاش ذاكرته :
- عمار .. عمار من ؟.
أشارت نور لتلك الرواية بين يديها وهي تعاود البكاء رغما عنها :
- بطل الرواية .
للحظه لم يستوعب حسام ما قالته .. ولكنه أطلق تنهيده راحة .. ثم راح يضحك عليها :
- لقد كدتِ أن تتسببين لي بجلطه .. صغيرتي .
وضعت نور يدها المرتجفة على خده وهي تزجره بخوف :
- ربي يحميك يا حسام .. لا تقل مثل هذا الكلام مره أخرى .
ابتسم لها حسام .. ثم اختطف تلك الرواية ليضعها جانبا .. وعاود نومه بعد أن احتضنها بحنان .. وراح يتخلل شعرها الطويل بأنامله الدافئة :
- هيا .. كفاك بكاءً .. وسهرا .. ينتظرنا يوم حافل بالغد .
راح قلبها ينبض من جديد .. لقربها منه .. كان حسام يتصرف بتلقائية شديدة :
- يجب أن أتأكد من نسبه دمائك .
- لما ؟.
- لان بروده جسدك هذه غير طبيعيه .
كان حسام محقا .. فلقد كانت نور بعكسه تمامه سريعا ما تتجمد .. ولكنها الآن تجد سببا آخرا غير جو لندن الشتوي .. يجعل البرودة تسري بداخلها .. لكن حسام لم يشعرها بالغرابة أبدا .. كما أنها سمعت نبضا يتسابق مع نبضات قلبها .. في حنايا ذلك الصدر العريض والذي يطوقها برفق ..
استيقظ حسام بالصباح ليجدها تجلس أمام المرآة وتسرح شعرها .. لم يشعر بها عندما أفاقت .. ظل مستلقيا بهدوء يتابع حركات المشط وتلك الأنامل الناعمة بين خصلات شعرها الأسود الطويل .. أحاسيس كثيرة تجتاحه بعنف عندما تقع عينيه عليها .. لطالما كانت أجمل فتاه .. فهي جميلة في كل شيء .. في أحاسيسها المرهفة .. في لطف تعاملها مع الآخرين .. وفي تلك البراءة التي تلون تقاسيم وجهها الجميل .. لطالما أحبها .. وأعجب بفكرها الواعي منذ صغرها .. ولكنه كان بارعا بإخفاء كل تلك المشاعر الفياضة .. التي يختزنها لهذه المحبوبة الرائعة .. ولطالما كانت سعادتها هي أقصى أمنياته .. فهو يشعر بالتمزق عندما يرى دمعه في عينيها ..
همت نور بعقص شعرها خلف رأسها بعد انتهاءها من تسريحه .. فاستوقفها حسام بصوته الدافئ والذي لا يزال النعاس مسيطرا عليه :
- اتركيه مفتوحا .
انتفضت نور بعد أن باغثها صوته .. ثم أفلتت خصلات شعرها .. وحولت نظرها نحوه مبتسمة .. كان مستلقيا على بطنه بخمول .. فراحت تشاكسه :
- هل انتقلت لك عدوى الكسل ؟.
لم يتجاوب حسام مع شقاوتها .. كان ينظر لها بتلك الطريقة الحالمة والتي تهز كيانها.. أشار لها كي تجلس بجانبه .. فاقتربت منه بخضوع .. عدل من جلسته وراح يتخلل خصلاتها الناعمة بأنامله .. ثم استنشق ذلك العبير المنبعث منها .. كان سعيدا بتلك الحمرة التي بدأت تتسلل إلى وجنتيها :
- هل تتذكرين كيف كان شعرك في الصغر ؟.
لم تستطع نور كتمان ابتسامتها المرحة وهي تهز رأسها .. أردف حسام وابتسامه كبيره تغزو شفتيه :
- لقد كنت اسمع صوتك من ركن الحارة .. عندما كانت الخالة حياة تسرحه لك .
- نعم .. معك حق .. كان تسريحه هو الجحيم بعينه .
- لذلك كنتُ أخذك للحلاق كي يقصه لك مثل الأولاد .
- نعم .. أتذكر .. وكنتَ تصرف وقتا طويلا لإقناع أمي بذلك .
تشاركا الضحك .. ثم فجأة عاودت حسام نظراته المبهمة .. والتي تحرك بداخل نور أحاسيس عميقة لم تختبرها إلا بسبب هاتين العينين اللتان تكتنفان أسرارا تجهلها :
- أنا أكره أي شيء يسبب لك العذاب صغيرتي .
لاذت نور بالصمت .. فهنالك أحساس قوي بداخلها يشعرها بأن حسام يعني ما يقوله :
- انظري كيف صرتي الآن .. آية في الجمال .
لم تستطع نور الرد عليه بنفس تلقائيته .. وفضلت التركيز والسيطرة على أنفاسها المتلاحقة ..
ابتسم حسام عند رؤيتها تغالب خجلها .. ثم احتضن وجهها بين يديه .. وطبع قبلته الدافئة على جبينها .. ثم نهض بسرعة متجها نحو الحمام .. ليتركها تعاني التوتر وحدها .. وضعت نور يدها على صدرها .. وروعها ذلك الصوت النابض بعنف بين ضلوعها .. وكأنه يحاول تكسير ضلوعها ..
كيف يستطيع حسام بلمسه .. أو قبله بريئة .. أن يدفع كل حواسها نحو الجنون .. إنه يخلق بداخلها أحاسيس اكبر منها .. هل يتعمد فعل ذلك .. هل يحاول إشعارها بمشاعر أخرى تتجاوز الأخوة .. أم أنها تبالغ في ردود أفعالها .. شعرت بالضياع للحظة .. فهي لم تعد تفهم نفسها .. كما أنها ترفض التعلق بخيوط وهميه .. والقيام بترجمة خاطئة لاهتمام حسام المعتاد ..

في الخارج .. 

بدأ حسام يريها أماكن غاية في الجمال .. كانت تشعر بأنه احد أبناء تلك المدينة الراقية في حواريها .. والخلابة في طبيعتها .. لكن سرعان ما خنقها القلق عندما خطت أول خطوه في ذلك المشفى النظيف .. والذي تم تحديد موعد مع طبيب مختص بحالات الخُدار .. في غرفه الانتظار كانت تجلس شاردة تفكر باللاشيء .. وراح نبضها يعد الثواني معها .. عندما شعرت بكف دافئة تطوق يديها المتجمدتين والمتشابكتين فوق فخديها .. ابتسم لها حسام تلك الابتسامة الجذابة والمهدئة .. لم يحدثها بشيء ولكن حركة أنامله البطيئة فوق أناملها زادتها اضطرابا .. ولكنه ذلك الاضطراب اللذيذ والذي يشعرها بحرارة خجل تسري في عروقها لتشتعل في وجنتيها ملوحة بحيائها ..
خرجت تلك الممرضة الجميلة .. لتنادي باسم نور بطريقه ملتوية .. فتبعاها نحو غرفه الطبيب .. بث ذلك الوجه الأشيب البشوش الطمأنينة إلى صدرها .. وقبل أن يحدثها لمحت ابتسامه حنون بين شفتيها .. وكأنه والد حنون أكثر منه طبيبا .. استقبلهما بترحيب حار .. وكاد يحتضن حسام من شده فرحته .. عرفهما حسام ببعض .. وعلمت أنه كان احد أساتذة حسام في الجامعة .. شعرت نور بسعادة الطبيب عندما وجدها تتحدث اللغة الانجليزية .. فتكونت بينهما علاقة أبويه مثلما وصفته عند دخولها ..
توالت الأيام وهي غارقة في تلك الاختبارات والتحاليل .. والتي كان ذلك الحنان الذي يفيض من طبيبها يخفف عليها حدة مشاعرها .. كما أن تواجد حسام يشعرها بالأمان ..
أكد الطبيب ديفيد إصابة نور بمرض الخُدار .. شعرت نور بالكآبة عند سماعها ذلك الخبر الذي كانت تمني نفسها بتكذيب طبيبها الأشيب الحنون له .. ولكنها حمدت الله أخيرا على ذلك الاختبار الصعب ..
ذات مساء حدثها حسام عن ذلك العرض الذي تلقاه من الطبيب ديفيد بالنيابة عن إدارة المشفى .. لكي يعمل لديهم .. رغم اشتياق نور المتزايد لبلدها وأحبتها في اليمن .. إلا أن فكره الاستقرار في لندن راقتها .. خصوصا بعد أن أغلقت في وجهها كل أبواب الشك .. وصار مرضها حقيقة .. تجبر على التعايش معها .. كما أنها شعرت برغبة حسام للاستقرار في لندن .. ظل أياما شاردا قبل أن يحدثها .. مما جعلها تعرف صفات جديدة فيه .. فهو يصبح كثير الصمت .. عندما يشغله أمر ما .. تكفل هو بإبلاغ الأهل في اليمن بذلك القرار المفاجئ .. وطالب ببعث أوراق نور الجامعية فلقد أصر على إكمال داستها في جامعه لندن .. كما أن الخال صلاح قدم لهما مساعدات كثيرة .. وأرسل لحسام مالا إضافيا فوق ثمن سيارة حسام التي باعها له كي يشتري غيرها هنا ..
وبعد شهر تقريبا .. من وصولهما للندن صارا يستقران في بيت لطيف .. يطل على حديقة غناء .. تزينها أنواع الورود .. وكان هذا أهم الأسباب التي جعلت نور تتعلق بذلك البيت الأبيض الخلاب ..
كان يوم انتقالهما الأول للبيت بمثابة التعذيب لحسام .. فنور لم يرضها أبدا ترتيب أثاث البيت .. وغيرت في كثير من الحجرات .. ولكنه كان كذلك يوما ممتعا رغم ازدحامه بالمهام ..
----------------------
كانت الأيام تمر بروتين ممتع .. بدأت نور تألف ذلك الجو الأسري الذي يجمعها مع حسام .. صارت ربه منزل ممتازة .. بعد أن جعلت من حسام حقل لتجاربها المطبخية .. واستطاعت التوفيق بين مهام منزلها .. ودراستها الجامعية في ذلك البلد الغريب عنها ..
ذات صباح يوم سبت وهو يوم الإجازة الأسبوعية .. خرج حسام ليصلح الخلل في سيارته الجديدة .. وجلست نور تتفقد بريدها الإلكتروني .. وجدت عدة رسائل من صديقتها رهف .. كانت كل رسالة تصف شوق ولوعه لفراق صديقه الطفولة ورفيقه الصبا .. كانت نور تقرأ الرسائل ودموعها تتسابق على خديها .. فهي تشعر بنار تشتعل بصدرها عند تذكرها لرهف .. ولا تقوى على ترجمه ذلك الكم من الحب الذي تكنه لها .. فهي تشتاق لمجرد النظر إليها .. للحديث معها .. ولتلك الهالة المرحة التي تغمر بها كل من حولها ..
مسحت نور دموعها الحارة .. وراحت تطبع لصديقتها اسطر تنبض خلالها دقات شوقها :
" كلمات كثيرة ادخرتها .. في قلبي .. في وجداني ..
لأقولها لك وأنت ماثلة أمامي
حقيقة .. لا حلم .. أن تكوني أمامي
ولكن كلماتي بدت تافهة لا معنى لها
وقد كانت كبيره المعاني
نعم .. صديقه عمري
حلمت كثيرا بتقطع المسافات الطويلة
التي تفصل حلمي عن حلمك
حلمت بلقاء الأماني
ولكن .. كثيرا ما خدعتني أحلامي
نعم .. توأم روحي
ها أنا أراك أمامي حقيق لا حلم
ولكنه لقاء قصير .. فتلك المسافات تهيج خلف لقائي بك
لتفتك بحلم اللقاء
ولكني لا أنسى أبدا أن المسافات مهما كانت طوال
فهي قصيرة ما دامت هناك ذكرى
صديقتي .. لا تحزني لفراقي فهناك أمل .. وهناك لقاء
صديقتي .. حزنك يرقد أيضا في صدري
ولكني انظر إليه مترقبة الفرح
الم اقل لك أن وسط الغيوم دائما هنالك شعاع من نور .."
أرسلت نور كلماتها القليلة .. والمفعمة بالألم .. وراحت تمسح دموعها قبل أن تتوجه نحو النافذة لتشاهد حسام .. لم تكن تود أن تريه مزيدا من دموعها فلطالما رأت العذاب في عينه عند بكائها ..
كان حسام يرتدي بنطالا جنزيا قصيرا .. مع قميص رياضي .. ويلف حول السيارة ليتفقدها .. تسللت ابتسامه لطيفه إلى شفتي نور .. كان حسام في غاية الجاذبية رغم بساطه شكله .. وقفت تستمع له مرهفه الأحاسيس .. وهو يدندن بأغنية لم تسمعها من قبل .. كانت كلماتها تصل أذانها بلطف عبر ذلك الصوت الحنون الخافت ..
ما هي إلا لحظات .. حتى توقفت سيارة صغيره ذات لون وردي فاقع .. خرجت منها فتاه شقراء غربيه الملامح .. كانت جميلة ولكنه جمال بارد بعض الشيء .. أو هكذا رأتها نور ..
اندفعت الشابة الأجنبية نحو حسام .. وكأنها تهم باحتضانه .. شعرت نور في تلك اللحظة وكأن ملايين من الإبر تغرز في جميع أنحاء جسدها .. حتى أنها نسيت كيف تتنفس .. هل حقا ستجرؤ على احتضانه .. لكن الفتاه تراجعت ما أن أصبحت أمامه .. سلمت على حسام وبقت أناملهما متشابكة لفترة .. لم يخفى على نور لهفه تلك الشقراء .. ولمعة العشق في عينيها الزرقاوات .. سحب حسام يده بأدب .. ولكنه كان يبتسم لها بلطف أيضا .. كانت السعادة بادية على ملامحه هو الآخر .. كانا يتحدثان ببساطه .. وكأنهما يعرفان بعض دهرا من الزمن ..
تفجرت آلاف المشاعر والأحاسيس في كيان نور .. لم تعد تدرك شيئا .. ولم تجد تسميه لتلك الحرارة التي اجتاحت جسدها لتستقر في صدرها .. ولم تشعر بتعقد حاجبيها إلى عندما نظر حسام نحو البيت ولمحها ...
(13)
الحب المستحيل
شعرت نور بالارتباك أمام تلك العيون المبتسمة لها .. والتي تدعوها للمجيء .. أخذت حجابها المعلق بجانب باب الخروج .. ولفته بأنامل مرتعشة حول رأسها .. ما الذي يحدث لي .. بدأت تحدث نفسها بشرود قبل أن تفتح الباب .. وتحاول إخماد تلك النار التي تتأجج بداخلها .. هل مجرد رؤية حسام برفقه فتاه تسبب لي كل هذا ال .. هذا ال .. أغمضت نور عينيها بضيق .. وهي لا تجد وصفا لمشاعرها .. ماذا دهاها .. مؤكد أنها رأته من قبل يتحدث مع فتيات .. فهو طبيب .. وعلاقاته يجب أن تكون كثيرة .. ولكنها لم تشعر بمثل هذا الإحساس من قبل ..
لما ؟.. ربما لأنه ينظر إلى هذه الفتاه بطريقه مختلفة .. بالطبع لم تكن نفس تلك النظرة الخاصة بها .. ولكنها نظرة تحمل عطفا بين طياتها ..
ظلت التساؤلات تغزو تفكيرها دون رحمه .. وهي تتقدم بخطوات مترددة نحوهما .. لم تنتبه لها الشابة الانجليزية .. وكأنها لا ترى سوى حسام .. مما جعلها تحس بحزن غريب يلفها في تلك اللحظة بعد أن أجزمت بإحساس الأنثى .. عشق هذه الفتاه لحسام .. كانت عينيها تلمعان بفرحه صادقه .. وعندما اقتربت نور أكثر منهما .. سمعت حديثها الملهوف :
- من المؤكد أنني أعيش حلما جميلا يا حسام .. عندما أخبرتني إحدى الممرضات في المشفى بعودتك .. كدت أن أكذبها ..
ضحك حسام ورد عليها مبررا بحياء :
- أنا حقا خجل منك يا ماري .. كان ينبغي أن أُعلمك بوجودي منذ اللحظة التي دخلت فيها أجواء لندن .
احمرت وجنتاها خجلا وتقبلت تبريره برحابه صدر :
- لا عليك .. فها أنا قد أتيت .
ثم أردفت ضاحكه :
- حتى أنني لم أرى مقياس سرعة السيارة في طريقي إلى هنا .
كانت الفتاه تتحدث العربية بطلاقه شديدة .. بل إنها تتكلم باللهجة العدنية .. لم تكن نور لتشك بأنها يمنيه لولا ملامحها الغربية .. مزيدا من التساؤلات المحيرة راحت تجول في خاطرها .. ثم أحست بان معدتها توشك أن تقلب .. لم تعد تقوى على تحمل تلك الفرحة التي تشع من تلك الشقراء .. ذلك الحريق الذي ينتشر في عروقها .. توقفت على بعد خطوات .. شعور مؤلم بالغربة اجتاحها بعنف .. وفكرت لبرهة بالهرب إلى البيت .. نعم فهي تحس وكأنها تنتهك لحظة خاصة بهما .. عضت على شفتها السفلى كي تمنع تلك العبرات التي بدأت تتلألأ في عينيها .. ومن شده اضطرابها لم تكن ترى عيون حسام المركزة عليها منذ أن خرجت من البيت .. لم تعي نظرته القلقة عليها إلا بعد أن أدارت الفتاه رأسها تتبع عيني حسام الشاردة عنها ..
ومع علامات الاستفهام التي راحت تلوح في العيون الزرقاء شعرت نور كمن يوقظها من غفوة .. وأسرعت الخطى نحو حسام .. وكأنها ترمي عليه مسؤولية الإجابة .
علت الدهشة ملامح ماري وكادت أن تفغر فاهها .. عندما انحنى حسام قليلا وراح يحدث نور بذلك الرفق المعتاد وهو يمسك بأناملها الرقيقة :
- ما بك صغيرتي ؟.
هزت نور رأسها مع تلك الابتسامة الخجولة .. لابد أن كل ما تحسه يتجلى بوضوح على صفحه وجهها .. وحتى أن استطاعت إخفاء مشاعرها .. مؤكد أن عيني حسام قادرة على الإحساس بها .. تحدثت مبرره :
- لقد شعرت ببعض الصداع .. اعتذر على مقاطعتكما .
لم تنطق ماري بشيء .. وتكفل حسام بالرد حينما عرفهما على بعض ونبره السرور ترن في كلماته :
- نور هذه زميله دراستي في لندن ماري .
ثم أردف وهو يحول نظره نحو زميلته التي تحولت حيرتها إلى ما يشبه الصدمة بعد أن انتهى من جملته :
- ماري .. أعرفك بزوجتي نور .
خفضت نور عينيها بحياء تحت تلك النظرات الزرقاء المتفحصة .. كانت تشعر بارتباك ماري التي انطفأ بريق عينيها ولفها صمت كئيب .. بعد ثواني تساءلت باستغراب :
- هل هي صغيرتك نور ؟.
رد عليها حسام مبتسما .. وهو يضغط على أنامل نور التي تسكن بين أنامله :
- نعم .
- لكن .. لكن ..
خشيت نور على الفتاه التي شحب لونها الأبيض الثلجي متحولا إلى الأصفر .. لم تجد ماري كلاما تكمل به جملتها .. فأنقذتها من تلك المعاناة :
- لابد انك تخيلتني طفله صغيره .
هزت ماري رأسها بالإيجاب .. وكان هذه الفتاه العربية الجميلة تنطق بما لم تستطع التعبير عنه هي .. عادت نور تمازحها بلطف :
- هذه عاده حسام في الحديث عني .. ولستِ الوحيدة التي وصلت إلى مثل هذا الاستنتاج .
كانت كلمات نور اللطيفة بمثابة يد حنون تربت على ماري .. ابتلعت ريقها بصعوبة .. وراحت تنظر لحسام الذي خبت ابتسامته وهو يرى اضطرابها :
- مبروك يا حسام .. لم اعرف سوى الآن .. اعذرني .
- لم يمر على زواجنا سوى بضعه أشهر .
أزاحت ماري عن وجهها إحدى تلك الخصلات الشقراء والتي حركتها نسمات خفيفة .. ونظرت إلى نور مره أخرى :
- مبروك مدام نور .. مؤكد انك إنسانه رائعة ليوفقك الله بزوج مثل حسام .
كانت كلماتها الحزينة بحدة خنجر يغرس في صدر نور .. إنها تشعر الآن بقوه تلك العلاقة التي تربطهما مما يزيد من الحرقة بداخلها .. ولكنها في نفس الوقت ترثي حال هذه الشابة المصدومة .. فهي لم تتعود رؤية شخصا يعاني الألم .. فردت بتهذيب بعد أن اختلست نظره خجولة نحو حسام :
- شكرا لك .
تلفتت ماري حولها باضطراب وكأنها تبحث عن منفذ للهرب في ساحة البيت الجميلة .. والمليئة بالورود الطبيعية .. ثم حدثتهما أخيرا وهي تحاول وضع ابتسامه لطيفه على شفتيها :
- يجب أن اذهب الآن .
استوقفها حسام وشعور بالقلق ينموا بداخله :
- لما لا تدخلين قليلا .. حتى تتعرف عليك نور .
أيدته نور بسرعة :

- نعم .. فأنت لم تمضي الكثير هنا .

ردت ماري بحياء على كلماتها اللطيفة .. ولكن كان يجب أن تتركهما الآن .. خصوصا أن حسام لا يزال يشبك أنامله بين أنامل زوجته الرقيقة .. يجب أن ترحل قبل أن تفضحها عبراتها الحارة .. والتي تستغرب قدرتها على حبسها إلى الآن .. لذلك اعتذرت محاوله تحاشى عيني حسام :
- أنا حقا على عجله من أمري .. وإن شاء الله سيأتي يوم أتعرف به على نور .
رد عليها الزوجان في آن واحد وبنفس النبرة الرءوفة :
- إن شاء الله .
دخل حسام برفقه نور إلى المنزل .. بعد أن ودعا ماري التي ركبت سيارتها الوردية الجميلة واختفت من أمامهما بسرعة ..
لم تكن تلك المعلومات التي عرفتها نور عن ماري خلال الحديث معها بالكافية .. بل أن مزيدا من التساؤلات راحت تحتشد بفكرها .. هنالك حقائق مؤكده لها ولا تحتاج الاستفسار عنها .. وأهمها أن ماري مغرمه بحسام .. مؤكد أنها كذلك .. شعرت نور بيد قاسيه تعتصر قلبها .. وراحت تختلس النظر نحو حسام الذي بدى طبيعيا .. يا ترى هل يكن لها هو نفس المشاعر .. فنظرته كانت حنونة .. مثلما هو حسام دائما ..
دخلت نور إلى المطبخ لتعد طعام الغداء بصمت مطبق بينما الحوار كان يحتد بداخلها .. لم تنتبه حتى لتلك النظرات المختلسة التي كان حسام يجس حالتها بها .. وعادت تتساءل .. عندما ارتسمت صوره ماري بعينيها الزرقاوات وشعرها الشقر وبشرتها الثلجية أمام عينيها .. كيف تستطيع التحدث باللهجة اليمنية والعدنية أيضا ؟.. كما أنها قالت إن شاء الله .. هل هي مسلمه ؟.. أم أن لحسام دخل في ذلك ؟.. هل هذا جواب يخبرها بقوه علاقتهما ببعض ؟..
شعرت بضيق صدرها .. وأخذت نفسا عميقا لتطلقه محاوله عدم التفكير بشيء .. دون جدوى .. عندما أوشكت على الانتهاء شعرت بشخص يقف خلفها .. انتفضت قليلا فهي لم تشعر بقدومه نحوها .. طل حسام برأسه من فوق كتفها ليلقي نظره على الطعام الذي شارف على النضج .. وتساءل بلهجة مرحه :
- ما هي الأخبار أيتها الطاهية نور ؟.
عادت تلك الحالة الهستيرية لقلبها وراح نبضه المجنون يتزايد .. وللحظه تبخرت كل الأفكار من رأسها .. لم تعد تشعر إلا بهذا الجسد الطويل الواقف خلفها وهذا الوجه الأسمر الجذاب والذي يكاد يلتصق بخدها .. التفتت إليه مبتسمة .. ومحاوله تهدئه أنفاسها الثائرة .. استغربت تلك السعادة التي تلمع في عينيه وهو يرمقها .. وقبل أن ترد على سؤاله خبت ابتسامتها وحلت محلها تعقيده خفيفة لحواجبها تترجم بها ذلك الاستنتاج الطارئ .. فمؤكد أن حسام سعيد لرؤية ماري .. مرت سحابه حزن على وجهها البريء .. كانت تكره هذه المشاعر الغريبة عنها .. تشعر بأنها تنتزعها من عالم لطيف كانت تحيى فيه مع حسام .. لقد أصبحت الآن تحس بالضياع .. أشياء كثيرة تجهلها .. بل وتخشى معرفتها بنفس الوقت ..
شعرت بأنامل دافئة تداعب خدها .. واسترعاها حسام من ذلك الشرود الكئيب بصوته العميق :
- نور .. هل ما زلتي تشعرين بالصداع ؟.
نظرته الحنونة والمليئة بالقلق .. جعلتها تخجل من تصرفها .. وطمأنته وهي تتحدث بحماستها المعهودة :
- لا .. انه يخف مع الوقت .
ظل حسام يتابع خطواتها في المطبخ .. وعندما شعرت بأنه لم يقتنع .. عادت تمازحه وهي تلتف خلفه وتدفعه نحو مخرج ذلك المطبخ النظيف والمطل على الصالة :
- هيا فلتخرج الآن كي لا تعرف أسرار الأكلات التي أعدها ..
ضحك حسام .. وأطاع أوامرها لكنه جلس على كرسي أمام تلك الطاولة التي تفصل بين المطبخ والصالة .. شعرت ببعض الارتياح لتواجد حسام بجانبها .. ولرؤيتها تلك النظرة الخاصة بها .. وكأنه يحميها من كل إحساس سيئ قد تشعر به ..
سألته بحياء شيئا مختلفا عما كانت تفكر فيه :
- حسام ..
- نعم صغيرتي .
- ما هي تلك الأغنية التي كنت تدندن بها وأنت تصلح سيارتك .
لم تسمع رده .. وطال الصمت .. فالتفتت لتجده ما يزال يطالعها بتلك النظرة الدافئة والتي تبعث بالحرارة إلى صدرها لتترك قلبها ينبض بجنون .. كانت ترتسم على شفتيه ابتسامه بها شيء من الحزن .. أو أنها لم تعد تستطيع تفسير ما يدور حلوها اليوم .. ولكنه تحدث مع التفاتتها :
- إنها أغنيه لكاظم .. واسمها الحب المستحيل .
أردف بعد ذلك بمرح :
- هل أعجبتك ؟.
- كثيرا .
عاد الصمت يحلق فوق رأسيهما .. ثم تساءل حسام ببساطه .. وهو يدخل للمطبخ مجددا ليساعدها في نقل الأطباق إلى مائدة الطعام :
- متى تنوين إخباري ؟.
تساءلت نور بسرعة وكأنها تنفي تهمه عن نفسها :
- بماذا ؟.
- بما يشغل تفكيرك .
نظرت له نور بمرح وشاغبته قائله :
- أنت تشغل تفكيري .
شاع السرور في ملامح حسام .. ورد عليها بنفس طريقتها :
- حقا .. لابد أن تفكرك محظوظ لأني اشغله .
ضحكت نور رغما عنها .. وضربة كتفه بخفه :
- أيها المغرور .
كانت ترى بوضوح هذه الفرحة المتراقصة بين عينيه .. والتي زادتها حيره .. راحا يتناولان طعامهما .. ولم تستطع هي الاحتفاظ بتساؤلاتها مطولا :
- حسام .. هل لي أن أسألك سؤالا ؟.
ابتسم لها وكأنه كان يتوقع استسلامها :
- اسألي .
- كيف تستطيع ماري التحدث بالعربية .. بل باللهجة العدنية .. هل علمتها أنت ؟.
- لا لم اعلمها فهي فتاه يمنيه .
- وكيف ذلك ؟.
ضحك حسام لتساؤلاتها .. وبدأ يحدثها بمرح وهو مستمع بالحيرة التي تطل من عينيها السوداويين الجميلتين :
- نور .. كيف تكون الفتاه يمنيه برأيك ؟.. يأتي شاب يمني ويتزوج من فتاه وعندما يرزق بالأطفال يصبحون يمنيين .
قلبت نور عيونها تسخر من حديثه الموجه للأطفال .. وحاولت التغلب على ابتسامتها :
- أنا اعرف هذا .
قاطعها مشاغبا :
- إذا لماذا تسألين ؟.
نهرته نور وهي تضحك :
- حسام .. دعني أفهمك قصدي .
- حسنا فلتفهميني .
- كيف تكون يمنيه وهي تشبه الأجنبيات .
- آه .. حسنا .. ماري أباها من اليمن .. ووالدتها من لندن .
أردفت نور وهي تهز رأسها :
- لابد أنها تشبه أمها إذا .
أشار لها حسام برأسه إيجابا وهو يمضغ بعض الطعام الذي لم تتناول نور منه الكثير .. وعادت تتساءل :
- هل هي مسلمه ؟.
- نعم .. هي ووالدتها أيضا .
- لكنها لا ترتدي الحجاب .
قلب حسام شفتيه ببساطه :
- مثل كثير من المسلمات والغير محجبات .
صمتت نور .. فأردف هو مبررا :
- إن ماري خلقت في لندن .. وهي فتاه في غاية الأخلاق .. والرقي .. تلتزم بكثير من التقاليد الإسلامية .. بدافع منها ولحبها للإسلام .. لذلك والدها يترك لها حرية القرار في شتى الأمور ومن بينهم مسألة الحجاب .
- لابد انك تعرف الكثير عنها .
شعرت نور بالندم بعد أن نطقت بجملتها الأخيرة .. مؤكد أن نبرتها الباردة ضايقت حسام .. ولكن على العكس وجدته يبتسم لها بمرح اكبر .. وكأنه لا يحس بهذا الغضب الذي يتملكها عندنا يتحدث عن ماري :

يتبع ,,,

👇👇👇


تعليقات